"ويستفاليا جديدة":

الآليات الأربع لمواجهة تحديات ما بعد العولمة

16 December 2019


عرض: باسم راشد - باحث في العلوم السياسية

هل يشهد العالم "قمة الديمقراطية"؟ هل المستقبل المحتمل هو الذي ستتنافس فيه المجتمعات المفتوحة ذات الأسواق الحرة مع الدول الاستبدادية على النفوذ في الشئون العالمية في ظل رأسمالية الدولة؟ هل سيشهد العالم انتهاء العولمة، وتزايد الميل نحو العالم متعدد القطبية؟ 

مثَّلت الأسئلة السابقة محاور اهتمام الخبير الاقتصادي في جامعة برينستون "مايكل سوليفان" في كتابه المعنون: "التسوية: ماذا بعد العولمة؟" الصادر في مايو 2019، والذي يُعرب فيه عن قلقه إزاء عالم يتزايد فيه النمو المنخفض، والديون المرتفعة، ويدعو إلى معاهدة عالمية حول المخاطر، بحيث تلجأ البنوك المركزية فقط إلى تدابير مثل التيسير الكمي في ظل الشروط المتفق عليها.

التعلم من التاريخ

في محاولته للاستفادة من التجارب التاريخية، يستلهم "سوليفان" في كتابه خبرة مجموعة Levellers، التي وصفها بأنها جوهرة خفية من التاريخ البريطاني؛ وهي جماعة تشكلت في منتصف القرن السابع عشر في إنجلترا، وشاركت في النقاشات حول الديمقراطية التي وقعت في جزء من لندن يدعى بوتني. كان إنجازهم الأساسي هو صياغة ما عُرف حينها بـ"اتفاقية الشعب"، التي كانت عبارة عن سلسلة من البيانات التي كانت بمثابة المفاهيم الشعبية الأولى لما قد تبدو عليه الديمقراطية الدستورية.

ويؤكد الكاتب أن هذه الجماعة كانت مثيرة للاهتمام لسببين؛ الأول أن نهجها كان بنَّاء وعمليًّا في سياق الوقت الذي عاشت فيه؛ حيث أوضحت اتفاقية الشعب التي توصلوا إليها ما يريده الناس من أولئك الذين يحكمونهم بطريقة واضحة وملموسة. على سبيل المثال، اقترحوا فرض قيود على مدة المنصب السياسي وتطبيق القوانين المتعلقة بالمديونية بالتساوي على الأغنياء والفقراء.

ويرجع السبب الثاني إلى الطريقة التي تم بها التغلب على الحركة، ثم قام القائد العسكري "أوليفر كرومويل" باختطافها والقضاء عليها مثلها في ذلك مثل العديد من الجماعات السياسية المثالية الناشئة، وهو ما يدعو إلى ضرورة استفادة العدد المتزايد من الأحزاب السياسية الجديدة والمرشحين الجدد من هذه التجربة، بحيث يكونوا أكثر حكمة في كيفية تعاملهم مع عملية التغيير والإصلاح السياسي.

لذا يؤكد الكاتب أن قصة جماعة Levellers والاتفاقات التي صاغوها تستحق أن يتم تفكيكها وإعادة فحصها؛ إذ إن أهدافهم ومشاعرهم والقوى التي دفعتهم لها صلة بالعالم الذي نعيش فيه. وتوفر نقطة انطلاق ملائمة لمعالجة وترتيب التغييرات الكثيرة التي ترتكز على النظام السياسي والاقتصادي الدولي اليوم.

نهاية العولمة

أكد الكاتب أن هناك أمرين تسبّبا في نهاية العولمة التي نعرفها؛ يتمثل أولهما أولًا في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، ونتيجة لذلك أصبح النمو أكثر "تمويلًا"؛ فزادت الديون العامة وبالتبعية زاد النشاط النقدي؛ أي إن البنوك المركزية تضخ الأموال في الاقتصاد عن طريق شراء الأصول كسندات، وفي بعض الحالات كأسهم، للحفاظ على التوسع الدولي. 

ويتعلق ثانيها بالآثار الجانبية المُدركة للعولمة التي أضحت أكثر وضوحًا عن ذي قبل؛ ومنها عدم المساواة في الثروة، وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات، وتشتت سلاسل التوريد العالمية، التي أصبحت جميعها قضايا سياسية في عالم اليوم.

ويستدل "سوليفان" على نهاية العولمة في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية وكذلك التمويل الدولي. ففي الاقتصاد -على سبيل المثال- يقول لدينا نمو منخفض الإنتاجية، وهوامش ربح عالية، لكن نمو الأجور منخفض في الولايات المتحدة، وسجلت المديونية أعلى معدلاتها. وكذلك امتلكت البنوك المركزية، التي تعد الآن أقوى من الحكومات، مجمعات هائلة من الأصول، التي اشترتها في محاولة للحفاظ على الآثار الجانبية للأزمة المالية العالمية، مما سيجعل الأسواق المالية أكثر هشاشة، والاقتصادات الهشة أكثر عرضة للخطر.

