عسكرة ضاغطة:

لماذا يُستهدف الأطباء في بؤر الصراعات المسلحة العربية؟

30 July 2017


يتعرض الأطباء العاملون في المستشفيات الحكومية والميدانية والعيادات الخاصة والمتنقلة في بؤر الصراعات المسلحة العربية، في سوريا والعراق وليبيا، وبدرجة أقل اليمن، للاستهداف بصورة متزايدة، خلال السنوات الماضية، سواء بالقتل أو الخطف أو الاعتداء أو الاعتقال أو الاختفاء أو الاحتجاز غير القانوني، سواء من الحكومات أو التنظيمات الإرهابية أو الميليشيات المسلحة أو العصابات الإجرامية أو الجماعات الطائفية العنيفة، وهو ما يمكن تفسيره استنادًا لعدة عوامل منها إضعاف مقاومة الخصوم السياسيين، والتغطية على جرائم النظم السلطوية، وتزايد قوة العصابات الإجرامية، وسيادة الروح العشائرية، وإفراغ البلاد من الطاقات العلمية والكفاءات الطبية.

إن ثمة حوادث عاكسة لواقع استهداف الكوادر الطبية في بؤر الصراعات المسلحة العربية، وخاصة في العراق، في شهر يوليو 2017، وكان أبرزها جريمة قتل طبيبة الأسنان شذى السامرائي على يد مجهول طعنًا بالسكين في منطقة الإسكان بغرب بغداد، حيث اقتحم منزلها وسرق جميع محتوياته ومقتنياتها الشخصية. وقد جاء مقتل السامرائي بعد يومين من مقتل طبيب آخر (سليم عبدالحمزة) طعنًا بالسكين من قبل مجهولين داخل عيادته في منطقة المعامل شرق بغداد، وهو ما أرجعته بعض التقارير إلى أسباب ثأرية.

كما أعلنت نقابة الأطباء العراقية، في 18 يوليو الجاري، أن مجموعة مسلحة اختطفت الجراح محمد علي زاير رئيس قسم الجراحة في مستشفى الحكيم العام، عند خروجه من عيادته إلى منزله، وعثر عليه في اليوم التالي في أحد أزقة بغداد على قيد الحياة وهو مكبل اليدين. وفي هذا السياق، قررت نقابة الأطباء، في 26 يوليو الحالي، تنظيم اعتصام عام لأطباء البلاد (ما عدا أطباء الطوارئ والعناية المركزة والإنعاش والعمليات الطارئة) احتجاجًا على عدم اتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة لحماية حياتهم، حيث رفعوا لافتات "كفاكم تهاونًا بحقوق وسلامة الأطباء" و"احموا الأطباء" و"كرامة الطبيب كرامة الوطن".

لا توجد إحصائيات دقيقة تعبر عن حجم الظاهرة، وإن كانت المؤسسات الصحية الدولية تكشف عن الخط التصاعدي لها، وانتهاك الالتزام باحترام وحماية الوحدات الطبية. وتشير الأدبيات إلى أن هناك حزمة من العوامل التي تفسر تزايد استهداف الأطباء في بؤر الصراعات المسلحة في المنطقة العربية، وذلك على النحو التالي:

تفوق عسكري:

1- إضعاف مقاومة الخصوم السياسيين: صار العاملون في مجال الرعاية الصحية هدفًا أساسيًا على غرار المقاتلين، واستخدمت أطراف الصراع السوري الأطباء والمستشفيات كجزء من استراتيجية الحرب التي لا زالت سارية على مدى ست سنوات، وتعتبر منظمة الصحة العالمية أن سوريا هى البلد الأخطر في العالم للعاملين في المجال الطبي، وأعلنت جمعية أطباء من أجل حقوق الإنسان بأن "سوريا هى أخطر مكان للطبيب". 

