"الصعود الإثيوبي":

سد النهضة وتغير موازين القوى في إفريقيا

27 August 2014


إعداد: شروق عادل


 "الحرب القادمة في المنطقة ستكون على مياه النيل".. كانت هذه تحذيرات الأمين العام الأسبق بطرس بطرس غالي في منتصف العقد الأخير من القرن الماضي، وقد تعززت مثل هذه التخوفات في ضوء عدة متغيرات، منها: (تزايد عدد السكان في الدول الأفريقية، والتغيرات المناخية، وندرة المياه، ونقص الغذاء).

وخلال السنوات الأخيرة، بدا واضحاً أن إثيوبيا تتطلع إلى توسيع نفوذها الإقليمي في أفريقيا، وكذلك كسب ثقل سياسي على المستوى الدولي. وفي سبيل ذلك، فإنها تسعى إلى تغيير شكل وخريطة الصراع الهيدروبوليتيكي (الصراع على المياه) في القارة السمراء من خلال إنشاء مشروع سد النهضة الذي يعد بمثابة "نقطة تحول" يُتوقع أن تغير موازين القوى والنفوذ في أفريقيا. وقد أثار هذا المشروع حفيظة دول المصب في نهر النيل، وعلى رأسها مصر، لما سيسببه من أخطار على أمنها القومي.

في هذا الإطار نشرت دورية The Washington Quarterly الأمريكية، المتخصصة في الشؤون الدولية، مقالاً تحت عنوان: "سد النهضة الإثيوبي الكبير: هل ينهي أقدم صراع جيوساسي أفريقي؟" "Ethiopia's Grand Renaissance Dam: Ending Africa's Oldest Geopolitical Rivalry?" ، حيث تناول خلاله Goitom Gebreluel المستشار بمعهد السياسة والقانون الدولي في أوسلو بالنرويج، إشكالية تغير التوازن الإقليمي في أفريقيا بسبب "الصعود المفاجئ" لإثيوبيا كقوة إقليمية، ومحاولاتها المستميتة للحفاظ على هذه المكانة، كما يعرض الكاتب السيناريوهات المحتملة للتعامل مع مشروع سد النهضة.

تطور الصراع المائي بين مصر ودول حوض النيل

بدايةً يستعرض الكاتب خلفية تاريخية للنزاع الحالي بين دول حوض نهر النيل، مؤكداً أن الخلاف القانوني بين مصر وإثيوبيا بشأن مياه النهر مطروح منذ أمدٍ طويل. ففي فترة الاستعمار البريطاني لمصر، تم توقيع اتفاقيتين لتنظيم مياه نهر النيل، الأولى عام 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، ولم تصدق الأخيرة عليها. والاتفاقية الثانية وقعتها حكومة الاستعمار البريطاني بين مصر والسودان عام 1929، وحصلت بمقتضاها القاهرة على امتيازات مائية – دون الرجوع إلى دول المنبع ومنها إثيوبيا - مثل الحق في حصولها على 48 مليار متر مكعب من مياه النيل سنوياً، والتحكم في النهر أثناء فترات الجفاف، وكذلك حق مصر في الاعتراض على أي مشروعات أو سدود تقام على النهر.

وبعد الاستقلال من الاحتلال البريطاني، وقعت كل من القاهرة والخرطوم اتفاقية مياه نهر النيل عام 1959 لتوفير إطار قانوني يتيح مزيداً من السيطرة والتحكم في مياه النيل، ولم يتم الرجوع أيضاً لدول المنبع أو استشارتها في مثل هذه الاتفاقيات، مما جعلها ترفض الاعتراف بها من الأساس.

وهكذا انقسمت الدول النيلية إلى مجموعتين، الأولى دول المصب (مصر والسودان)، والثانية دول المنبع (إثيوبيا وكينيا وأوغندا وبوروندي ورواندا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية)، ولكل مجموعة أسانيدها القانونية التي تدعم حقوقها في مياه النيل من وجهة نظرها. فمن ناحية تستند كل من مصر والسودان إلى مبدأ "الحق التاريخي المكتسب في مياه النهر"، وكذلك مبدأ "الالتزام بعدم تسبب دول المجرى المائي في ضرر بالغ ذي شأن لغيرها من دول المجرى"، والمنصوص عليه في المادة 7 من اتفاقية الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية.

