رسائل مزدوجة:

"خطاب بوتين" .. إصلاح الداخل وردع الخارج

24 February 2019


حمل خطاب الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" للجمعية الفيدرالية الروسية (الهيئة التشريعية) التي تتألف من مجلس الدوما ومجلس الاتحاد، والذي ألقاه في 20 فبراير 2019، عددًا من الرسائل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. وتأتي أهمية هذا الخطاب السنوي في ظل أنه يُعتبر المحدد للأطر الداخلية والخارجية للسياسة الروسية، كما أنه جاء بعد فوز الرئيس "بوتين" العام الماضي بفترة رئاسية رابعة، والتي وعد خلالها الناخبين بتحسن الأوضاع. 

وقد حضره نواب الجمعية التشريعية ونحو ألف شخص من أعضاء الحكومة والنائب العام ومسئولو المحاكم الدستورية والعليا والمحافظون وزعماء الطوائف الرئيسية، كما تم اعتماد أكثر من 750 صحفيًّا روسيًّا وأجنبيًّا لتغطية الحدث الذي استغرق نحو ساعة ونصف تحدث فيها الرئيس "بوتين"، أمضى خلالها نحو ساعة وربع في الحديث عن الشأن الداخلي الروسي، فيما لم يخصص للعلاقات الخارجية الروسية الغربية سوى ربع ساعة فقط من خطابه.

تعزيز الخدمات العامة:

احتلت القضايا الداخلية حيزًا كبيرًا من خطاب الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" للجمعية الفيدرالية الروسية هذا العام، حيث أشار إلى أهمية الإصلاحات في مختلف المجالات. ففيما يتعلق بالنظام القضائي، أكد "بوتين" أهمية إعادة النظر في نظام الاحتجاز بدون تحقيق، كما أمر ببناء وحدات صحية في جميع الأقاليم الروسية التي تعاني من ضعف الخدمات الصحية، وتطوير مستشفيات الأطفال، وتخصيص نحو تريليون روبل خلال السنوات المقبلة لمكافحة مرض السرطان، وبالنسبة للمجال الثقافي طالب برفع الضرائب عن المؤسسات الثقافية لتشجيع الثقافة. 

كما أكد ضرورة الاهتمام بالتقدم التكنولوجي، وتعديل القوانين اللازمة لتحقيق هذا الهدف، وتطوير بنية تحتية متقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي. وعلى الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، أكد "بوتين" ضرورة دعم الأسر من خلال تخفيض الضرائب للتشجيع على الإنجاب، خاصة مع تراجع معدل المواليد، وتخصيص منح مالية للأسر التي تُرزق بمولود ثالث (نحو 7 آلاف دولار)، ومواجهة الغلاء من خلال رفع رواتب موظفي الدولة لتتناسب مع مستوى التضخم في ظل وجود ما يقدر بحوالي 19 مليون روسي تحت خط الفقر.

وفيما يتعلق بالقضايا البيئية، أشار "بوتين" إلى ضرورة حل أزمة النفايات، وزيادة الإنفاق المخصص لذلك من 9% إلى 60%. وبالنسبة للتعليم، أوضح ضرروة تجهيز جميع المدارس بالمعدات الحديثة خلال عامين.

رسائل خارجية تحذيرية:

على الرغم من أن قضايا السياسة الخارجية لم تحتل المدة الأكبر من خطاب "بوتين"؛ إلا أن رسائله في هذا الصدد اتسمت بأنها مباشرة وحازمة، ويمكن القول إنها جاءت بمثابة رسائل ردع بالتزامن مع العودة الروسية إلى الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، من خلال الدور الروسي في الأزمة السورية، ومحاولات الانخراط في عملية السلام في الشرق الأوسط التي يعد من أحدث مؤشراتها مؤتمر موسكو الذي عُقد مؤخرًا لمحاولة حل الخلافات والانقسامات الفلسطينية في سبيل دفع عملية السلام، والدعم الروسي للرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" في مواجهة محاولة الانقلاب عليه المدعومة أمريكيًّا.