فالاعتداءات لم تعد قاصرة على أطباء الرعاية الصحية العامة بل طالت الممرضات والصيادلة والمتطوعين في الرعاية الصحية وشركات النقل الطبية وسائقي سيارات الإسعاف وأى شخص مرشح لتقديم الرعاية أو الخدمات الصحية بما يؤدي إلى تحقيق التفوق العسكري لنظام الأسد على المجموعات المسلحة المناهضة له وحرمان مؤيديهم من المساعدة الطبية.

وهنا أشار رئيس لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا باولو بينيرو، في خطاب ألقاه في جنيف في 21 يونيو 2016، إلى أن "الهجمات على المنشآت الطبية ومقتل العديد من العاملين الطبيين جعلا الحصول على الرعاية الصحية في المناطق التي تعاني من العنف صعبًا للغاية، وفي بعض المناطق مستحيلا"، وأضاف: "فيما يرتفع عدد الضحايا المدنيين، يتقلص عدد المنشآت الاستشفائية والعاملين في المجال الطبي وهو ما يزيد من صعوبة الحصول على الرعاية الطبية". 

فعلى سبيل المثال، يستهدف نظام الأسد الكوادر الطبية في محافظات سوريا الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، عبر حصار المناطق التي يتواجدون بها، كما يمنع وصول الخدمات الطبية للمصابين من غير الموالين له في المشافي الحكومية، على نحو ما حدث في حلب وإدلب، مثلا، الأمر الذي يفرض تهديدًا حقيقيًا للآلاف من سكان هذه المناطق. كما أن انتماء الأطباء السوريين للمكون السني في المناطق غير الخاضعة لسيطرة نظام الأسد أصبح سببًا كافيًا للاعتقال، وفقًا لروايات مكررة.

وقد حذر توفيق شجاع رئيس اتحاد منظمات الرعاية والإغاثة الطبية (منظمة غير حكومية مؤلفة من أطباء سوريين)، خلال مؤتمر صحفي في أغسطس 2016، من تفاقم الوضع الطبي بمدينة حلب، خاصة مع تراجع عدد الأطباء بشكل كبير ونقص المعدات الطبية، فضلا عن انقطاع الكهرباء والافتقار لغرف العمليات والتعقيم الفعال وأدوية التخدير، في الوقت الذي تتم مراقبة وملاحقة نشطاء الأطباء الذين يعالجون المصابين فيما يسمى بالمشافي الميدانية.

والحال نفسه يظهر مع استهداف ميليشيا الحوثي لبعض الأطباء داخل اليمن، وهو ما دفع رئيسة منظمة أطباء بلا حدود ميني نيكولاي إلى الإدلاء بتصريحات، في 3 أكتوبر 2016، قالت فيها: "في العام الماضي سجلنا 77 هجومًا ضد مؤسسات طبية تدعمها أو تشغلها منظمة أطباء بلا حدود في سوريا واليمن وهذا أمر غير مسبوق".

كشف الجرائم:

2- التغطية على جرائم النظم السلطوية: وهو ما برز جليًا في استهداف نظام الأسد لبعض الأطباء الناشطين خلال المراحل الأولى من الثورة السورية، حيث شكل بعض أطباء سوريا "الثائرين السريين"، حسب ما أشارت إليه اتجاهات عديدة، مجموعة "أطباء دمشق" في عام 2011، وأسسوا صفحة لهم على موقع "فيسبوك"، ولم يتركز هدفهم على إنقاذ الأرواح فحسب، بل كشف جرائم نظام الأسد في الترهيب والاغتيال وانتهاك الحيادة الطبية التي تتم الإشارة إليها في القانون الدولي الإنساني.

وقد قاموا بتأسيس عيادات سرية في الأحياء السورية التي شهدت تظاهرات، ولكنهم يغيرون من أماكن تلك العيادات باستمرار، وحتى الطبيب نفسه لا يعرف موقع عيادته في اليوم التالي بهدف توفير الرعاية الميدانية والأدوات الطبية، تجنبًا لملاحقة قوات الأسد، والتي نجحت في القبض على البعض منهم، في حين التحق البعض الآخر من الأطباء بعدد من الميليشيات المسلحة، فيما قام فريق ثالث بالهجرة خارج البلاد. 

