مخاطر الأتمتة :

رؤية مقترحة لمواجهة تراجع الأمان الوظيفي بالعالم

04 March 2020


عرض: باسم راشد – باحث في العلوم السياسية

أثارت التقنيات الحديثة دائمًا الخوف من إمكانية استبدال العمال بالآلات. وبرغم إصرار العديد من الاقتصاديين على أن هذه المخاوف ما زالت قائمة، إلا إنها كانت وما زالت في غير محلها، وذلك لأن التقدم غير المسبوق في تقنيات الذكاء الاصطناعي لم يعد يعني استبدال العمال بالآلات فحسب؛ بل يعني أن جميع أنواع الوظائف معرّضة بشكل متزايد للخطر.

يجادل الكاتب "دانيال ساسكيند"، الباحث الاقتصادي بجامعة أوكسفورد والمستشار السابق للحكومة البريطانية، في كتابه المعنون: "عالم بلا عمل: التكنولوجيا، الأتمتة، وكيف يجب أن نستجيب" الصادر في يناير 2020، بأن عصر الأمان الوظيفي قد شارف على الانتهاء، موضحًا حدود تهديد التكنولوجيا للوظائف التي يقوم بها الإنسان، وهل يمكن أن يؤدي الاعتماد المتزايد على الأتمتة إلى تحقيق الرخاء البشري؟.

البطالة التكنولوجية

يؤكد "ساسكيند" في كتابه أن تقنيات الذكاء الاصطناعي قد غيَّرت كل شيء؛ فلم تعد الآلة تقوم بالمهام الروتينية التي يقوم بها الإنسان فحسب، بل إنها غيّرت مفهوم "الروتين" نفسه وأصبحت تقوم بالمهام غير التقليدية. فدومًا كان يُفترض أن المهمة تتطلب إنسانًا للقيام بها حتى تأتي الآلة وتثبت العكس، ودون الحاجة إلى محاكاة الإدراك البشري. 

كذلك كان من المعتاد القول إن العمال الذين فقدوا وظائفهم ذات المهارات المتدنية يجب أن ينسحبوا للقيام بأدوار أكثر تحديًا، لكن ماذا يحدث عندما تأتي الروبوتات، أو الطائرات بدون طيار، أو السيارات بدون سائق؟ بطبيعة الحال ستختلف التنبؤات، خاصة أن ما يصل إلى نصف الوظائف يُعدّ مُعرّضًا جزئيًّا على الأقل للإحلال بتقنيات الذكاء الاصطناعي، بدءًا من قيادة الشاحنات وتجارة التجزئة والمستودعات إلى الطب والقانون والمحاسبة.

وقد افترض علماء الاقتصاد أن أتمتة جميع هذه الوظائف من شأنه أن يخلق نوعًا من البطالة التكنولوجية، وهي البطالة الناتجة عن اكتشافنا لوسائل الاقتصاد في استخدام العمالة بما يفوق الوتيرة التي يمكن أن نجد بها استخدامات جديدة للعمل. بيْد أن "ساسكيند" يُفنِّد هذا الافتراض، مؤكدًا أنه الأتمتة حلَّت محل العمالة البشرية في المهام الروتينية دون تدمير مهن بأكملها، وحتى عندما تم القضاء على بعض المهن، تم إنشاء مهن جديدة.

ويستطرد "ساسكيند" في هذا التفنيد، مشيرًا إلى أن الآلات قد استبدلت أحيانًا تمامًا كل ما يفعله العمال بينما في كثيرٍ من الأحيان تكمل وظائف العمال، وتتولى بعض المهام الروتينية التي يمكن التنبؤ بها، ولكن في النهاية تجعل العمال أكثر إنتاجية. إذ ربما تكون الآلات قد حلت محل النساجين؛ إلا أن النساجين المحتملين أمس يعملون الآن في وظائف لم يكن من الممكن أن يتصورها أجدادهم، كمديري تسويق ومبرمجي كمبيوتر ومصممي أزياء.

كذلك خشي صرافو البنوك من ظهور آلات الصراف الآلي، لكن شركة (A.T.M.S) عملت بالفعل على تحفيز العملاء على استخدام البنوك أكثر، وبالتالي زاد عدد فروع البنوك، وكذلك عدد صرافي البنوك الذين تم تحريرهم للقيام بمهام أخرى غير صرف الأموال للعملاء، وقلل في الوقت ذاته من المخاطر الناتجة عن مهمة الصرَّاف البشري كالتعرض للسرقة أو الفساد المالي وغيره.

لذا يؤكد "ساسكيند" أنه على مدى القرون القليلة الماضية، ساعدت التكنولوجيا العمال البشر على أن يصبحوا أكثر إنتاجية من أي وقت مضى، مما أدى إلى ازدهار اقتصادي غير مسبوق، ورفع مستويات المعيشة العالمية. فعلى سبيل المثال، نما الاقتصاد الأمريكي 15241 ضعفًا بين 1700 و2000.

خطر حقيقي

بالاعتماد على ما يقرب من عقد من البحث في هذا المجال، يقول "ساسكيند" إن الآلات لم تعد بحاجة إلى التفكير مثلنا من أجل التفوق علينا، كما كان يُعتقد على نطاق واسع. ونتيجة لذلك، فإن المزيد من المهام التي كانت تتجاوز بكثير قدرة أجهزة الكمبيوتر، من تشخيص الأمراض إلى صياغة العقود القانونية، ومن كتابة التقارير الإخبارية إلى تأليف الموسيقى؛ أصبحت في متناول اليد، وأصبح معها خطر البطالة التكنولوجية حقيقيًّا.

