قوة "الكونكتوجرافيا":

كيف تتجاوز شبكات المدن الضخمة الجغرافيا السياسية للدول؟

07 February 2018


عرض: مروة صبحي منتصر، مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة 

أثار صعود التيارات القومية الداعية إلى تقليل التعاون المتبادل بين الدول، والانكفاء على الذات من خلال تشييد الجدران الفاصلة بين حدود الدول؛ جدلًا واسعًا حول مدى إمكانية استبدال الحدود القومية بأخرى جديدة قائمة على شبكات المواصلات والكباري بين الدول، وقنوات المياه، وخطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي، وكابلات الإنترنت، بحيث يمكن استبدال الخريطة الحالية للعالم بأخرى جديدة.

وفي هذا الإطار، يقدم "باراج خانا" (الأستاذ بالجامعة الوطنية بسنغافورة، ومستشار مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي، وعمل كمستشار لقوات العمليات الخاصة الأمريكية في العراق وأفغانستان) رؤية بديلة ومنهجًا جديدًا في كتابه المعنون "الكونكتوجرافيا: إعادة رسم خريطة الحضارة العالمية المستقبلية"، مفادها أن البنية التحتية للبشرية الآن تتطلب نهجًا جديدًا للدراسة خارج نطاق الجغرافيا السياسية والاقتصادية التقليدية؛ حيث إن عبارة "الجغرافيا كمصير" قد عفا عليها الزمن لتتشكل مصائر الأمم ليس من حيث مكانها الجغرافي، ولكن من قبل شركائها.

"الكونكتوجرافيا"

يُعيد "خانا" في مؤلَّفِهِ تخيل كيف تُنظم حياة البشر على الأرض. ويشبه كوكب الأرض بأنه كجسم الإنسان، حيث يتمثل هيكله العظمى في نظام النقل من الطرق، وخطوط السكك الحديدية، والكباري، والأنفاق، والموانئ الجوية والبحرية التي تمكننا من التنقل عبر القارات. وتتمثل الأوعية الدموية في أنابيب الغاز الطبيعي، والنفط، وشبكات الكهرباء، التي توزع الطاقة في الكوكب. ويتعلق النظام العصبي بشبكة الاتصالات من كابلات الإنترنت، الأقمار الصناعية، الشبكات الخلوية، مراكز المعلومات. وتتألف تلك المصفوفة المتزايدة من البنية التحتية من 64 مليون كلم من الطرق، و4 ملايين كلم من السكك الحديد، و2 مليون من أنابيب النفط، ومليون كلم من كابلات الإنترنت.

لقد مكَّنت ثورة الاتصالات العالمية من حدوث نقلة نوعية في تنقل البشر، والبضائع، والموارد الخام، والمعرفة، للدرجة التي لم نعد نفكر في الجغرافيا باعتبارها متميزة عنها. وقد أدمج "خانا" القوتين (الجغرافيا والاتصالات) في مفهوم أطلق عليه Connectography، أو كما يمكن تعريبه بـ"الكونكتوجرافيا" أو (الاتصال الجغرافي). ويعرّفه "خانا" بأنه النقلة النوعية في تنقل البشر، والموارد، والأفكار، وهي تطور العالم من التركيز على "الجغرافيا السياسية Political Geography"، التي تتعلق بكيفية تقسيم العالم قانونيًّا، إلى "الجغرافيا الوظيفية Functional Geography"، المتعلقة بكيفية استخدام العالم فعليًّا، والانتقال من الأمم والحدود إلى البنية التحتية وسلاسل التوريد Supply Chains.

ويؤكد المؤلف أن النظام العالمي يتطور من الإمبراطوريات المترابطة رأسيًّا في القرن التاسع عشر، ثم الدول المترابطة أفقيًّا في القرن العشرين، إلى حضارة الشبكات العالمية في القرن الحالي. ولم تعد السيادة بل القدرة على الاتصال هي المبدأ المُنظِّم للجنس البشري.