وفي السياسة، هناك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب "دونالد ترامب"، وظهور أحزاب سياسية جديدة في أوروبا، معظمها من اليمين المتطرف، بدأت في تعطيل الأحزاب التقليدية والعملية السياسية. كما ارتفع معدل تذبذب الناخبين واللا مبالاة تجاه الأحزاب السياسية الراسخة وانعدام الثقة في السياسة إلى مستويات لم نشهدها منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى نحو خطير، تبدو الديمقراطية كخيار سياسي وكأنها بلغت ذروتها؛ حيث تتجه الآن المزيد من الدول نحو الحكم من قبل رجال أقوياء، ولم تعد البلدان الأخرى تعتبر الديمقراطية جزءًا لا غنى عنه من خارطة طريق التقدم والتنمية.

أما في المجال الجيوسياسي؛ فيتصاعد صعود وسقوط الأمم بوتيرة متسارعة على ما يبدو. إن انتخاب "إيمانويل ماكرون" يمنح فرنسا الآن زعيمًا لديه الأفكار والطاقة لقيادة أوروبا، في وقت تقترب فيه سيطرة "أنجيلا ميركل" على السياسة الأوروبية من نهايتها. وعلى الصعيد الدولي، لم يعد يُنظر إلى الولايات المتحدة كقائد، وزاحمتها دول أخرى في الزعامة الدولية. كما استخدمت سوريا الأسلحة الكيماوية، وهناك دعوات لألمانيا للحصول على أسلحة نووية، وقد أطلقت كوريا الشمالية صواريخ على اليابان كجزء من "طريقها إلى نزع السلاح"، ودخلت الإنترنت ترسانة الحرب في إطار ما يُعرف بالحرب السيبرانية.

ويؤكد "سوليفان" أن أحد العوامل المثيرة للمشاكل هنا هو أنه لا توجد هيئة أو سلطة مركزية لتشكيل العولمة، باستثناء المنتدى الاقتصادي العالمي أو ربما منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كما اتسمت نهاية العولمة بالاستجابة الضعيفة وغير الحاسمة للأزمة المالية العالمية؛ حيث كانت الاستجابة لخفض تكلفة رأس المال وليس لمعالجة الأسباب الجذرية للأزمة. على هذا النحو، فإن الاقتصاد العالمي سيظل مثقلًا بالديون ويُخفق في الحصول على المال السهل من البنوك المركزية.

عالم ما بعد العولمة

يُشير "سوليفان" في كتابه إلى أن ثمة عالمًا متعدد الأقطاب يتشكل في مرحلة ما بعد العولمة، وسيُهيمن على ذلك العالم ثلاث مناطق كبيرة على الأقل: أمريكا، والاتحاد الأوروبي، وآسيا المتمركزة في الصين، والتي ستتخذ نهجًا مختلفًا للسياسة الاقتصادية والحرية والحرب والتكنولوجيا والمجتمع. 

أما الدول الأصغر فلن تكون محصنة ضد هذا الاضطراب، وربما تكون رمزًا للمخاوف والتهديدات الجيوسياسية الجديدة التي تواجهها الدول اليوم. على سبيل المثال، في مايو 2018، أصدر السويديون كتيبًا بعنوان "إذا جاءت الأزمة أو الحرب" يطرحون فيه كيفية الرد في حال نشوب حرب شاملة (هجمات الإنترنت والدعاية وكذلك النزاع العسكري)، والهجمات الإرهابية، وتغير المناخ الشديد، لذا زادت السويد إنفاقها العسكري، وبدأت تجنيد الجنود، وإجراء مناورات عسكرية واسعة النطاق تأهبًا لمخاطر روسيا.

وفي هذا المستقبل الجديد، يؤكد "سوليفان" أنه ستكون هناك طريقتان للتفاعل مع النظام العالمي المقبل. تتمثل الطريقة الأولى في القبول المتزايد للطرق الأقل ديمقراطية في ترتيب المجتمع، سواء في البلدان المتقدمة والنامية، وسيظهر ذلك النظام في بعض البلدان مثل روسيا، أي النظام في مقابل تخفيض الديمقراطية والحقوق، لكن سيظهر صدام مرتبط بذلك النهج يتمثل في رغبة نسبة متزايدة من الناخبين في الحصول على مجتمع أكثر انفتاحًا مع فتح الاقتصادات أيضًا.

أما الطريقة الثانية المحتملة فتتمثل في زيادة التوترات داخل بعض البلدان مثل الصين، حيث يفقد اقتصادها الزخم، في ظل نظام حكم ديكتاتوري حيث سيزداد التوتر بين المجموعات الداعمة للحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص والتعددية الحزبية، والمجموعات المؤيدة لتزايد قبضة الدولة. وفي هذا السيناريو سيكون دور المرأة والأقليات محوريًّا.