ولم يتطرق "بوتين" إلى الأزمة السورية في خطابه، وقد يكون ذلك دليلًا على عدم الرغبة في التصعيد، خاصة بعد المكاسب التي حققتها روسيا على أرض الواقع السوري، أو قد يكون في انتظار نتائج المحادثات التي جرت مؤخرًا في قمة سوتشي بين كل من روسيا وإيران وتركيا في فبراير 2019، وبالتالي فهو لا يريد استباق الأحداث، لكنه في الوقت نفسه وعلى الرغم من ذلك أوضح مدى قوة الردع الروسي من خلال إعلانه استخدام أول غواصة نووية حاملة للصواريخ "بوسيدون" في ربيع هذا العام، إلى جانب إعلانه عن تطوير منظومة الصواريخ الفائقة للصوت "أفانجارد"، واستمرار العمل على تطوير صاروخ "تسيركون"، مؤكدًا المضيّ قدمًا في إنتاج مزيدٍ من الأسلحة الدفاعية المتطورة، الأمر الذي يوضح استمرار النهج الدفاعي العسكري الذي ركز عليه "بوتين" في خطاب العام الماضي الذي اتخذ صبغة عسكرية واضحة ضمن سياق الانتخابات الرئاسية آنذاك.

كما وجه "بوتين" في نهاية الخطاب الحالي سؤالًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية دعا من خلاله واشنطن لحساب المسافة والوقت المستغرق لإطلاق الصواريخ الروسية تجاه الولايات المتحدة قبل اتخاذ أي قرار بشأن روسيا، مؤكدًا أن روسيا ستقوم بالرد في حالة تعرضها للخطر، ومحذرًا من أن الأسلحة الجديدة ستوجَّه إلى الولايات المتحدة في حال نشر الصواريخ الأمريكية في أوروبا، وأن موسكو سوف تستهدف الأراضي التي يأتي منها التهديد، في رسالة تحذيرية إلى حلفاء واشنطن في شرق أوروبا، وكذلك في آسيا، وذلك للفت الانتباه إلى العلاقات مع اليابان في إشارة سريعة إلى إمكانية التفاوض مع طوكيو بشأن معاهدة ترسيم الحدود، وما يتعلق بالجزر المتنازع عليها بينهما.

توازنات الداخل والخارج:

يحاول الرئيس الروسي تحقيق التوازن بين تطلعات المواطنين الداخلية والطموحات الخارجية الروسية، وهو ما تجلى في خطابه الذي حمل رسائل مزدوجة. فعلى الصعيد الداخلي، يعد الخطاب إشارة واضحة على إدراك القيادة الروسية لأهمية قوة الجبهة الداخلية في سبيل إعادة البناء الخارجي، ومواجهة التحديات الخارجية والعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا.

كما يتضح من المساحة الكبيرة التي شغلتها القضايا الداخلية مقارنة بالخارجية في الخطاب محاولته التأكيد على فكرة أن الانخراط الروسي في القضايا الدولية لا يعني تراجع الاهتمام بالأوضاع الداخلية والمشاريع الاستراتيجية الوطنية للتنمية، والقضايا الحساسة التي تشغل اهتمام المواطنين الروس، كما يحمل الخطاب تأكيدًا على أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو لم تؤثر على خطط التنمية الاقتصادية الروسية. 

كذلك حمل الخطاب عددًا من الرسائل التي تؤكد انفتاح روسيا على الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من العقوبات، وانسحابها من "معاهدة تصفية الصواريخ المجنحة" المتوسطة والقصيرة المدى، مثلما انسحبت من قبل من معاهدة الحد من الأنظمة المضادة للصواريخ. وترى موسكو أن "واشنطن تخالف وتبحث عن المذنب" حيث تدعي أن روسيا تمثل تهديدًا للأمن والاستقرار الدولي.