وفي هذا السياق، يُشير إلى أن إجمالي النفقات العسكرية في العالم تبلغ حوالي 2 تريليون دولار في العام. وفي الوقت نفسه، هناك خُطط لترتفع النفقات على البنى التحتية في العالم إلى حوالي 9 تريليونات دولار في العقد القادم، حيث من المرجَّح أن يصل الإنفاق على البنى التحتية الأساسية لكل مليار نسمة تريليون دولار. وليس مستغربًا، أن تأتي آسيا في مقدمة القارات التي تنفق على البنى التحتية. ففي عام 2015، أعلنت الصين إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي يهدف مع منظمات أخرى إلى إنشاء شبكة طرق الحرير، والذي سيمتد من شانغهاي إلى ليسبون (عاصمة البرتغال).

ويؤكد الكاتب أن حالة الاتصال Connectivity تتعلق بكيفية تحسين توزيع الموارد، والمعلومات، والبشر، في العالم، وكيف يكون الجنس البشري أكبر من مجموع أجزائه. ويضع المدن في مكانة البنية التحتية للنظام العالمي الجديد. وبحلول عام 2030، سيعيش أكثر من ثلثي سكان العالم في المدن. ومن خلال ذلك التعريف ينتقل الكاتب إلى دور المدن الضخمة Megacities، وقد قدمه على دور الدولة القومية ذات السيادة في حوكمة النظام العالمي.

هيمنة المدن الضخمة

مع وجود أكثر من 500 ألف كلم من الحدود على خريطة العالم، يدعو "خانا" إلى بناء خريطة جديدة للعالم من خلال تجاهل بعض الأساطير الجغرافية. فهناك قول تاريخي مأثور يقول إن "الجغرافيا هي المصير". فعلى سبيل المثال، تعتبر البلدان الحبيسة من البلدان الفقيرة، وأنها لا تستطيع الهرب من سيطرة جيرانها من الدول الكبيرة. ولكن مع ثورة الاتصال العالمية أصبحت "القدرة على الاتصال هي المصير".

وتأتي المدن الضخمة وليس الدول ذات الحدود القومية في مقدمة الفاعلين المتحكمين في حركة البشر، والموارد، والمعلومات، وحركة التجارة العالمية. وعلى حد تعبير المؤلف: "نحن نتحرك إلى العصر الذي تكون فيه المدن أكثر أهمية من الدول، وستكون سلاسل التوريد -أو الأنشطة التي تتضمن تحويل المواد الخام والموارد الطبيعية إلى منتج نهائي حتى يصل إلى المستهلك- أكثر أهمية من الجيوش".

ويقدم الكاتب قارة آسيا على أنها النموذج الحالي للمدن الضخمة، حيث يُشير إلى أنها تحتوي في اليابان على أكثر من 80 مليون نسمة، وفي الصين تحتوي عناقيد المدن الضخمة معًا على حوالي 100 مليون نسمة. ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي لأيٍّ من هذه التكتلات للمدن الضخمة حوالي 2 تريليون دولار، والذي يساوي الناتج المحلي الإجمالي للهند.

ويتخيل الكاتب إذا ما أصبح أساس العضوية في إحدى المؤسسات الدبلوماسية العالمية مثل مجموعة العشرين G20 على الحجم الاقتصادي؛ فإن بعض المدن الضخمة الصينية ستفوز بمقعد، بينما ستخرج دول بأكملها مثل الأرجنتين أو إندونيسيا.

وبالانتقال إلى إفريقيا، يُخطط في مدينة لاجوس النيجيرية، أكبر مدن القارة وأكبر تجمع تجاري، لإنشاء شبكة سكك حديدية، والتي ستصبح مرساة لممر ساحلي أطلسي شاسع. وفي عالم المدن الضخمة، ستصبح الدول مجرد ضواحٍ للمدن. وبحلول 2030، سيكون على خريطة العالم الجديدة -التي ستحل فيها الجغرافيا الوظيفية محل الجغرافيا السياسية- ما يقرب من 50 تجمعًا لمدينة ضخمة.

