خطوات تكتيكية:

لماذا يتقارب الأكراد مع النظام السوري؟

19 January 2019


اتسمت العلاقة بين النظام السوري والأكراد منذ بداية الأزمة السورية بطابع براجماتى، حيث وفرت الأزمة فرصة للأكراد للظهور على الساحة كطرف مؤثر خاصة في مواجهة تنظيم "داعش" في مناطق شرق الفرات مع تشكيلهم لقوة عسكرية لمحاربة التنظيم، واستغلالهم لهذا الدور في فرض النفوذ داخل المناطق التي تم تحريرها من الأخير. 

لكن التطورات التي تلت هزيمة التنظيم، خاصة مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب العسكري من سوريا، دفعت الأكراد إلى العمل على صياغة تحالفات جديدة والاتجاه نحو مزيد من التقارب مع النظام السوري، بهدف التوصل إلى تفاهمات حول مستقبلهم السياسي، بعد أن تراجع مشروع إقليم الحكم الذاتي الذي كان يلوح في الافق في ظل الدعم الأمريكي، وهو ما كان أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت تركيا إلى التهديد بالتدخل عسكريًا، على نحو سوف يحاول النظام السوري توظيفه للحصول على مكاسب جديدة خلال المرحلة القادمة.  

دوافع متعددة

يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة تدفع الأكراد إلى التوجه نحو التقارب مع النظام، يتمثل أبرزها في:

1- مجال آمن للحركة: في اليوم التالي لإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرار الانسحاب العسكري من سوريا، تشكلت مجالات عديدة للحركة الكردية، حيث اتجه وفد كردي إلى دمشق لتفعيل مسار جديد للحوار مع النظام، فيما قام وفد آخر بزيارة قاعدة "حميميم" بهدف تعزيز هذا الحوار بغطاء روسي، وربما السعى إلى تأمين حليف دولي بديل لواشنطن.

ويبدو أن تلك اللقاءات سوف تسفر عن اتخاذ خطوات تكتيكية مرحلية لتسليم النظام بعض المواقع التي ستقوم القوات الأمريكية بإخلائها، حيث أعلن النظام، في 3 يناير الجاري، عن انسحاب نحو 400 مقاتل من ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" من منطقة منبج في ريف حلب الشمالي الشرقي نحو مناطق شرق نهر الفرات، زاعمًا أن عملية الانسحاب تمت تنفيذًا لاتفاق يهدف إلى عودة الحياة الطبيعية إلى شمال سوريا. لكن تقارير عديدة كشفت بعد ذلك أن قوات النظام لم تدخل مدينة منبج التي لا تزال تتواجد فيها قوات أمريكية وقوات تركية كانت تتأهب لطرد الأكراد منها.

2- تعزيز مسار قائم: لم تكن تلك الجولة هى الأولى من نوعها، حيث سبقتها عدة جولات كان أبرزها جولتان أجريت الأولى خلال منتصف عام 2017، وأبدى خلالها الطرفان استعدادات مشتركة للتنسيق، حيث طالب الأكراد آنذاك باستئناف الخدمات من كهرباء وصحة وتعليم، فيما طالب النظام باستعادة السيادة على تلك المناطق التى أنشا فيها الأكراد إدارات ذاتية.

لكن تلك المفاوضات لم تسفر عن تفاهمات معلنة باستثناء ما أشار إليه عضو مجلس سوريا الديمقراطية محيي الدين مصطفى من الاتفاق على تشكيل لجنة فنية تابعة للنظام لبحث أوضاع السدود ومحطات الكهرباء وحقول النفط التي دمرت خلال الحرب على "داعش" وإعادة تأهيل تلك المنشآت.

أما الجولة الثانية، فكانت في منتصف عام 2018، وتركزت على استئناف النظام مساعيه لاستعادة مظاهر السيادة من خلال تقويض الإدارة الذاتية ومحاولة إدماج الميليشيا الكردية في الجيش السورى وتسليم المعابر وحقول النفط والغاز لوزارة النفط السورية، في مقابل انخراط الأكراد في الإدارة المحلية لتلك المناطق.

3- تحقيق مكاسب سياسية: سعى الأكراد عبر تأسيس علاقة مع النظام إلى تأمين أكبر قدر ممكن من المكتسبات عبر آلية الحوار المشترك، وتلافي فتح جبهة مواجهة جديدة قد تتسبب في زيادة الخسائر الكردية، خاصة وأن النظام لا يملك بدوره خيارات متعددة في تلك المواجهة.  

تباينات دولية

وجه أكراد سوريا دعوة إلى روسيا من أجل ممارسة دور الوسيط لإجراء حوار متقدم مع النظام، وطرح رشاد بنعاف ممثل الأكراد في روسيا مبادرة لقيام الأخيرة بهذا الدور، مشيرًا إلى وجود خلافات عميقة لدى الجانبين. لكن الموقف الروسي بدا منحازًا من البداية للنظام، وهو ما انعكس في تصريحات ماريا زخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية، التي دعت فيها الأكراد إلى نقل السيطرة على الأراضي التي كانت تنتشر فيها القوات الأمريكية إلى الحكومة السورية، ثم أتبعت ذلك بالحديث عن أهمية الحوار المشترك بين الأكراد والنظام، وهو ما يمثل مؤشرًا على رغبة روسيا في دفع الأكراد إلى تقديم تنازلات استباقية قبل الخوض في أية مفاوضات محتملة على أن يكون المقابل لذلك هو السعى لوقف التدخل العسكري التركي.   

أما بالنسبة للموقف الأمريكي، فيمكن القول إنه على الرغم من عودة الولايات المتحدة إلى التركيز على الملف الكردي، إلا أنها تجنبت المقاربة الخاصة بالعلاقة مع النظام، حيث ركزت على أهمية تأمين الأكراد في مواجهة تركيا. وربما يدفع ذلك الأكراد إلى محاولة توظيف هذا الدور في تقليص الضغوط التي يمارسها النظام الذي يستغل التدخل التركي كدافع للتقارب بأقل ثمن ممكن. 

ومع أن ثمة مبادرات عديدة طرحت خلال التفاهمات التي أجرتها واشنطن وأنقرة لإنشاء منطقة حدودية آمنة على الحدود السورية– التركية، إلا أن التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 14 يناير الجاري، وتوعد فيها تركيا بـ"دمار اقتصادي في حالة ما إذا هاجمت الأكراد"، سوف تفرض تداعيات قوية على المسارات المحتملة لتلك التفاهمات خلال المرحلة القادمة.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن التقارب بين الأكراد والنظام السوري سوف يظل مرتبطًا بمواقف وحسابات الأطراف الأخرى المنخرطة في الصراع والمعنية بتداعياته. والمرجح أن تظل جولات الحوار التي تجري بين الطرفين غير قادرة على الوصول إلى صيغة تفاهم على أرضية مشتركة، بسبب الخلافات المستمرة حول السيادة والنفوذ.