نقل القيادة:

هل يقود "الناتو" التحالف الدولي في العراق بدلاً من واشنطن؟

20 September 2020


جاءت زيارة وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى بروكسل في 16 سبتمبر الجاري، ولقائه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو" ينس ستولتنبيرج، في إطار استكمال العراق و"الناتو" وثيقة الترتيبات التكميلية الخاصة بعمل بعثة الحلف في العراق، أو بشكل أدق الإطار الإجرائي المرحلي لعملية انتقال القيادة في التحالف الدولي للحرب على "داعش" في العراق، بناءً على رغبة الإدارة الأمريكية التي تم الإعلان عنها مطلع العام الجاري، كحل وسط لمعالجة إشكالية الفراغ المحتمل في ظل اتجاه واشنطن نحو تقليص وجودها العسكري في العراق، سواء في سياق تخفيض عدد قواتها في الشرق الأوسط، أو كمخرج للضغوط التي تتعرض لها مع الحكومة العراقية الحالية من جانب القوى السياسية المحلية خاصة المقربة من طهران. 

من حيث التوقيت، فإن مسار الترتيبات الخاصة ببعثة "الناتو" في العراق يأتى بعد أقل من شهر على زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى واشنطن وانعقاد الجولة الثانية من الحوار الاستراتيجي بين البلدين، والتي خلصت إلى التأكيد على طابع العلاقات الاستراتيجية فيما يتعلق بالترتيبات الخاصة بالملفات الأمنية والدفاعية التي تحتل مرتبة متقدمة في سلم أولويات تلك العلاقات، وذلك على الرغم من الاتفاق على تقليص عدد القوات الأمريكية المتواجدة في العراق (5500 جندي) إلى ما دون نصف هذا العدد تقريباً في غضون الفترة القادمة وقبيل الانتخابات الأمريكية المرتقبة. 

وتتشارك الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة العراقية، بحسب تقديرات صادرة عن دوائر صنع القرار في البلدين، المخاوف من إحياء تنظيم "داعش" الإرهابي لشبكاته في العراق مجدداً، خاصة وأن تلك التقديرات تؤكد بالفعل وجود مؤشرات على أن التنظيم لا يزال لديه الفاعلية والقدرة على نسج تلك الشبكات وتهديد الوضع في العراق بشكل لا يقل عن ما كان عليه في السابق، وهو ما كان الدافع الرئيسي لتشكيل التحالف الدولي، وهى الجزئية التي تطرح التساؤل الخاص بطبيعة المهام التي تتم الإشارة إليها سواء من جانب "الناتو" أو الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص العدد المتبقي لقواتها في العراق والذي يرجح أن يكون في حدود 2000 جندي، حيث أن بيان "الناتو" الصادر للتعليق على زيارة وزير الخارجية العراقي وكذلك بيان الخارجية العراقية، يحمل إشارات تتعلق بالجوانب اللوجستية الخاصة بعمليات التدريب والدعم لعمليات مكافحة الإرهاب إلى جانب الجزء الخاص بالعلاقات المدنية العسكرية. 

كذلك، فإن واشنطن هى الأخرى تشير إلى الأهداف نفسها، فقد كرر السفير الأمريكي لدى بغداد ماثيو تولر، نهاية الأسبوع الفائت، التصريحات الأمريكية التي تصب في الاتجاه نفسه، وهو أن هدف التواجد الأمريكي هو مكافحة تنظيم "داعش"، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على تقليص وجودها العسكري، لكن السفير الأمريكي ركز في تصريحاته على "قتال داعش" أكثر من الإشارة إلى الجانب اللوجيستي. 

متغير تكتيكي: 

من المتصور أن تغير علم القيادة الأمريكية للتحالف واستبداله بعلم "الناتو" هو متغير تكتيكي أكثر من كونه متغيراً استراتيجياً، فهو يحقق أهدافاًَ أمريكية في المقام الأول، منها تحفيض عدد القوات الأمريكية مقابل زيادة عدد القوات التابعة لـ"الناتو". وهذا الأسبوع، تم الإعلان عن رفع مستوى المشاركة الأوروبية، وهو ما يحقق الرغبة الأمريكية في تقاسم أعباء مكافحة الإرهاب في كل من العراق وسوريا، كما أنه يساهم في إجراء تغيير في طبيعة القوات من الطابع القتالي إلى الطابع اللوجستي الخاص بعمليات مكافحة الإرهاب، وهو متغير شكلي أكثر من كونه متغيراً نوعياً، فتجارب مشاركة "الناتو" في عمليات المكافحة في العراق خلال الفترة الماضية لم تقتصر على هذا الجانب، كما لا يمكن التفرقة بوضوح بين قيادة "الناتو" والقيادة الأمريكية، ففي الأخير تظل الولايات المتحدة الأمريكية هى القوة الرئيسية في قيادة "الناتو" وبالتالي لا يمكن القطع بأن هناك تغيراً في طبيعة المهام بشكل فارق عن ما كانت عليه في السابق. 