ويتساءل الكاتب: أي الخرائط ستخبرنا بمستقبل العالم خلال العقود القادمة؟ هل الخريطة التي تضم أكثر من 200 دولة قومية ذات سيادة؟ أم الخريطة التي تضم حوالي 50 مدينة ضخمة؟ وكما عبر "خانا": "يبدو ذلك التساؤل غير مكتمل؛ لأنه لا يمكن فهم كل مدينة ضخمة على حدة بدون فهم شبكة اتصالاتها مع الآخرين حول العالم. ولا يمكن حساب القيمة الفردية لكل مدينة ضخمة بدون فهم دور تدفقات البشر، والأموال، والتكنولوجيا، والموارد التي تقوم بها كل مدينة عالمية من تلك المدن". 

ومثال على ذلك، مقاطعة جوتنج بجنوب إفريقيا، التي تتضمن جوهانسبرج والعاصمة بريتوريا، تُمثل حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي لدولة جنوب إفريقيا، بالإضافة إلى كونها مركزًا لمكاتب الشركات المتعددة الجنسيات التي لها استثمارات مباشرة بالدولة، وكذلك استثمارات عبر القارة الإفريقية. وبالتالي تعد المدن جزءًا من سلسلة القيم العالمية، وجزءًا من التقسيم العالمي للعمل.

منظور جديد للقوة

يعتمد عصر المدن الضخمة وليس الدول القومية على مفهوم جديد للقوة يستند بشكل أساسي على البنى التحتية التي تُمكِّن من القدرة على الاتصال الفعّال بالعالم الخارجي، سواء في شكل الطرق والكباري، أو خطوط السكك الحديدية والموانئ، أو حتى كابلات الإنترنت. ويعتقد الكاتب أنه لا شيء يستطيع إخبارنا بمستقبل الجغرافيا السياسية أفضل من تتبع مشروعات البنى التحتية لفتح قنوات اتصال جديدة بالعالم. وبالتالي يُقدم تعريفًا جديدًا للقوة في العلاقات الدولية يكون الفاعل الأساسي في النظام العالمي هي المدن الضخمة، والأشكال الجديدة للنفوذ هي الاتصال الفعال Effective Connectivity.

ويقدم الكاتب أطروحة جديدة للسلام الدولي قائمة على المدن الضخمة؛ حيث يرى أن المدن تستطيع من خلال الاتصال الفعال جعل عالمنا أكثر استدامة، ومساواة، وسلامًا.

وفي هذا الشأن يقول، إذا نظرنا إلى أمريكا الشمالية؛ سنجد أن الخطوط الأهم على الخريطة ليست المتعلقة بالحدود الأمريكية-الكندية، وليس الحدود الأمريكية-المكسيكية؛ ولكن شبكات الطرق، والسكك الحديدية، وأنابيب الغاز الطبيعي، والنفط، وكابلات الكهرباء، وحتى قنوات المياه التي تقطع حدود الدول، وتشكل اتحاد دول أمريكا الشمالية. وبالتالي فلا تحتاج القارة إلى مزيد من الجدران التي يسعى إلى إقامتها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، ولكن إلى مزيدٍ من الاتصال. 

ويضيف أن الوعد الحقيقي لثمار الاتصال الفعال كنفوذ جديد في العلاقات الدولية يبزغ في عالم ما بعد الاستعمار؛ حيث ورث حدودًا عدائية كإرث استعماري خلّف علاقات عدائية بين قادة تلك الدول. وتعد منطقة جنوب شرق آسيا مثالًا فعّالًا على ذلك، حيث يُخطط لشبكات سكك حديد فائقة السرعة للربط بين بانكوك وسنغافورة وممرات تجارية من فيتنام إلى ميانمار. واستطاعت تلك المنطقة المتضمنة 600 مليون نسمة أن تُنسّق مواردها الزراعية ومخرجاتها الصناعية. وبالتالي تطور ما أطلق عليه "خانا" "السلام الآسيوي Pax Asiana".

