شرارة "أثينا":

هل ينحسر اليمين المتطرف بأوروبا بعد الإخفاق اليوناني؟

14 November 2019


لم يكن تراجع حزب "الفجر الذهبي" في اليونان حدثًا عاديًّا بالنظر إلى كونه من أوائل أحزاب اليمين المتطرف القومية التي بدأت موجة الصعود والانتشار على امتداد القارة الأوروبية. وقد دفع ذلك العديد من المحللين للقول بأن تراجع الحزب في اليونان قد يكون بداية موجة الانحسار للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا عقب إخفاقها في تحقيق تطلعات الناخبين، وارتباطها بالعنف السياسي وتأجيج عدم الاستقرار.

مؤشرات التراجع:

بعد سلسلة من النجاحات الانتخابية المتتالية لحزب "الفجر الذهبي"، بدءًا من عام 2012، تاريخ دخوله البرلمان اليوناني لأول مرة، ولاحقًا في انتخابات ٢٠١٥ كثالث قوة سياسية في البلاد محرزًا ١٨ مقعدًا، في خطوةٍ غير مسبوقة على الساحة الأوروبية لحزب يميني متطرف ذي ميول فاشية؛ بلغت الأزمات الحادة التي عصفت بحزب "الفجر الذهبي" اليوناني -على الصعيدين الشعبي والتنظيمي- ذروتها خلال عام 2019، والتي يمكن إيجازها فيما يلي:

1- إغلاق المقر الرئيسي: قام الحزب بإخلاء مقره الرئيسي في العاصمة أثينا في منتصف سبتمبر 2019، حيث شوهدت الشاحنات وهي تنقل محتويات المقر من شارع ميسوجيون في شمال أثينا، كما تمت إزالة شارة الحزب من على المبنى. وعلى الرغم من إعلان مصادر الحزب أن عملية الإغلاق هذه وما سبقها من إغلاق لعشرات المقرات الحزبية يعود لمشاكل تمويلية؛ إلا أن إغلاق المقر الرئيسي في أثينا له رمزيته، ويتعدى حصره ضمن الدلالات المادية، حيث ارتبط الانتقال إليه في عام 2012 بتاريخ نجاح الحزب في الدخول إلى البرلمان لأول مرة، حيث اعتبر إشغاله بمثابة رمز للإنجاز الذي تم تحقيقه، كما أن وجود مقر رئيسي في العاصمة أعطى الحزب هامشًا واسعًا لزيادة رقعة نشاطه وقدرته على تنظيم المظاهرات والاعتصامات والاستعراضات التي تستطيع لفت الأنظار، واستغلال هذا الموقع لإطلاق المواجهات العنيفة داخل العاصمة وحشد الجماهير.

2- إخفاق انتخابي: وكان الحزب قد تعرض في الانتخابات التشريعية الأخيرة في يوليو 2019 لخسارة كبيرة، حيث لم يستطع تجاوز عتبة 3% التي تسمح له بالتمثيل البرلماني، مما يعني فقدانه جميع مقاعده. وقد اعتُبرت هذه النتيجة من قبل العديد من المراقبين بمثابة ضربة وجودية للحزب، في حين حاول قائد "الفجر الذهبي" "نيكوس ميشالولياكوس" عبر فيديو تم تداوله بعد النتيجة تأكيد أن "الحزب لن يندثر، وأن النضال من أجل القومية باقٍ".

أسباب متعددة:

يمكن القول أن هناك أسباب متعددة ساهمت في تراجع "الفجر الذهبي" يتمثل أهمها فيما يلي:

1- تحسن الأوضاع الاقتصادية: كثيرًا ما يرتبط ارتفاع التصويت للأحزاب المتطرفة والشعبوية بتدهور الأوضاع الاقتصادية، وهو ما استغله حزب "الفجر الذهبي"، غير أن الانتخابات الأخيرة التي كشفت عن تقدم حزبي الديمقراطية الجديدة (يمين الوسط)، ومنافسه سيريزا (يسار الوسط)، وحصولهما على أكثر من 70% من أصوات الناخبين، أكدت حدوث تغيرات في المزاج العام اليوناني، وامتناع الكتلة الأكبر عن التصويت للأحزاب المتطرفة، خصوصًا بعد انخفاض معدلات البطالة، وارتفاع مستوى النمو.

 2- محاكمة قادة الحزب: تُعد المحاكمة التي جرت على وقع اغتيال مغني الراب والناشط اليساري اليوناني "بافلوس فيسياس" في عام 2013، والتي امتدت لما يقرب من 400 يوم، وتم الاستماع فيها لحوالي 300 شاهد؛ من أشد الضربات التي تلقاها حزب "الفجر الذهبي"، حيث تمت إدانة بعض أعضاء هذا الحزب في عملية الاغتيال، كما ثبت ضلوع دوائر مهمة داخل قيادة الحزب في هذه العملية، وهو ما دفع الصحف اليونانية إلى وصفه بــ"المنظمة الإجرامية"، مما أدى إلى ابتعاد كتلة كبيرة من الناخبين الذين صوتوا له، وانشقاق عدد كبير من نوابه وناشطيه.

