خطوط حمراء:

الصراع على "طالبان" بين واشنطن وطهران

03 February 2019


رغم أن اتجاهات عديدة اعتبرت أن اتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية خطوات إجرائية لتفعيل استراتيجية الانسحاب من أفغانستان يتوافق مع مصالح إيران ومحاولاتها تعزيز نفوذها داخل الأخيرة، فإن ذلك قد لا يكشف الملامح الكاملة للمشهد السياسي والأمني في كابول، وقراءة الأطراف الإقليمية والدولية لها. صحيح أن طهران دعت أكثر من مرة إلى انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، وعلى رأسها القوات الأمريكية، إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أن أية خطوة من هذا القبيل قد تثير مخاوفها، خاصة في الوقت الذي تتصاعد فيه الضغوط المفروضة عليها وتتزايد احتمالات اللجوء إلى خيارات أخرى في التعامل معها، غير المفاوضات والعقوبات، بما فيها الخيار العسكري.

ومن هنا، لا يبدو أن إيران سوف تقف صامتة أمام تفعيل أى اتفاق محتمل بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة "طالبان"، خلال المفاوضات التي تجري بين الطرفين، حيث أنها سوف تحاول التحرك من أجل احتواء أية تداعيات محتملة قد يفرضها هذا الاتفاق على مصالحها ورؤيتها للترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها في أفغانستان خلال المرحلة القادمة.

اعتبارات متعددة:

لم تبد إيران رد فعل إيجابيًا إزاء المفاوضات التي تجري بين واشنطن و"طالبان"، والتي تتزامن مع محادثات انخرطت فيها مع الأخيرة في طهران، تسببت في استياء الحكومة الأفغانية. ويمكن القول إن هذه المفاوضات وما يمكن أن يتمخض عنها من نتائج قد تفرض تأثيرات على مصالح إيران من زوايا رئيسية خمسة تتمثل في:

1- عرقلة الترتيبات الأمنية: سوف يضع هذا الاتفاق المحتمل عقبات عديدة أمام المحاولات التي تبذلها إيران للمشاركة في صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في أفغانستان خلال المرحلة القادمة. إذ لا تستبعد طهران أن تقوم بإعادة قسم من ميليشيا "فاطميون" التي تقاتل في سوريا إلى جانب نظام الأسد إلى أفغانستان من جديد، بعد تغير توازنات القوى في سوريا لصالح حليفها. 

وهنا، فإن "طالبان" قد ترفض هذه المحاولات، خاصة أن أحد أهم عناوين مفاوضاتها مع الإدارة الأمريكية يتعلق بالعمل على منع انتقال التنظيمات الإرهابية إلى أفغانستان من جديد، أو التحالف معها على غرار ما كان قائمًا مع تنظيم "القاعدة"، وهو التحالف الذي تسبب في تعرض أفغانستان إلى الغزو الأمريكي وسقوط نظام "طالبان" بعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

ومن ثم، فإن واشنطن و"طالبان" سوف تعتبران، على الأرجح، أن هذه التنظيمات لن تقتصر على "القاعدة" و"داعش" وإنما ستمتد أيضًا، على الأرجح، إلى الميليشيات الموالية لإيران، على نحو سوف يُعرِّض الأخيرة لضغوط قوية حتى قبل انتقالها فعلاً إلى داخل أفغانستان.  

ويبدو أن تأمين عودة "فاطميون" تحديدًا كان أحد الأهداف الرئيسية التي سعت إيران إلى تحقيقها عبر تغيير سياستها إزاء "طالبان" التي تحولت، بالنسبة لها، من خصم إقليمي إلى طرف يمكن الانخراط معه في تفاهمات سياسية وأمنية، بعيدًا عن التنسيق مع الحكومة الأفغانية.

2- تعزيز خيار صعود "طالبان" إلى السلطة: ربما تعتبر طهران أن أى اتفاق محتمل بين واشنطن و"طالبان" يمكن أن يعزز من احتمالات وصول الأخيرة إلى السلطة من جديد بأى شكل، على نحو لا يمكن أن تقبل به الأولى بسهولة. فرغم أنها غيرت سياستها إزاء "طالبان"، فإن ذلك لا يعني أنها في وارد تدعيم محاولاتها الصعود إلى سدة الحكم مرة أخرى.

وبمعنى أدق، فإن إيران ترغب في تأسيس قنوات تواصل مع "طالبان" باعتبارها طرفًا سياسيًا وليس شريكًا في الحكم. ويعود ذلك بالطبع، إلى أن الاحتمال الأخير يمكن أن يؤدي إلى صعود الخلافات الكبيرة بين الطرفين على الساحة من جديد، وهى الخلافات التي توارت نسبيًا عقب خروج "طالبان" من السلطة، ومحاولات طهران التواصل معها لممارسة ضغوط على الوجود الأمريكي في أفغانستان. وقد كادت هذه الخلافات أن تؤدي إلى نشوب مواجهة عسكرية بين الطرفين عام 1998، قبل أن تتراجع إيران عنها لتجنب عواقبها الوخيمة.