أما دول المنبع، فتستند إلى مبدأ "السيادة" وحقها في استغلال الموارد داخل أراضيها بأي طريقة تحددها الدولة، وتعتمد أيضاً على مبدأ "الاستخدام العادل" في المادة 7 من اتفاقية الأمم المتحدة السابق الإشارة لها أعلاه.

كيف تعاملت مصر مع تهديدات أمنها المائي؟

انتهجت مصر استراتيجيتين متوازيتين في تعاملها مع تهديدات أمنها المائي، وتتمثل الاستراتيجية الأولى – وفقاً لما ذكره Goitom - في اختراق مصر لدول حوض النيل، واعتمدت في ذلك على مبدأ (الإخلال باستقرار دول المنبع) بمعنى تدعيم عناصر التمرد المسلحة في هذه الدول؛ مما يضعف نظامها السياسي، فتصبح تلك الدول غير قادرة على امتلاك المقومات التي تُمكنها من الإضرار بمصالح مصر المائية (المحرر: تنفي القاهرة مثل هذه التدخلات، وهي بوجه عام خطاب إثيوبي ليس بالجديد، ولم يثبت فعلياً تدخل مصر لدعم حركات تمرد في دول المنبع، بل كان مدخلها سابقاً دعم هذه الدول وتوطيد العلاقات معها، وهو ما تراجع كثيراً في العقد الأخير قبل ثورة 25 يناير 2011)

أما الاستراتيجية الثانية، فتتمثل في الجهود الدبلوماسية المصرية، حيث لم تتوان القاهرة في إرسال البعثات الدبلوماسية والشعبية وممارسة الضغوط في هذا الشأن لوقف تمويل أي مشروعات تقام على نهر النيل من شأنها الإضرار بالمصالح المصرية المتعلقة بالأمن المائي، وسيطرة مصر ونفوذها على مجرى النهر.

سد النهضة الإثيوبي وتغير ميزان القوى في القارة

استغلت إثيوبيا التوترات التي شابت المنطقة والمشكلات الداخلية التي أضعفت عدداً من الدول التي لديها علاقات متأزمة مع أديس أبابا مثل (مصر، ليبيا، الصومال، وإريتريا)، حيث تزامنت هذه التطورات مع استقرار النظام السياسي في أديس أبابا وازدهار اقتصادها، ومن ثم فقد أعلنت إثيوبيا عن نيتها في إنشاء سد النهضة في عام 2011، ليصبح أول سد لإنتاج الطاقة الكهرومائية على النيل الأزرق. وقد أدى هذا المشروع إلى تأجج الصراع في القارة، لما سيحدثه من أضرار على دول المصب، كما سيعطي دول المنبع، وعلى رأسها إثيوبيا، المزيد من القوة للتحكم في مجرى النيل، حيث تبلغ سعة خزان السد 74 مليار متر مكعب من المياة سنوياً، وهو ما يفوق حصة مصر بنسبة 40%.

ومن جانبها، فقد اعترضت القاهرة على فكرة إنشاء سد النهضة لأنه سينهي سيطرتها التي استمرت آلاف السنين على مياه النيل، كما أنه يهدد حصتها من المياة، ناهيك عن دوره في تغيير التوازن المائي لدول حوض النيل، وما سيسببه من آثار سلبية على المستوى السياسي وتغيير في الجغرافيا السياسية، مما يضر بمصالح مصر كدولة أفريقية كبرى.

ويؤكد الكاتب أن القاهرة في تعاملها مع أزمة سد النهضة، تواجه الكثير من التحديات، أولها صعود إثيوبيا كقوة إقليمية، فبعد أن عانت أديس أبابا من التفكك والصراعات الداخلية بين الطوائف المتعددة، استطاعت أن تتوحد في ظل وجود حكومة قوية تولت مقاليد الحكم ونجحت في ترسيخ حكمها. وتزامن مع هذا الاستقرار السياسي، قدرة إثيوبيا على تحقيق تنمية اقتصادية وبناء جيش قوي لدية خبرة في التعامل مع النزاعات والحروب.

