"أوربة تركيا":

حدود تأثر أنقرة بالنموذج الأوروبي

19 August 2015


إعداد: باسم راشد

تسعى تركيا بشكل حثيث للانضمام للاتحاد الأوروبي؛ حيث تقدمت بطلب لعضوية الجمعية الأوروبية في عام 1959 وقُبلت فيها عام 1963 بتوقيع اتفاقية أنقرة، ثم تقدمت بطلب لعضوية الاتحاد في عام 1987 فقبل الاتحاد ترشيحها عام 1999. ومنذ ذلك الحين تعمل تركيا على تحديث مؤسساتها وسياساتها طبقاً للنموذج الأوروبي، بما يسهِّل من انضمامها للاتحاد.

ورغم أن مفهوم "الأوربة" أي إضفاء الطابع الأوروبي The Europeanization مازال مُتنازعاً عليه، إلا أنه يمكن رصد بعض العناصر الأساسية لهذا المفهوم، والتي تجعل من الدولة أوروبية بالمعنى المعروف؛ وتتمثل تلك العناصر في عمليات بناء المؤسسات، وإضفاء الطابع المؤسسي على القواعد والإجراءات والنماذج السياسية الرسمية وغير الرسمية، وأساليب إنجاز المهام، والالتزام بالمعتقدات والمعايير التي تم توحيدها في صنع السياسات العامة في الاتحاد الأوروبي.

وفي هذا الإطار، يأتي كتاب: "أوربة تركيا: على مستوى الدولة والسياسات"، والذي شارك في إعداده عدد من الكُتَّاب والخبراء، وحرّره كل من "علي تكين" Ali Tekin الذي شغل منصب أستاذ ونائب عميد في جامعة يشار التركية، و"آيلن جوني" Aylin Güney أستاذ العلاقات الدولية في جامعة يشار. ويتناول هذا الكتاب مظاهر سيادة النموذج الأوروبي على مستوى مؤسسات الدولة التركية الرسمية وحتى على مستوى السياسات التي يتم اتخاذها من جانب الحكومات، في إطار سعي أنقرة للانضمام للاتحاد الأوروبي.

تأثير النموذج الأوروبي على "المؤسسات" التركية

يستعرض الكتاب تأثير النموذج الأوروبي على البناء المؤسسي للنظام السياسي التركي من خلال عدة مظاهر، يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:

1- عمليات الإصلاح الدستوري: والتي بدأت بالتغيير التدريجي للدستور الذي وضعه العسكريون في عام 1982، والذي كان يتميز بكونه دستوراً غير ديمقراطي وسلطوي وغير ممثل لفئات الشعب التركي. ومن ثم عكست مواد ذلك الدستور الأفكار والمعتقدات السلطوية غير الليبرالية لواضعيه، إلا أن هذا الدستور حدثت عليه بعض التعديلات في عام 1995 كانت ناتجة عن متغيرات داخلية تمثلت في المفاوضات التي استمرت لعامين بين الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان التركي، ومتغيرات خارجية تحددت في محاولة تسهيل التقارب مع الاتحاد الأوروبي بعد رفضه قبول عضوية تركيا في عام 1989، لكونها "غير مستعدة لذلك لأسباب سياسية واقتصادية".

وقد مرّت تركيا بمرحلة أخرى من الإصلاحات الدستورية بين عامي 1999- 2006 تحت مشروطية الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد قبولها كدولة مُرشحة للانضمام للاتحاد. وفي هذا الصدد حدثت ثلاثة تعديلات مهمة على التوالي، وذلك في أعوام 1999 و2001 و2004 والتي كانت جميعها مدفوعة بالرغبة في استيفاء معايير كوبنهاجن التي بناءً عليها - بجانب عوامل أخرى - يتم قبول الدولة عضواً بالاتحاد الأوروبي. لكن المميز في تلك الفترة أن تلك التعديلات لم تتم فقط من أجل تحقيق هذا الهدف، بقدر ما كانت إيماناً داخلياً من جانب المؤسسة التشريعية التركية بضرورة عمل إصلاحات دستورية تُرسخ للحريات السياسية والنمو الاقتصادي وفصل السلطات والصلاحيات.