ويشير "سوليفان" إلى أن العنصر المثير والصعب للعصر الجديد هو أنه في الوقت الذي يتم فيه إنشاء النماذج السياسية والأحزاب الجديدة، فإن العالم يحتاج إلى اكتشاف إطار جديد للنمو الاقتصادي، كما يحتاج إلى تقليص العديد من المنشطات الصناعية للنمو مثل المديونية وشراء أصول البنك المركزي. وفي هذا العالم الناشئ متعدد الأقطاب، ستصبح العديد من المؤسسات الدولية التي تأسست في القرن العشرين زائدة عن الحاجة مع ظهور تشكيلات جديدة من الأمم وترتيبات مؤسسية جديدة.

آليات المواجهة

يطرح "سوليفان" في كتابه أربع آليات واضحة لمواجهة التحديات الناشئة في عالم ما بعد العولمة، ويمكن إبرازها على النحو التالي:

1- اتفاقية جديدة للشعب: يتم من خلالها تأسيس بيئة سياسية تعزز مسئولية القادة تجاه الناس، وتجعل الحُكام خاضعين للمساءلة، وتضع أسسًا للتوزيع المتساوي للنتائج الاقتصادية بين الفقراء والأغنياء، وتضع حدًّا للفساد والطغيان. وسيتم التوصل إلى هذه الاتفاقية الجديدة عبر نقاش سياسي أكثر إيجابية وتركيزًا ستقوده أحزاب جديدة ودماء سياسية جديدة، بما سيساعد في إعادة هيكلة المبادئ التي يمكن أن توجه كيفية تعامل المجتمعات والحكومات مع المديونية والتجارة والدبلوماسية والتنمية الاقتصادية.

2- نمو اقتصادي مستقر: إذ ينبغي على البلدان (والشركات أيضًا) التركيز على نمو مستقر عضوي، ينبع من عوامل مثل قاعدة المهارات في سوق العمل، والابتكار والتكنولوجيا، والبنية التحتية غير الملموسة، ونظام القوانين والمؤسسات التي تشكل العمود الفقري للدولة. وفي هذا الإطار تحتاج الحكومات إلى وضع إطار متماسك لإعادة اكتشاف النمو على المدى الطويل، وتزويد السياسيين وأولئك الذين يصوتون لهم بقائمة مفهومة وملموسة لمراجعة للسياسات، فضلًا عن تحفيز التنمية البشرية أو البنية التحتية غير الملموسة وهي العوامل التي تطور القدرات البشرية وتسمح بالنمو السهل والفعال لنشاط الأعمال.

3- وضع إطار لتسوية الديون (ويستفاليا جديدة للتمويل): من خلال مؤتمر عالمي يؤدي إلى معاهدة تضع إطارًا عامًّا لتسوية الديون والمخاطر. وعلى الرغم من أن هذا النوع من المؤتمرات لم يسبق له مثيل في التاريخ؛ إلا أنه سيكون علامة واعترافًا بكمية مستويات الديون المتضخمة، كما سيكون جزءًا من وضع القواعد الأولية للعبة من أجل عالم متعدد الأقطاب، على غرار النظام الذي وضعه سلام ويستفاليا التاريخي (1648)، بحيث يكون الهدف الأسمى تحمل المخاطر بدلًا من المشاركة في تقاسم مخاطر الديون، بنفس الطريقة التي شجع بها ويستفاليا الدول على تحمل المخاطر السياسية ومخاطر الهوية.

4- إعادة التموضع في ظل تحالفات سياسية جديدة: في ضوء سيطرة ثلاث قوى كبرى أساسية على عالم ما بعد العولمة (وهي: الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين) ستكافح البلدان متوسطة الحجم (مثل: روسيا، وبريطانيا، وأستراليا، واليابان) لإيجاد مكان لها في العالم الجديد. كما ستضطر الدول التي تفتقر إلى القوة الاقتصادية لتتناسب مع القوة العسكرية للدول الثلاث الكبرى، مثل موسكو، إلى إعادة التفكير في نماذج التنمية الوطنية. وكذلك ستضطر البلدان ذات الإمكانات الاقتصادية الهائلة، مثل الهند، إلى إعادة تشكيل جوانب أخرى من قاعدة قوتها، مثل الجيش الهندي. 

من ناحية أخرى، قد تظهر تحالفات جديدة، مثل "الرابطة الهانزية الثانية" للدول الصغيرة المتقدمة مثل الدول الاسكندنافية ودول البلطيق، كما ستظهر مؤسسات القرن العشرين (كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) على نحو متزايد وسيتسع دورها بشكل أكبر.

المصدر: 

Michael O'Sullivan, The Levelling: What's Next After Globalization, (England: Public Affairs, 2019).