ووفقًا لما صرح به أحد الأطباء بمنظمة أطباء بلا حدود: "يقول الأطباء السوريون أن القبض على طبيب مع مريض يشابه القبض عليه مع سلاح". كما حدث ذلك مع استهداف أشهر الأطباء في تعز ورئيس المركز اليمني للعدالة الانتقالية ياسين القباطي، في يونيو 2013، لدعمه لثورة الشباب اليمني في مواجهة نظام علي عبدالله صالح

هشاشة القانون:

3- تكاثر العصابات الإجرامية: والتي تستغل ضعف سيادة القانون في بؤر الصراعات في هذه الدولة أو تلك لاختطاف الأطباء باعتبارهم من الفئات ذات الدخل المرتفع بهدف ابتزازهم والحصول على الأموال مقابل تحريرهم. وتشير حالتا سوريا والعراق إلى تزايد الاعتداءات بشكل يومي على المؤسسات الصحية والكوادر الطبية، ولا يظهر أى إجراء رادع بعد استشراء حالات الخطف والابتزاز، إذ يغيب القبض على الجناة والقصاص العادل بحقهم، وهو ما يؤدي إلى تزايد شعور الأطباء بعدم الأمان.

فعلى الرغم من تزايد المطالبات بتفعيل قانون الأطباء رقم 26 لسنة 2013 في العراق الذي ينص على دفع غرامة قدرها 10 ملايين دينار مع السجن ثلاث سنوات لكل شخص يهدد طبيبًا أو يعتدي عليه، إلا أنها لم تلق تجاوبًا من أجهزة الأمن العراقية التي منحت الأولوية لمواجهة تنظيم "داعش" في الموصل. ففي 29 سبتمبر 2015، قامت قبيلة من البصرة بتهديد الجراح د.كاظم حسين بعد وفاة المريض أثناء الجراحة، حيث تم إجباره على دفع 20 ألف دينار كتعويض مالي. ومن ثم، فإن عدم توافر الأمن في المناطق المضطربة داخل العراق يعيق ممارسة الأطباء لمهنتهم.

قوانين العشيرة:

4- سيادة الروح العشائرية: وهو ما ينطبق جليًا على حال الأطباء في مدن العراق المختلفة، إذ يتكرر استهدافهم بصفة دورية، على نحو ما تعكسه وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي، بتسليط الضوء على صور المساكن التي يهجرها أصحابها الأطباء، بعدما كتبوا على جدران المساكن أو مداخل الأبواب عبارة: "إن صاحب البيت مطلوب دم"، الأمر الذي يشير إلى أن صاحب هذا المنزل مُعرّض للموت أو مُرغم على دفع الدية المالية للمهددين لتجنب المصير الأول. 

فالعشائر في العراق تفرض قوانينها الخاصة في حال فشل عملية جراحية لأحد أبنائها أو كتابة وصفة دوائية تؤدي إلى وفاة شخص أو إصابته بعاهة بالغة أو عدم القدرة على دفع التعويضات المالية. ويعبر ذلك الوضع عن ضعف الوعى المجتمعي بأهمية دور الطبيب في أى مرفق يوفر الرعاية الصحية.

استئصال الكفاءات:

5- إفراغ البلاد من القدرات العلمية: يسود اتجاه في الأدبيات يشير إلى أن هناك عصابات تحركها أجندات سياسية تستهدف الأطباء في دولة مثل العراق، لإفراغ الأخيرة من أصحاب الكفاءات الأكاديمية والقدرات العلمية. فقد اعتبر زعيم ائتلاف الوطنية ونائب الرئيس العراقي إياد علاوي، في تصريح صحفي في 24 يوليو 2017، أن "أجندات خبيثة تقف وراء عمليات استهداف الأطباء في البلاد، إذ أن ما يتعرض له الأطباء نكسة أمنية، وهو ما يستلزم خطط أمنية عاجلة".