2- "أوربة" المؤسسة التنفيذية: تم اتخاذ العديد من الخطوات في هذا الصدد خاصةً بعد ترشيح تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، ومن أهمها إنشاء لجنة الانسجام والتنسيق الداخلي (IKUK) والمسؤولة عن مراجعة المقترحات التي يتم تقديمها من جانب مؤسسات الدولة أو المؤسسات غير الحكومية لتحقيق التجانس في التشريع التركي.

وكان من أهم الخطوات التي تم اتخاذها لتعميق مظاهر النموذج الأوروبي داخل المؤسسات التنفيذية للدولة هو إنشاء وزارة شؤون الاتحاد الأوروبي في تركيا عام 2000، بهدف تنسيق التجانس في العمل بين جميع الوزارات المختلفة والوكالات العامة، وتقديم تقاريرها وأبحاثها للجان المسؤولة عن إعداد تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى جانب متابعة تنفيذ القرارات والسياسات.

وفي عام 2003 تم إنشاء مجموعة مراقبة الإصلاح ومجموعة الاتصالات في الاتحاد الأوروبي في سياق توقعات تركيا بالحصول على تقييم إيجابي لبداية مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي في نهاية عام 2004، وقد ضمت مجموعة مراقبة الإصلاح عدد من الوزراء تقع مسؤولياتهم الأساسية تحت مظلة معايير كوبنهاجن السياسية ومنهم وزراء العدل وشؤون الاتحاد الأوروبي والداخلية والخارجية.

وقد ساهمت تلك اللجنة في تقديم دعم سياسي عالي المستوى للإصلاحات التي تتم، فضلاً عن دورها في مراقبة تنفيذها. أما مجموعة الاتصالات مع الاتحاد الأوروبي فكانت مسؤوليتها تنحصر في شرح وتوضيح الإصلاحات التي تقوم بها تركيا للسياسيين الأوروبيين ومسؤولي المؤسسات الأوروبية وكذلك العامة.

3- "أوربة" البرلمان التركي: يظهر ذلك بشكل جليّ في فترتين رئيسيتين؛ الأولى من عام 1999 إلى عام 2005، والثانية من عام 2006 إلى عام 2010، ثم فترة ثالثة يمكن احتساب بدايتها منذ حصول "حزب العدالة والتنمية" على الأغلبية البرلمانية في انتخابات عام 2011 والتي لم تشهد فعلياً خطوات أخرى لتدعيم فكرة الانضمام للاتحاد الأوروبي.

ويمكن وصف الإصلاحات التي تمت في المرحلة الأولى من 1999 إلى 2005 بأنها كانت ضعيفة؛ ففي مارس 2001 تبنت الحكومة التركية "البرنامج القومي لتبني الإصلاحات"، والذي اشتمل على نطاق واسع من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تنوي أنقرة تنفيذها، ومن ثم بعدها بدأت وتيرة سن القوانين التي تساهم في تطبيق ذلك البرنامج تتسارع، وتم عمل ما يقرب من 34 تعديلاً على الدستور من أجل مواكبة تلك الإصلاحات. كما تم إنشاء لجنة داخل البرلمان في عام 2003 باسم "لجنة الانسجام والتنسيق مع الاتحاد الأوروبي" بهدف إعداد تركيا للحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد.

أما في الفترة الثانية من 2006 إلى 2010، فقد شهدت عدداً من الإصلاحات البرلمانية، حيث تبنى البرلمان التركي مجموعة من التعديلات الدستورية جعلت الرئيس يُنتخب بالتصويت العام ولمدة خمس سنوات تُجدد مرة واحدة فقط، بالإضافة إلى سن وتشريع قوانين جديدة وتعديل أخرى قديمة متعلقة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية للمواطنين كحرية التعبير عن الرأي وغيرها. غير أن كل تلك التغييرات التي حدثت على المستوى البرلماني، لم ترسخ العلاقة القوية مع الاتحاد الأوروبي، ومازال هناك احتياج لمزيد من التعديلات.