ومع تدهور العلاقة بين الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" والكونجرس الأمريكي، ومحاولات الكونجرس كبح علاقات "ترامب" مع موسكو، فإنه من المتوقع أن تشهد العلاقات الأمريكية الروسية مزيدًا من التدهور في الفترة المقبلة، لكن ذلك لا ينطبق بالضرورة على العلاقات مع الجانب الأوروبي، ويتجلى ذلك من خلال دعم ألمانيا لمشروع "السيل الشمالي 2" (2 Nord Stream) على الرغم من انتقادات واشنطن، والذي تقدر قيمته بنحو 11 مليار دولار لإنشاء خطوط للأنابيب أسفل بحر البلطيق لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا، وهو ما يتعارض مع العقوبات المفروضة على روسيا.

وفي هذا الإطار، قام الاتحاد الأوروبي في فبراير 2019 بوضع قواعد وإجراءات إضافية في سبيل التوصل إلى حل وسط بهدف إنجاز هذا المشروع مع ضمان الرقابة عليه، حيث تم الاتفاق على تعديل الأمر التوجيهي للاتحاد الأوروبي للسماح للمفوضية الأوروبية بفرض مزيد من الرقابة على خطوط أنابيب الغاز، بما في ذلك المشروع الألماني الروسي، وذلك أخذًا في الاعتبار أن حجم واردات دول الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي الروسي يصل إلى نحو 40%، وتحصل ألمانيا على أكثر من 50% من وارداتها من الغاز الطبيعي من روسيا. الأمر الذي يقوض من فاعلية العقوبات الاقتصادية على موسكو، بل ويعطيها نفوذًا متزايدًا في إطار الحرب الباردة الجديدة مع واشنطن، ويمثل عاملًا حاكمًا في العلاقات الروسية الأوروبية.

تحديات الدور الروسي: 

يأتي هذا الخطاب موضِّحًا رؤية "بوتين" السياسية وتوجهاته وطموحاته المستقبلية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وتأكيداته المستمرة على ضرورة الحفاظ على الدولة قوية، حيث أشار أكثر من مرة إلى أن الخطر لا يتمثل في قوة أجهزة إنفاذ القانون، ولكن في عقلية الشعب، أي في طريقة التفكير، ولذلك يرى أنه حتى في ظل الديمقراطية لا بد من فرض النظام الصارم بقبضة من حديد، وأنه لا بد من تعزيز العلاقات مع الأجهزة الأمنية، وذلك في إطار سعي "بوتين" لتقديم قيمة وطنية للشعب الروسي للتمسك بها، لذلك فإن "بوتين" لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة في روسيا على الرغم من كافة العقوبات التي فُرضت على روسيا بعد ضم إقليم القرم.

وتتمثل المعضلة الأكبر التي يواجهها "بوتين" رغبته في تحقيق التوازن بين التقاليد السوفيتية الرامية لترسيخ سيادة روسيا، وبين ممارسة الديمقراطية بمتطلباتها، وذلك بهدف تحقيق ما يريده غالبية المواطنين ألا وهو الاستقرار، وهو ما أكده في خطابه. حيث ذكر أن روسيا كانت وستبقى دولة مستقلة ذات سيادة. 

وختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من نجاح الرئيس "بوتين" في تحقيق الاستقرار الداخلي، واستعادة مكانة روسيا في النظام السياسي الدولي؛ إلا أن البعض  يشكك في إمكانية استمرارية هذا الدور في ظل التغيرات الدولية المتسارعة، خاصة تلك التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت مسرحًا للتنافس الأمريكي الروسي، وكذلك مدى قدرة "بوتين" على موازنة العلاقات الخارجية مع أوروبا، وهو ما يرتبط بعاملين في الوقت الراهن؛ أولًا استمرار اعتماد أوروبا على موارد الطاقة الروسية، وثانيًا التباعد الأمريكي الأوروبي بعد تصاعد الخلافات بسبب سياسات "ترامب" الفردية، وتوجهاته الانسحابية من حلف الناتو والاتفاقيات الدولية. كما يظل هناك تساؤل حول إمكانية تحقيق "بوتين" لوعوده وتوجيهاته الخاصة بالإصلاحات الداخلية التي أمر بها "بوتين" في ظل استمرار التحديات الاقتصادية.