3- إضعاف حضور إيران: لا تبدي طهران ارتياحًا للدعم الواضح الذي تقدمه كابول للمفاوضات التي تجري بين الولايات المتحدة الأمريكية و"طالبان"، خاصة أنه توازى مع الانتقادات التي وجهتها كابول إلى المحادثات التي أجرتها طهران مع وفد من الحركة في الفترة الماضية. 

إذ أن هذا التباين الملحوظ في موقف كابول إزاء المقاربة الإيرانية والأمريكية للعلاقات مع "طالبان" يوجه رسائل لا تتوافق مع مصالح إيران، أهمها أن الدور الذي تقوم به الأخيرة يعرقل الجهود التي تبذل للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة الأفغانية ويساهم في تفاقم الأضطرابات الأمنية والسياسية، على نحو ما هو قائم في الأزمات الإقليمية الأخرى، على غرار الأزمتين السورية واليمنية. 

4- حماية المصالح الأمريكية: ترى طهران أن هذه المفاوضات يمكن أن تمثل دفعة لتفعيل مساعي الولايات المتحدة الأمريكية للانسحاب من أفغانستان، على نحو يمكن أن يساهم في إبعاد مصالح أمريكية حيوية عن بؤر الضغط الإيرانية في أفغانستان. وبمعنى أدق، يمكن القول إن إيران دائمًا ما كانت ترى أن الوجود العسكري الأمريكي في المناطق المحيطة بها يمثل سلاحًا ذا حدين. 

إذ أنه يساهم في إحكام الحصار حولها بما يعني تهديد أمنها بصفة مستمرة، لكنه في الوقت نفسه يمنح فرصة لطهران للاحتفاظ بالقدرة على استهداف مصالح أمريكية مهمة، وهى قدرة قد تستند إليها في لحظة ما، لا سيما في حالة ما إذا نشبت مواجهة عسكرية بين الطرفين أو صعَّدت الولايات المتحدة الأمريكية من حدة الضغوط التي تفرضها عليها. 

ورغم أن احتمال نشوب هذه المواجهة قد يبدو ضعيفًا، إلا أن طهران لم تعد تستبعده، في ظل إصرار الإدارة الأمريكية على كبح طموحاتها على المستويين الإقليمي والنووي، حيث بدأت في تبني آلية العقوبات الاقتصادية، لكنها قد تفكر في خيارات أخرى في حالة ما إذا لم تحقق تلك الآلية نتائج بارزة.

فضلاً عن ذلك، فإن إيران دائمًا ما كانت ترى أن أى انسحاب أمريكي جدي من أفغانستان لا يمكن أن يتم إلا بالتنسيق معها، بما يعني أنها كانت تتوقع دائمًا أن تقوم واشنطن بفتح قنوات تواصل معها لتأمين انسحابها من أفغانستان، على نحو كانت تحاول أن تستغله لمساومة واشنطن أو تقليص الضغوط التي تمارسها ضدها، أو إقناعها بضرورة تغيير النهج الذي تتبعه إزاءها.

وهنا، فإن إيران قد ترى أن اتجاه واشنطن إلى تفضيل الحوار مع "طالبان" قد يقلص من احتمالات حدوث هذا السيناريو، على نحو يضعف من أهمية "الورقة" الأفغانية التي تحاول استغلالها في مواجهة إدارة الرئيس ترامب. 

5- توسيع خيارات "طالبان": يبدو أن إجراء مفاوضات بين واشنطن و"طالبان" جاء في وقت غير مواتٍ بالنسبة لطهران. إذ أن الأخيرة كانت تُعوِّل على أن الحركة الأفغانية لا تمتلك خيارات متعددة على المستويين الإقليمي والدولي، في ظل إصرارها على تهديد الاستقرار السياسي والأمني داخل أفغانستان عبر تنفيذ عمليات إرهابية، بشكل كان يمكن أن يعزز موقع طهران وقدرتها على وضع شروط لمواصلة التقارب مع الحركة.  

لكن هذا السيناريو تراجع بشكل ملحوظ بعد انخراط الحركة في مفاوضات مع واشنطن، على نحو يمكن أن يساهم في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمام "طالبان" وربما يعزز قدرتها هى على وضع شروط لتحسين علاقاتها مع طهران.

عرقلة الاتفاق:

وعلى هذا النحو، فإن إيران قد تتحرك من أجل عرقلة تفعيل أى اتفاق محتمل بين الولايات المتحدة الأمريكية و"طالبان" خلال المرحلة القادمة، خاصة أنها ترى أن هذا الاتفاق يمثل محاولة جديدة من جانب واشنطن لتكريس عزلتها الإقليمية وكبح تدخلاتها في الأزمات المختلفة في منطقة الشرق الأوسط. وبمعنى أدق، فإن إيران ترى أنها الطرف الرئيسي المعني بالنتائج المحتملة التي قد تسفر عنها تلك المفاوضات وما يمكن أن تفرضه من معطيات جديدة على الأرض.