3- الطبيعة المركّبة للأصوات: حيث يرى بعض المحللين أن المصوتين للفجر الذهبي لم يكونوا كتلة واحدة متجانسة، وإنما هم عبارة عن مجموعات من ثلاث دوائر؛ الدائرة الأولى -وهي الأصغر- مكونة من دائرة صلبة تترسخ عندها العقيدة الفاشية وتجنح إلى الممارسات العنيفة، ودائرة ثانية أوسع من ناخبي أقصى اليمين تتخذ خياراتها بحسب الأطروحات المقدمة من الأحزاب المنتمية لهذه الفئة، ودائرة ثالثة فضفاضة تجمع الغاضبين والناقمين على النظام السائد والذين يعمدون إلى التصويت العقابي أو الاحتجاجي، وبالتالي فإن تراجع عدد الأصوات التي نالها "الفجر الذهبي" مرده إلى تفكك الدائرتين اللتين لا تضمان العناصر الفاشية، والذهاب إلى تبني خيارات أخرى. كما يبرر بعض المنشقين عن الحزب هذا التراجع بالإخفاق في استقطاب ناشطين جدد.

4- صعود أحزاب بديلة: تُظهر بعض الدراسات أن حوالي 12% من الذين صوتوا للفجر الذهبي في 2015 اختاروا التصويت لحزب "الحل اليوناني" في 2019، وهو من أحزاب أقصى اليمين أيضًا، والذي استطاع تقديم صورة مقبولة أكثر من "الفجر الذهبي" خصوصًا لدى الشباب، علمًا بأنه يطرح أفكارًا شعبوية أيضًا كبناء جدار على الحدود مع تركيا لمنع وصول اللاجئين.

5-  أطروحات اليمين المتطرف: حيث تم رصد وجود جناح يميني متشدد داخل حزب "الديمقراطية الجديدة" الفائز بالانتخابات الأخيرة بنسبة حوالي 40% من الأصوات، ويعود السبب في ذلك إلى تبني هذا الحزب بعضَ أطروحات اليمين المتطرف رغبة في اختراق كتلها الناخبة، حيث يشارك حزب الديمقراطية الجديدة نفس الموقف المتشدد بالنسبة إلى تسمية مقاطعة مقدونيا الشمالية. وتُظهر التحليلات أن 12.6% من ناخبي "الفجر الذهبي" صوّتوا لحزب الديمقراطية الجديدة.

رسائل لليمين الأوروبي:

يرى العديد من المحللين أن تراجع حزب مثل "الفجر الذهبي" في اليونان يمكن أن تكون له تداعيات على مستوى الأحزاب المشابهة له على الصعيد الأوروبي. وتبالغ بعض التحليلات إلى حد القول بأن تراجع مثل هذا الحزب قد يمثل بداية النهاية بالنسبة لباقي الأحزاب المتطرفة في أوروبا، لا سيما وأنه يُعد من أوائل الذين بدأوا هذه الموجة المتطرفة في أوروبا. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أبرز التداعيات التي قد تنعكس على أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا فيما يلي:

1- تراجع الممارسات الفاشية: كان التكتيك المعتمد من قبل حزب "الفجر الذهبي" هو تأجيج مناخ من الرعب من خلال القيام بهجمات على المهاجرين واليساريين والمعارضين، وقد نجح هذا الحزب في تصدير هذا النموذج إلى اليمين المتطرف الأوروبي القائم على الجمع بين القتال في الشوارع والاعتماد على ذلك لتحقيق مكاسب انتخابية، وبالتالي فإن أفول الحزب في اليونان سيعني تراجع الآليات التي كان ينتهجها والتي تجمع بين الأساليب العسكرية والانتخابية، فقد يقتنع قادة اليمين المتطرف بعدم جدوى الاستمرار في تبني هذا الأسلوب الذي لن يؤدي في النهاية إلا إلى تفكك أحزابهم وكثرة الانشقاقات.

2- اختراق أصوات اليمين التقليدي: ستشكل الدروس المستخلصة من إخفاق حزب "الفجر الذهبي" محطة مفصلية لأحزاب اليمين المتطرف الصاعدة في أوروبا، والاقتناع بأن نموها وانتشارها يتطلب الابتعاد عن الفاشية الكلاسيكية، وإلى ترجيح خيار الدخول في ائتلافات مع اليمين التقليدي والتعاون معه، عوضًا عن المضيّ قدمًا في انتهاج سياسات أكثر راديكالية. كما ستحاول اعتماد خطاب سياسي أكثر اتزانًا لجذب ناخبي أحزاب اليمين من دون إثارة حساسية الناخبين حول أطروحاتها العنصرية والفاشية.

3- تحجيم العناصر الراديكالية: على وقع تجربة إخفاق "الفجر الذهبي" الأخيرة ستحاول أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا ضبط العناصر الراديكالية لديها والتي أصبحت تشكل مصدر إحراج لها، مما قد يُجبر هذه المجموعات على الانشقاق أو العزلة، وبالتالي فإن سقوط حزب "الفجر الذهبي" لن يؤدي إلى بداية نهاية أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، بل ربما سيكون عاملًا محددًا في إعادة تشكيل هذه الأحزاب وفق نماذج جديدة، بالإضافة إلى محاولات تنافس متبادلة بين أحزاب اليمين التقليدي واليمين المتطرف على الكتل الناخبة.