وهناك ظاهرة مماثلة جارية في شرق إفريقيا؛ حيث أكثر من ست دول تستثمر في مشروعات سكك حديد، وممرات متعددة الوسائط لفتح قنوات اتصال للدول الحبيسة على الأسواق الخارجية. وتلك الدول تحاول تطوير السلام الإفريقي Pax Africana.

سباق تسلح جديد

يدّعي "خانا" أن الاتصال التنافسي بين مناطق العالم من خلال تفعيل مشروعات البنية التحتية التي تربط أجزاء العالم ببعضه وحركة التجارة العالمية والبشر والموارد هي سباق التسلح الجديد للعقود القادمة. ويرى أنه حتى في أكثر المناطق في العالم احتمالًا لاندلاع حرب عالمية ثالثة هناك مؤشرات واضحة تفيد بأن الاتصال يستطيع التغلب على الصراع بين القوى الإقليمية.

منذ نهاية الحرب الباردة، قبل ربع قرن، تم التنبؤ بستة حروب كبرى على الأقل في قارة آسيا، منها:

1.بين الصين وتايوان في التسعينيات، وكان ذلك السيناريو الرئيسي للحرب العالمية الثالثة، ولكنه تبدد مع تكثيف حجم التجارة والاستثمار عبر المضايق بين الجانبين. وقد عقدت في نوفمبر الماضي قمة بين قادة البلدين لمناقشة إمكانيات إعادة الوحدة السلمية.

2.بين الصين واليابان، فلهما تاريخ طويل من العداء، ولكن اليابان أقامت أضخم استثمار أجنبي لها في الصين، وتُباع السيارات اليابانية بنسب قياسية في الصين. وكذلك أنشأت بكين أضخم استثمارات خارجية لها في اليابان.

3.بين الصين والهند، فقد كان بينهما ثلاثة نزاعات رئيسية على الحدود. ولكن اليوم، أصبحت نيودلهي ثاني أكبر المساهمين في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ويُشيِّدون ممرًّا تجاريًّا يمتد من شمال شرق الهند عبر ميانمار وبنجلاديش إلى جنوب الصين. وقد نمت حجم التجارة بينهما من 20 مليار دولار خلال العقد الماضي، إلى 80 مليار دولار اليوم.

4.خاضت الهند وباكستان ثلاثة حروب، ويستمر النزاع على كشمير، لكنهما تتفاوضان على اتفاقية تجارية، وإنشاء خط أنابيب للغاز الطبيعي وللنفط من إيران عبر باكستان إلى الهند.

وفي الوقت الذي تُعد فيه آسيا موطنًا للجيوش الأسرع نموًّا في العالم؛ إلا أنها تشهد نموًّا في أسرع الاستثمارات، والبنى التحتية، وسلاسل التوريد بين دولها. وقد تحوّل تركيز قادة تلك الدول إلى الجغرافيا الوظيفية بدلًا من الجغرافيا السياسية، والتركيز على الروابط الاقتصادية بدلًا من النزاعات الإقليمية.

وإجمالًا، يُركِّز الكاتب على أنه من خلال الاتصال السلس، سواء المادي أو الرقمي؛ نتطور تجاه عالم يستطيع البشر فيه أن يتغلبوا على قيودهم الجغرافية، مكونين حضارة شبكات عالمية على خريطة لم تعد فيها الحدود والجغرافيا هي المصير، بل الاتصال.

بيانات الكتاب: 

Parag Khanna, “Connectography: Mapping the Future of Global Civilization”, (New York: Random House, 2016)