لكن يبقى الدافع الرئيسي لهذا المتغير، هو الحد من الصدام الأمريكي – الإيراني المسلح في العراق، بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في مطلع العام الجاري، والذي شكل تحولاً نوعياً في مسار التصادم على الجانبين، تبعها الصدام السياسي الخاص بمواصلة واشنطن استراتيجية الضغوط القصوى على إيران فى ملف العقوبات والتسليح. فعلى الرغم من عدم القدرة على تمديد  قرار حظر التسليح في مجلس الأمن إلا أن واشنطن تعمل على تبني آليات أخرى للاستمرار في النهج ذاته، وهو ما لا ينفصل عن تفعيل آلية "سناب باك" في 20 سبتمبر الجاري. 

أهداف جانبية:  

من الواضح أن هناك توافقاً بين الإدارتين الأمريكية والعراقية في المرحلية الحالية. فعلى الأرجح يدرك القادة العسكريون في العراق أن إنهاء الوجود العسكري الأمريكي سينعكس على قدرة الدولة في التعامل مع التهديدات، وهناك تقديرات محلية تشير إلى أن هناك طلباً على بقاء القوات الأمريكية في المستقبل، حيث أن تجربة برنامج التدريب العسكري الأمريكي للقوات العراقية المستدام على مدار العقدين الماضيين، تكشف عن صعوبة غياب الدور العسكرى الأمريكي ميدانياً عن الساحة التي تشهد دوماً متغيرات في دورة التهديدات الأمنية المستمرة. 

فضلاً عن ذلك، فإن عدداً من شركاء حلف "الناتو" كان لديهم تحفظات على بعض العمليات الأمريكية في العراق، خاصة عملية اغتيال سليماني، في ضوء رد فعل الميليشيات العراقية الموالية لإيران على تلك الضربة باستهداف قواعد وقوات التحالف، وقد كشفت تقارير غربية أن كندا وبعض الدول الأوروبية أبدت رغبة في تقليص دورها في المشاركة في عمليات "الناتو" في العراق بسبب الانفراد الأمريكي بالقرار في تلك العمليات التي ترتد تداعياتها على الجميع، وبالتالى فإن عملية تدوير القيادة داخل التحالف تحت راية "الناتو" ربما تعالج مثل تلك الإشكاليات. 

آليات جديدة: 

على الأرجح، فإن تقليص الوجود العسكري الأمريكي على مستوى حجم القوة سيُعوَّض ببدائل أخرى، لتحقيق الأهداف العسكرية المطلوبة في إطار الحرب على الإرهاب، فهناك اتجاه لزيادة القدرات النوعية في عمليات مكافحة الإرهاب، ومنها الطائرات من دون طيار "الدرونز" على سبيل المثال في العراق، وهو ما أشارت إليه تقديرات أمريكية وأوروبية عديدة، للتعامل مع النمط الجديد الأقرب إلى حرب العصابات في أفغانستان، حيث اتجه تنظيم "داعش" إلى اتخاذ المناطق الجبلية والوعرة ملاذاً له في العراق، على نحو سيخفف الضغط أيضاً على القوات العراقية وقوات التحالف  الموجودة والتي تعرضت في الشهور الأخيرة لهجمات كان أبرزها زرع العبوات الناسفة على الطرق.

 كذلك، فإن وجود مستشارين عسكرين متخصصين في القواعد الخاصة بالتحالف والقواعد التي كانت تشغلها القوات الأمريكية والتي سيتم تسليمها للقوات العراقية، سيسمح بتحقيق نموذج "القيادة من الخلف" بشكل مرن. 

في الأخير، من المتصور أن واشنطن واجهت العام الجاري في العراق أزمات متعددة، ورغم أن هناك رغبة في تقليص الوجود الأمريكي بشكل عام، فإن ذلك يفرض إشكالية أخرى خاصة بتمدد طهران التي تناصبها العداء من جهة، وإتاحة هامش كبير لعودة "داعش" من جهة أخرى، وبالتالى فإن تحويل دفة القيادة إلى "الناتو" يمثل حلاً عملياً للتعامل مع أغلب تلك الإشكاليات، لكنه فى الوقت ذاته قد يتحول إلى إشكالية جديدة إذا كان الهدف الفعلي منه هو إجراء تغيير تكتيكي في الطابع العملياتي.