"الشر الغيري":

الإرهابيون إذ يقتلون تحت أوهام "اليوتوبيا"

21 November 2015


عبر سنوات من القراءة والبحث في ظاهرة الإرهاب بوصفه "الاستخدام المنظم للعنف غير القانوني لتحقيق أهداف قد تكون نفعية أو عقائدية، وهو عنف يستند إلى تبرير أيديولوجي"، لفت نظري وجود مدرسة في الثقافة الأنجلوسكسسونية لا تقبل الربط بين الإرهاب والأديان، وكذلك بين الإرهاب وبين التطرف الديني على وجه الحصر والقصر.

وعلى سبيل المثال، ففي يوليو 2005 عندما كانت بريطانيا تحت تأثير صدمة "تفجيرات لندن"، كان من بين الكتب الأكثر مبيعاً في بريطانيا كتاب مثير للجدل عنوانه "الإرهاب: حرب أهلية في الثورة الفرنسية"، الذي كان مؤلفه (المؤرخ البريطاني المتخصص في تاريخ الثورة الفرنسية دافيد أندرس) يقوم بـ "توثيق مضاد" لما هو سائد في الخطاب العام الذي يربط الإرهاب بالتشدد الديني – وبخاصة الإسلامي – عبر تأكيده في كتابه المشار إليه، أن الإرهاب هو حرب أهلية داخل الثورة الفرنسية!.

من جانبه، فإن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، في هجومه على التطرف الإسلامي خلال مشاركته في مؤتمر حول الأمن في العاصمة السلوفاكية براتسلافا في يونيو الماضي، اعتبر أن جماعات مثل "داعش" تضع العقيدة فوق حكم القانون. وكشف إعلان كاميرون مدى تراجع دور الدين في حياة البريطانيين، فغالبيتهم كانوا طيلة الشطر الأعظم من تاريخهم يعتبرون أن من الطبيعي أن تعلو الشرائع السماوية على القوانين الوضعية، بل كانوا يرون أن "العقيدة الدينية" توفر الأساس لحكم القانون؛ ففي مقدمة "الماجنا كارتا" الصادرة قبل 800 عام، يعلن الملك قبوله تحديد سلطته "إجلالاً للخالق" و"احتراماً للكنيسة"، وبذلك تكون هذه الوثيقة التي تشكل حجر الزاوية في حكم القانون والحرية، قد أُرسيت على أُسس دينية صريحة، ويعني هذا أن القول بوجود تناقض متأصل بين القانون والدين فكرة حديثة العهد.

ولكون هذه العلاقة المفترضة بين التطرف الديني والإرهاب تتعارض مع الرؤية الأنجلوسكسونية للعلاقة بين الدين والشأن العام، فإن السنوات القليلة الماضية شهدت ظهور اجتهادات في وصف ظاهرة الإرهاب وتفسيرها على نحو مغاير.

ومن بين هذه الأدبيات ما يربط بين الإرهاب والاستبداد السياسي، وما يربط بينه وبين أحزمة البؤس والسخط في عالم الجنوب/ الشرق، حيث الفقر تربة خصبة لمشاعر نقمة ويأس تسهم بقوة في وجود أناس لديهم طاقة هدم وشعور بالعدمية يجعلهم غير مكترثين لا لحياتهم ولا لحياة من يسقطون ضحايا عنفهم. لكن الإرهاب أيضاً – وعلى النقيض مما أشرنا إليه سلفاً – يمكن أن يكون ثمرة نزوع "مثالي" يجعل صاحبه مسكوناً بشعور عميق بالتميز والأهلية لأن يسهم في تغيير العالم.

ومؤخراً نشر كبير حاخامات بريطانيا السابق، جوناثان ساكس، كتاباً يربط فيه بصراحة بين التطرف الذي تحدث عنه كاميرون في سلوفاكيا واتساع الفجوة بين الغرب العلماني وعالم التدين، فـ "الزواج القديم بين الدين والثقافة انتهى بالطلاق". ولا تقدم المجتمعات الغربية اليوم قيماً واضحة تكسب الشباب الباحثين عن معنى في الحياة، لذا يلجأ الشباب المتدينون إلى العالم الواقع خارج حدود الغرب حيث ما زال الدين قوة جذابة.