4- "أوربة" القضاء التركي: تتفاوت مظاهر النموذج الأوروبي على الأنظمة القضائية من دولة إلى أخرى من دول الاتحاد الأوروبي، أو من تلك الدول التي تسعى للانضمام للاتحاد. وفي هذا الإطار مر النظام القضائي في تركيا ببعض التغيرات والإصلاحات إن جاز التعبير، ونتج عنها بعض التقدم في ملفات العدالة في المجتمع التركي، إلا إنه لا يمكن إرجاع ذلك الأمر إلى الحوافز التي كان يقدمها الاتحاد الأوروبي لتركيا لاتخاذ ذلك المنحى، بقدر ما كانت الأوضاع السياسية للإصلاحات الداخلية التي تمت في المجتمع التركي عوامل هامة وحاسمة في إحداث ذلك التغيير، مما أدى إلى تقدم محدود وغير متناسق مع بعضه.

5- "أوربة" العلاقات المدنية العسكرية: مرت تلك العلاقات المعقدة في تركيا بتحول هام ورئيسي في أواخر عام 1990، إذ كان للجيش التركي دور محوري في الحياة المدنية منذ أُنشئت الدولة التركية؛ بيد أنه مع أواخر هذا العام الذي قُبلت فيه تركيا كدولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي، بدأت تحدث تحولات تدريجية في دور الجيش، بداية من التواصل أكثر مع المدنيين في لقاءات ونقاشات متعددة، مروراً بتعديل مواد الدستور كالمادة (118) والتي تختص بدور وتكوين مجلس الأمن القومي؛ حيث أُقر التعديل بزيادة عدد الأعضاء المدنيين فيه من 5 إلى 9 أعضاء، مع تحييد دوره بحيث يقتصر على تقديم المقترحات والتوصيات فقط.

وبمرور الوقت بدأ دور الجيش يتراجع في الحياة المدنية للمواطنين، وتم تفعيل عناصر الشفافية والمحاسبة، إلى أن وصل الأمر في هذه النقطة إلى ما يمكن القول فيه إن دور الجيش أصبح محدود تماماً، سواء من الناحية الدستورية أو من ناحية التطبيق العملي في إطار من توزيع الأدوار مع الحكومات المدنية المنتخبة.

مدى تأثير النموذج الأوروبي على "السياسات" التركية

ثمة تأثيرات واضحة لمحاولات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي على السياسات الداخلية للدولة، ويمكن الإشارة إلى خمسة مظاهر رئيسية لتلك التغييرات كالتالي:ـ

1- المجتمع المدني: كان لسياسات "الأوربة" تأثير بالغ الأهمية على منظمات المجتمع المدني في تركيا، فتاريخياً ورغم أن المجتمع المدني التركي كان ضعيفاً ولا يتمتع باستقلالية عن الدولة، نتيجة للقيود القوية التي فرضتها الحكومة التركية عليه من ناحية، ولنظرة المجتمع التركي التقليدية له من ناحية أخرى، فإن هذا المجتمع المدني شهد انتعاشاً كبيراً في العقود الأخيرة؛ حيث ساهمت عملية "الأوربة" في تنمية دوره وتعزيز استقلاليته، ووضع أجندة سياساته، وقوته المؤسسية، وشرعيته. وبرغم هذا الدور الهام الذي لعبته سياسات "الأوربة" في شرعنة مبادرات المجتمع المدني، بيد أن هذا التأثير يُعد حساساً في مسار العلاقات التركية ـ الأوروبية.