وبالإضافة إلى الجهود الداخلية التي بذلتها إثيوبيا لفرض نفسها كقوة إقليمية، فقد ساعد موقعها الجغرافي في حل الكثير من النزاعات القارية، مما أدى إلى تعضيد مكانتها الإقليمية، حيث أضحت أديس أبابا عاصمة دبلوماسية للمنطقة. فعلى سبيل المثال قادت إثيوبيا الوساطة لحل مشكلة الحرب الأهلية في جنوب السودان، كما ساهمت في الوصول إلى اتفاق بين الحكومة الصومالية والمتمردين.

ويرى Goitom أن كل هذه العوامل، بالاضافة إلى دور إثيوبيا في محاربة الإرهاب، أكسبها مكانة قوية إقليمياً، وجعلها حليف أساسي للغرب وبصفة خاصة الولايات المتحدة التي قدمت لها دعماً سياسياً واقتصادياً، فضلاً عن تعزيز علاقاتها مع إسرائيل.

الخيارات المتاحة بشأن أزمة سد النهضة

يتطرق الكاتب إلى نوعين من الخيارات المحتملة لإدارة أزمة سد النهضة الإثيوبي، وهما كالتالي:

- الخيار الدبلوماسي: فقد شكلت كل من مصر والسودان وإثيوبيا لجنة من الخبراء لفحص ودراسة مشروع سد النهضة، حيث تكونت اللجنة من 10 أعضاء (كل دولة لها عضوين وأربعة خبراء دوليين)، لكن نتائج الدراسة التي قامت بها هذه اللجنة لم يتم الإفصاح عنها إطلاقاً، مما أفسح المجال لأديس أبابا للادعاء بأن سد النهضة لن يضر بمصالح أي من دول حوض النيل. وبرز الحل السلمي أيضاً في الوفود الشعبية والدبلوماسية التي أرسلتها مصر إلى أديس أبابا في محاولة لحل الأزمة.

- الحل العسكري: ثمة تحذيرات بأن الحرب القادمة ستكون حرباً على المياه، كما تعالت الأصوات في القاهرة والمنادية للحكومة بوضع كافة الخيارات على الطاولة في التعامل مع أزمة سد النهضة، وبالفعل لوحت مصر باستخدام الحل العسكري لإيقاف مشروع السد، وذلك حفاظاً على الأمن القومي المصري. ورغم كل ذلك فقد قلل الخبراء والمحللين من إمكانية اللجوء لهذا الحل العسكري، وذلك لعدد من الاعتبارات، منها أن مصر تعاني من حالة عدم استقرار سياسي وتدهور اقتصادي داخلي لن تمنكها من الدخول في أي حرب، كما أن حرباً كهذه ستكون ذات نتائج سلبية، بل بالأحرى مدمرة لكل من الطرفين المصري والإثيوبي، لأنه في حال نشوبها ستستعين مصر بالدعم العربي، وستلجأ إثيوبيا للدعم الإفريقي، مما سيؤدي إلى نتائج في غاية الخطورة.

أخيراً، يرجح Goitom تعامل القاهرة مع القضية من منطق الأمر الواقع، والتعامل مع وجهة النظر الإثيوبية بشأن إيجابية بناء سد النهضة والفوائد المشتركة الناتجة عنه، ومنها توفيره لمصر كميات كبيرة من الطاقة النظيفة وبأسعار رخيصة، بالإضافة إلى ظهور بعض الدراسات التي أكدت أن السد في حالة إدارته بطريقة صحيحة لن يؤثر على حصة مصر من المياه. ويدلل الكاتب على هذا التوجه بالتحول في السياسة المصرية وظهور مبادرات مطالبة بالتفاوض مع أديس أبابا لضمان عدم المساس بأمن مصر المائي. وفي حال تحقق ذلك، ستصبح العلاقات بين مصر وإثيوبيا تعاونية أكثر من كونها عدائية وتنافسية.

 

* عرض موجز لمقال بعنوان: "سد النهضة الكبير الإثيوبي: هل ينهي أقدم صراع جيوساسي أفريقي؟"، المنشورة في يونيو 2014 بدورية " "The Washington Quarterlyالصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS.

المصدر:

Goitom Gebreluel, Ethiopia's Grand Renaissance Dam: Ending Africa's Oldest Geopolitical Rivalry?, The Washington Quarterly, Volume 37, Issue 2 (Washington: Center for Strategic and International Studies, June 2014) pp 25–37.