تكريس النفوذ:

لماذا تولى صادق لاريجاني رئاسة مجلس التشخيص؟

08 January 2019


لم يكن القرار الذي اتخذه المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي، في 30 ديسمبر 2018، بتعيين رئيس السلطة القضائية صادق آملي لاريجاني رئيسًا لمجلس تشخيص مصلحة النظام خلفًا لمحمود هاشمي شاهرودي الذي توفى قبل ذلك بنحو أسبوع، مفاجئًا للقوى والتيارات السياسية الإيرانية، لاعتبارات عديدة، يرتبط أهمها بالمحددات التي التزم بها النظام فيما يتعلق بتدوير المناصب الرئيسية خلال العقود الأربعة الماضية، إلى جانب ما تفرضه الأزمات السياسية الداخلية التي تفاقمت بفعل العقوبات والضغوط الأمريكية من تغييرات في توازنات القوى السياسية باتجاه إعادة تكريس نفوذ تيار المحافظين الأصوليين القريب من مؤسسة المرشد، على نحو يوحي بأن الفترة القادمة ربما تشهد مزيدًا الخطوات التي تهدف إلى توسيع نطاق تأثير هذا التيار على عملية صنع القرار السياسي.

متغيرات مختلفة:

أشارت اتجاهات عديدة إلى أن أحد أهم الأسباب التي دفعت في اتجاه تعيين صادق لاريجاني في منصب رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي يتولى وضع السياسة العليا للدولة بالتشاور مع المرشد وحسم الخلافات التي يمكن أن تنشب بين مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) ومجلس صيانة الدستور، هو رئاسته للسلطة القضائية، منذ منتصف أغسطس 2009، وهو المنصب نفسه الذي سبق أن تولاه شاهرودي أيضًا، خلال الفترة من عام 1999 وحتى عام 2009، على نحو يوحي بأن تولى مناصب في سلك القضاء يمهد، وفقًا لتلك الاتجاهات، إلى ترؤس هذه المؤسسة التي تحظى بأهمية خاصة من جانب النظام.

واللافت في هذا السياق أيضًا، أن لاريجاني وشاهرودي اتهما من جانب أطراف داخلية وخارجية بالمشاركة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لدرجة اكتسبت اهتمامًا دوليًا بارزًا، بدا جليًا في تطورين مهمين: يتمثل أولهما، في تصاعد حدة الجدل داخل ألمانيا، في يناير 2018، عقب تقدم بعض النشطاء الألمان بشكوى إلى المدعي العام الألماني ضد شاهرودي الذي كان يعالج في إحدى مستشفيات هانوفر خلال تلك الفترة، داعين إياه إلى محاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إلا أنه، طبقًا لتقارير عديدة، تمكن من الخروج من ألمانيا قبل أن يواجه مشكلة حقيقية في هذا السياق.  وقد دعمت بعض منظمات المعارضة الإيرانية في الخارج، وفي مقدمتها المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، تلك الشكوى، حيث طالبت السلطات الألمانية بإصدار مذكرة توقيف عاجلة ضد شاهرودي.

وينصرف ثانيهما، إلى حرص الولايات المتحدة الأمريكية على وضع صادق لاريجاني ضمن قائمة العقوبات التي أعلنتها في 11 يناير 2018، وضمت 14 مسئولاً وجهة إيرانية، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان وقمع المتظاهرين، خاصة عقب الاحتجاجات التي شهدتها إيران في ديسمبر 2017، وبدأت في مدينة مشهد حتى وصلت إلى العاصمة طهران.

لكن هذه القراءة تواجه إشكاليات متعددة، أهمها أن تولي مناصب قضائية لا يمثل، بالضرورة، شرطًا مسبقًا للوصول إلى منصب رئيس مجلس التشخيص، وهو ما يبدو جليًا في حالة رئيس الجمهورية الأسبق هاشمي رفسنجاني الذي توفى في يناير 2017، وكان أكثر المسئولين الإيرانيين بقاءً في منصب رئيس المجلس.

رسالة تحدي:

من هنا، يمكن القول إن ثمة أسبابًا أخرى دفعت خامنئي إلى تبني هذا الخيار أهمها أنه يمثل رسالة من النظام إلى الداخل والخارج بأنه لن يقدم على إجراء تغيير في سياسته لتقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها بسبب العقوبات الأمريكية والاحتجاجات الداخلية.