2- الأحزاب السياسية: التي تأثرت هي الأخرى بعملية "الأوربة"، وقد بدا التأثير ملحوظاً على بعض النقاط المحورية للأحزاب، كالبناء التنظيمي للأحزاب السياسية، ونماذج المنافسة بين الأحزاب وبعضها البعض، ووضع الأحزاب واتجاهاتها حيال عملية "الأوربة".

ويعتبر الكتاب أن تأثير ذلك الأمر كان محدوداً، مرجعاً ذلك الأمر إلى حقيقة أن الاتحاد الأوروبي يتعامل مع عملية الانضمام له بأنها عملية بيروقراطية أكثر منها عملية سياسية، ومن ثم يدمج فقط الأحزاب المتواجدة بالسلطة في تلك العملية دون الاهتمام بتطوير الحياة الحزبية نفسها داخل المجتمع التركي.

3- التوافق القيّمي بين الإسلام والديمقراطية: فكما أدت مسألة "الأوربة" داخل تركيا إلى مراجعة القواعد المؤسسة للديمقراطية الأوروبية، جددت أيضاً الجدل المُثار حول التوافق بين القيم الإسلامية ونظيرتها الأوروبية.

وقد استعرض الكتاب في هذا الصدد تأثير عملية "الأوربة" على تركيا "الإسلامية" من خلال تحليل توجهات الحركة الإسلامية في تركيا، وإدارة الحياة الدينية في الدولة التركية. ولكون تركيا تعد أول دولة ذات أغلبية مسلمة تسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي، غير أن حالتها مختلفة عن كافة الدول الأخرى المرشحة، لأنها أثبتت أن القيم الإسلامية متوافقة مع القيم الأوربية لا متعارضة معها.

4- المسألة الكردية: وهي المعضلة الطائفية الرئيسية التي تواجه أنقرة، كما تمثل التحدي الأكبر أمام العملية الديمقراطية التركية برمتها، وكذلك العلاقات التركية - الأوروبية. ويمكن القول إن توجه الحكومة التركية نحو المسألة التركية قد تطور بشكل تدريجي مع بداية ترشيح تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي في عام 1999.

ورغم الدور الذي لعبته فكرة الانضمام في تطوير النظرة لتلك المسألة، إلا أن هناك عوامل أخرى كثيرة داخلية قد ساهمت في تحقيق هذا التغير وأغلبها عوامل داخلية ترتبط بالأمن القومي للدولة من جهة، واستقرار وثبات الدولة التركية من جهة أخرى.

5- الثقافة السياسية: من خلال تحليل التوجهات القيمية العامة لغالبية المواطنين الأتراك منذ عام 1990، ورغم حدوث تغير في العقلية العلمانية التوجه في تركيا تجاه المجتمعات الأوروبية والقيم الخاصة بها، فإنه يمكن القول إن تأثير الاتحاد الأوروبي في تغيير الثقافة السياسية للمواطنين الأتراك يبدو ضعيفاً، وهو ما يعد أمراً هاماً لفهم طبيعة القيم التركية ومتطلباتها لتحقيق الديمقراطية المطلوبة في تركيا.

خلاصة القول، على الرغم من تحقيق تركيا للعديد من العناصر التي تُسهِّل من عملية انضمامها للاتحاد الأوروبي في المستقبل، غير أنها مازالت تواجه العديد من التحديات يجب إنجازها خلال الفترة القادمة، خاصةً بعد التغيير الدراماتيكي الذي حدث في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وعدم حصول "حزب العدالة والتنمية" على أغلبية البرلمان التركي، وما إذا كان ذلك سيساهم في استئناف وتعزيز الإجراءات المتعلقة بالانضمام للاتحاد الأوروبي أم سيصبح عقبة في سبيل تحقيق هذا الهدف؟

* عرض مُوجز لكتاب بعنوان: "أوربة تركيا: على مستوى الدولة والسياسات"، والصادر في أبريل 2015 عن مؤسسة Routledge.

المصدر:

Ali Tekin and Aylin Güney (Editors), "The Europeanization of Turkey: Polity and politics", (New York, Routledge, April 2015) pp 302.