لكن إذا كانت مخاوف البشر من أن التكنولوجيا ستحل محلهم لم تكن قائمة في الماضي بالشكل المطلوب، فهذه المرة مختلفة؛ حيث أصبحت الآلات أكثر ذكاءً لدرجة أنها ستحل قريبًا محل البشر في قائمة متزايدة من الوظائف، بما في ذلك وظائف الأطباء والبنائين وضوابط التأمين، وبالتالي إنهاء ما يُسميه "عصر العمل".

وقد ذهب "ساسكيند" في كتابه إلى أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أننا على وشك عصر جديد يمكن فيه للآلات أن تأتي بأفكار جديدة تمامًا حول كيفية برمجة نفسها؛ إذ تستند أطروحة "ساسكيند" الأساسية (وهي أننا نتجه نحو عالم يصبح فيه العمل البشري عتيقًا) إلى افتراضه أن معظم المفاهيم التقليدية حول تعلم الذكاء الاصطناعي كانت خاطئة، حيث اعتقد الاقتصاديون أنه لإنجاز مهمة ما كان على الكمبيوتر أن يتبع قواعد واضحة موضحة من قبل إنسان، وأن قدرات الآلة يجب أن تبدأ بتطبيق ذكاء بشري.

لكن "ساسكيند" يعتقد أن هذه القاعدة كاذبة وخاطئة، وهو ما أدى بنا إلى التقليل -إلى حدٍّ كبير- من عمق واتساع الآثار الناتجة عن تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي. ووفقًا له، فإن العديد من الآلات "تستمد الآن قواعد جديدة تمامًا، لا علاقة لها بتلك التي يتبعها البشر".

عصر الرخاء 

يعتقد "ساسكيند" أنه برغم المخاوف الناتجة عن التطورات التكنولوجية، إلا أن هذا ليس بالأمر السيئ بالضرورة، فخلال المائة سنة القادمة، يمكن أن يؤدي التقدم التكنولوجي إلى تحقيق رخاء لم يسبق له مثيل، وسيقودنا إلى عالم ذي عمل أقل للعنصر البشري، كما سيحل واحدة من أقدم مشاكل الإنسانية وهي كيفية التأكد من أن كل شخص لديه ما يكفي للعيش، وتضييق الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون.

بيد أن هذا الرخاء سيُفرز ثلاث مشكلات أساسية؛ تتمثل المشكلة الأولى في عدم المساواة المرتبطة بكيفية توزيع هذا الرخاء الاقتصادي على كل فرد في المجتمع. أما المشكلة الثانية فتتعلق بالقوة السياسية لتحديد من الذي يتحكم في التقنيات المسؤولة عن هذا الرخاء وبأية شروط. فيما ترتبط المشكلة الثالثة بالمعنى، ومعرفة كيفية استخدام هذا الرخاء، ليس للعيش فقط دون عمل بل للعيش بشكل جيد.

ويطرح "ساسكيند" حلولًا عديدة لهذه المشكلات الناتجة عن التطور التكنولوجي المرتقب، والتي تدور أغلبها حول أمرين رئيسيين: أولًا- العمل المشترك على تقييد القوة الناشئة للتقدم التكنولوجي، وكبح جماح تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وثانيًا- تمكين دولة كبيرة قادرة على تقديم نموذج يواجه هذه المشكلات؛ وسيتعين على مثل هذه الدولة أن تتصدى ليس فقط لتحديات إعادة توزيع الكعكة التي تعد كبيرة بما يكفي لكنها غير موزعة جيدًا، ولكن أيضًا كيفية إنشاء معنى وتحديد قيمة لمساهمات المواطنين في عالم ما بعد العمل.

ويستطرد "ساسكيند" في العديد من الأفكار الجيدة المتداولة حول كيفية مواجهة مشكلة عدم المساواة وتوزيع مخرجات الرخاء والازدهار الاقتصادي على جميع المواطنين؛ بداية من إنشاء صناديق الثروة السيادية الرقمية، إلى إسناد القيمة الاقتصادية، إلى العمل غير المدفوع في الوقت الحالي، وغيره.

من ناحية أخرى، أشار "ساسكيند" إلى أنه بدلًا من التفكير حول مستقبل العمل في إطار البحث عن معنى، يمكن التفكير حول مستقبل الترفيه، مؤكدًا أنه لدينا سياسات لسوق العمل، والتي تُساهم في تشكيل كيف يعيش الناس حياتهم العملية. ومن ثم ربما نحتاج أيضًا إلى سياسات أوقات الفراغ لتشكيل كيفية قضاء الناس وقت فراغهم. ولدى الدول بالفعل نظم مختلفة للتقاعد الذي يُعد -في حد ذاته- سياسة ترفيه مدعومة بشدة من الحكومات المختلفة.

ختامًا، يؤكد "ساسكيند" أنه في القرن الحادي والعشرين، سيتعين علينا تأسيس عصر جديد للأمن الوظيفي لا يعتمد على العمل مدفوع الأجر، وأنه يجب أن نبدأ هذه المهمة اليوم. وبرغم أننا لا نعلم تحديدًا متى سيأتي العالم ذو العمل الأقل للعنصر البشري، إلا أن هناك معالم واضحة بأننا نسير في الطريق إليه، وهو ما يستدعي ضرورة الأخذ في الاعتبار المشكلات الثلاثة المرتبطة بعدم المساواة والقوة والمعنى التي لا تختبئ في المستقبل المنتظر في هذا العالم، بل بدأت في الكشف عن نفسها مبكرًا، وأصبح لزامًا علينا تحديد كيفية الاستجابة لها.

المصدر: 

Daniel Susskind, A World without Work: Technology, Automation, and How We Should Respond, (New York: Holt, Henry & Company, Inc., 2020).