وقال ساكس لـ بي بي سي، إن الإسلام المتطرف يطلق في غالب الأحيان "أشد الأصوات التي يسمعونها حدة ووضوحاً". ونحت ساكس تعبير "الشر الغَيْري" لوصف ظاهرة ارتكاب أعمال شريرة بدوافع مثالية. وهذا المنطق التحليلي قد يكون قادراً على تفسير جانب من ظاهرة انخراط غربيين في صفوف تنظيمات مثل "داعش"، فالبحث عن المثالي هو أحد الأشواق الفطرية في الإنسان، وهو ما أصابه شحوب كبير في المجتمعات الأوروبية بصفة خاصة.

من جانب آخر فإن الشعور بالاغتراب والتهميش – وهو شعور قد يكون حقيقياً أو متوهماً – يدفع من يعانونه للبحث عن خطاب يقدم لهم فضاءً ما لـ "تحقيق الذات"، وهذا الشعور بالاغتراب يدفع البعض للبحث عن فكرة فردوسية تعده بـ "وعد كوني"، لكن مطلق الوعد هذه المرة مسلح حتى أسنانه وممسك بقوة بأدوات إغواء شديدة التأثير صورةً وكلمة. وقليلون من يعرفون أن طابوراً طويلاً من أكثر السفاحين دموية كانوا من أصحاب "الرؤية المثالية"، ويرى باحثون كثيرون أن طغاة مثل هتلر أو لينين أو ستالين، أو حتى قادة "الخمير الحمر" في كمبوديا... إلخ، كانوا يستهدفون بناء "يوتوبيا" ما.

الدكتورة زبيدة عطا، أستاذ التاريخ الوسيط بآداب حلوان، رصدت من جانبها أن كثيراً من دعاة العنف في الجماعات الإسلامية المختلفة كانوا مفكرين ومثقفين من الحسن بن الصباح مؤسس "حركة الحشاشين" إلى سيد قطب، ولا بأس هنا من الإشارة إلى أن مفكراً لبنانياً معروفاً – هو الدكتور سعود المولى – اعتبر سيد قطب إعادة إنتاج لرؤية الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين. وبحسب الكاتب البريطاني، بين ماكنتاير، في مقال بصحيفة التايمز البريطانية، حول الأسس التي قام عليها "داعش"، فإن "الدولة الإسلامية تخضع لنظم الكرملين أكثر من القرآن.. وستالين هو الأب الروحي للتنظيم".

و"الشر الغيري" هنا يمكن أن يتجاوز المصطلح إلى "المفهوم التحليلي"، الذي يحيل على أصل كوني يشير إليه قول رب العزة (على لسان إخوة نبي الله يوسف): "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ"، فهم أوهموا أنفسهم بأنهم يمكن أن يصبحوا "قوماً صالحين" عبر التخلص من أخيهم بالقتل.

والمؤمنون بهذه الرؤية – غالباً – لديهم إحساس يصل حد المرض بأنهم يجب عليهم – ويمكنهم – بناء الفردوس وإنقاذ الضالين من ضلالهم، وهم بالتالي يعتبرون أنهم (دون النظر للحكم الشرعي) يحوزون المبرر الأخلاقي، الذي يضفي المشروعية على جرائمهم.

ومن النماذج المؤثرة إلى حد كبير في إنتاج خطاب "الشر الغيري" مؤخراً، شهيد كينج بولسين (اسمه الأصلي: شانون موريس، أمريكي الأصل ولد في ولاية كولورادو عام 1971، اعتنق الإسلام بعد أن كان مسيحياً كاثوليكياً) اليساري الذي أعجبه موقف الإسلام من الفقر، فاعتنقه ومزج قديمه بجديده في خطاب رومانسي يجعل مقاومة العولمة وما يسميه هو: "الرأسمالية الصليبية" موقفاً دينياً، ونجح في "أسلمة" خطاب أقصى اليسار حول الشرور العالمية لليبرالية الجديدة حينما اعتبر أن الشركات المتعددة الجنسيات هي الشر المطلق والعدو الحقيقي للمسلمين، وهو –  نموذج حالة – للتحولات التي يمكن أن يمر بها خطاب مثالي هدفه بناء "يوتوبيا" إلى خطاب تحريضي يشرعن "الاستباحة".

و"الشر الغيري" ليس وسيلة للوصول إلى مغنم (حيازة السلطة أو القوة مثلاً) بل موقف تطهري يحمل صاحبه عبء ("غرم") أن يضحي لأجل تغيير عالم الآخرين نحو الأفضل، حتى لو تم التغيير عبر قهر الآخرين، أو قتلهم، والقاتل هنا يقنع نفسه بأنه – عندئذ – يبلغ الغاية في التضحية والإيثار!!