وبعبارة أخرى، فإن النظام يحاول عبر هذه الخطوة توجيه إشارة تحدي تفيد إصراره على المضى قدمًا سواء في مواجهة الاحتجاجات الداخلية التي ما زالت مستمرة حتى الآن بتبني سياسة قمعية، أو في مواصلة أدوار إيران التدخلية في منطقة الشرق الأوسط ودعم التنظيمات الإرهابية وتطوير البرنامجين الصاروخي والنووي.  

وكان لاريجاني قد حرص، بالتوازي مع إعلان قرار تعيينه رئيسًا للمجلس، على تأكيد ولائه للمرشد واقترابه إلى حد كبير من سياسته المتشددة، على نحو انعكس في انتقاداته القوية للاحتجاجات الداخلية وتحذيره من إمكانية أن تتحول إلى ما أسماه "فتنة جديدة"، في إشارة إلى الأزمة السياسية التي اندلعت في إيران عام 2009 عقب اعتراض "الحركة الخضراء" على نتائج الانتخابات الرئاسية، التي زعمت أنها شهدت عمليات تزوير أسفرت عن فوز الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية.

ومع أنه كان لافتًا أن مجلس التشخيص وافق، في اجتماعه الأول برئاسة لاريجاني، في 5 يناير الجاري، على مشروع إصلاح قانون مكافحة غسيل الأموال الذي حاولت الحكومة تمريره للتجاوب مع المطالب الأوروبية من أجل تعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي، فإن ذلك قد لا يؤشر إلى أن المجلس، في ظل رئاسة لاريجاني، سوف يدعم جهود الحكومة أو يتبنى سياسة أكثر مرونة خلال المرحلة القادمة.

ومن دون شك، فإن تعيين لاريجاني في منصبه الجديد لم يكن إشارة التحدي الوحيدة التي وجهتها إيران، حيث سبقتها إشارات متعددة، من بينها الإعلان عن إجراء تجربة جديدة لصاروخ باليستي في 12 ديسمبر 2018، وعن اقتراب موعد إطلاق القمر الصناعي "بيام" وصواريخ تطلق طهران عليها اسم "مركبات إطلاق فضائية"، على نحو أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أنه يمثل انتهاكًا للاتفاق النووي وقرار مجلس الأمن رقم 2231 باعتبار أن البرنامج الذي أسسته إيران في هذا الإطار يعتمد على تكنولوجيا الصواريخ الباليستية.

خيارات محدودة:

فضلاً عن ذلك، تشير الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها المرشد خامنئي إلى أنه بات يواجه خيارات محدودة فيما يتعلق بالأدوات المتاحة أمامه لإعادة ضبط توازنات القوى السياسية. إذ يبدو أن تفاقم الأزمات الداخلية في إيران وتصاعد حدة الضغوط الخارجية قد دفع خامنئي إلى الاتجاه نحو الاعتماد على دائرة ضيقة للنخبة السياسية والدينية القريبة منه، والتي يمكن أن تتولى مناصب بارزة داخل النظام، ربما تمهيدًا لتصعيد إحدى شخصياتها إلى منصب المرشد نفسه في حالة غياب خامنئي عن المشهد السياسي في أى وقت، وهو ما يشير إلى أن النظام قد يواجه مأزقًا حرجًا في المرحلة القادمة، في حالة ما إذا تمكنت هذه النخبة من تكريس سيطرتها على أركانه.

وهنا، كان لافتًا أيضًا، على سبيل المثال، أن صادق لاريجاني بات يتولى أكثر من ثلاثة مناصب بارزة داخل النظام، هى رئيس السلطة القضائية ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام وعضو من الفقهاء في مجلس صيانة الدستور، وهو المؤسسة التي تفصل في تشريعات مجلس الشورى وتبت في أهلية المرشحين للاستحقاقات الانتخابية المختلفة، إلى جانب عضويته في مجلس خبراء القيادة الذي يتولى سلطة تعيين وعزل المرشد ومراقبة أعماله.  

لكن ثمة تقارير إيرانية تشير إلى أن خامنئي قد يجري تغييرات أخرى بعد تعيين صادق لاريجاني في منصب رئيس مجلس التشخيص، خاصة أنه ترأس السلطة القضائية لمدة عشرة أعوام، حيث ترشح هذه التقارير المشرف على العتبة الرضوية والمرشح الخاسر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إبراهيم رئيسي ليحل محل لاريجاني في منصب رئيس القضاء.

إن ما سبق في مجمله يكشف أن الضغوط الداخلية والخارجية التي تتعرض لها إيران بدأت تفرض معطيات جديدة حتى على توازنات القوى السياسية، التي ربما تكون مقبلة على تحولات نوعية على ضوء المسارات المحتملة التي قد تتجه إليها هذه الضغوط في المرحلة القادمة.