وفي هذا السياق أيضًا، قالت نقابة الأطباء العراقية في بيان لها في 25 يوليو الجاري: "إن هذه الاغتيالات تتكرر من دون رادع لمرتكبيها ومن دون أى إجراء حكومي أو قانوني فعّال ضد هذه الجرائم، التي تأتي نتيجة التحريض والشحن الإعلامي المتزايد ضد الأطباء بهدف تفريغ البلد من كفاءته وضرب أمنه الصحي والوطني".

كما قال الدكتور عبدالأمير محسن نقيب أطباء العراق في تصريح خاص لوكالة "الفجر نيوز" في 26 يوليو 2017: "إن حماية الأطباء وكذلك جميع المواطنين هى مسئولية الدولة والجهات الحكومية المعنية، إلا أننا كأطباء نرى خلال هذه الفترة أن استهداف الأطباء والكوادر الصحية ظاهرة مستفحلة في المجتمع العراقي"، مضيفًا: "إننا نريد أن ندق ناقوس الخطر ونوصل رسالة إلى الجهات المعنية بأن تقوم بدورها بحماية الأطباء والكوادر الطبية وتطبيق القوانين النافذة وفق القانون العراقي بحق المعتدين والجماعات الإرهابية التي تسعى إلى إفراغ البلد من الطاقات والكفاءات الطبية".

وقد يصب ذلك في صالح الدول الغربية، حيث تتصدر ألمانيا قائمة الدول الأكثر احتضانًا للأطباء السوريين، لا سيما في ظل مغادرة آلاف الأطباء الممارسين البلاد سنويًا للعمل في الخارج، في ظل تقديرات بأن ألمانيا ستحتاج إلى 111 ألف طبيب لخدمة مواطنيها بحلول عام 2030. ووفقًا لمجلة "فورين بوليسي"، ازداد عدد الأطباء الأجانب في ألمانيا بنسبة 60% بين عامى 2010 و2014، وبات الأطباء السوريون ينافسون أطباء رومانيا على موقع العدد الأكبر من الأطباء الأجانب في البلاد.

تسييس الصحة:

خلاصة القول، أضحت الرعاية الطبية ذات طابع عسكري، في ظل تصاعد منسوب الصراعات الداخلية العربية المسلحة، وتدخل أطراف الصراع لتوظيف ملف الرعاية الصحية بما يخدم ويدعم أهدافهم الاستراتيجية والعسكرية، وتزايد الانتماءات الأولية في البيئات المجتمعية التقليدية، وتراجع سيادة القانون وضعف أداء الأجهزة الأمنية النظامية، وهو ما يفرض عقبات عديدة أمام وضع الخطط الكفيلة بتوفير بيئة آمنة للأطباء في سوريا والعراق واليمن وليبيا، لا سيما في ظل تنامي قوة التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة، واستخدام المستشفيات خارج وظيفتها الإنسانية، من أجل القيام بأعمال تضر الخصوم، مثل إيواء المقاتلين أو تخزين الأسلحة والذخائر أو كنقاط رقابة عسكرية أو دروع للأعمال العسكرية.

ويؤدي ذلك إلى منع تقديم العلاج الطبي "المحايد" وتعريض حياة المرضى والعاملين الطبيين للخطر وتهديد الوظيفة الإنسانية للمرافق الطبية، مع الأخذ في الاعتبار أن القانون الإنساني الدولي يشير إلى أنه لا يجوز بأى حال من الأحوال معاقبة أى شخص لقيامه بأنشطة تتفق مع الأخلاق الطبية بغض النظر عن الشخص المستفيد من هذه الأنشطة، لأسباب متعلقة بالانتماء الديني أو العرقي أو السياسي. وحتى في حال استخدام المستشفى خارج الواجبات الإنسانية، لا يتم رفع الحماية على المؤسسة إلا بعد توجيه الإنذار المناسب. كما تحدد مهلة زمنية معقولة في جميع الأحوال وحتى بعد تجاهل هذا الإنذار.