الإسلام والنظام الدولي:

رؤية غربية لدور التنظيمات الجهادية في العالم

15 October 2015


إعداد: باسم راشد


تصدر الحديث عن الإسلام السياسي المشهد العالمي بعد أحداث 11 سبتمبر، وما أعقبها من نمو التيارات المتطرفة، ثم احتدم الجدال مجدداً بعد ذلك تعثر المراحل الانتقالية في غالبية دول الثورات العربية، ما جعل نطاق الموضوعات التي يتناولها العالم الغربي، والتي يقع الإسلام في القلب منها، متعددة ومتنوعة.

في هذا الصدد، عقد "مشروع الشرق الأوسط للعلوم السياسية" (POMEPS) التابع لمعهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن، وبالتعاون مع "أكاديمية الأطلسي"، ورشة عمل للإجابة على بعض التساؤلات المتعلقة بالإسلام والنظام الدولي. وضمت الورشة عدداً من الباحثين والمتخصصين في العلوم السياسية والدين والتاريخ، وتم عرض عدد من الأوراق البحثية التي يمكن توضيح أبرز ما جاء فيها من أفكار في السطور القادمة.

كيف تناولت العلاقات الدولية الإسلام بشكل خاطئ؟

سلطت إحدى الأوراق البحثية الضوء على كيفية تناول علم العلاقات الدولية مع الإسلام منذ أن بدأ إدماجه في عالم السياسة بشكل كبير منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، والذي تم التعامل معه باعتباره الدين الأكثر رفضاً ومقاومة للنموذج الغربي، بل ويجب إدارته بشكل حذر لمنع أنصاره من التحول لاستخدام العنف وتهديد الأمن والسلم العالمي.

وفي هذا الصدد، تم النظر إلى الدين الإسلامي من خلال مظاهره؛ فبرز تصنيفان؛ المظاهر الجيدة للإسلام والتي ترتبط بالمعايير الأخلاقية والمجتمعية القويمة وكذلك الانضباط السلوكي، والمظاهر السيئة للإسلام والمتمثلة في الأعمال الأرهابية والتي تعد الجذور الرئيسية للفوضى وعدم الاستقرار الدوليين.

وقد انتقدت الورقة البحثية هذا التصنيف الحدي للإسلام، مشيرةً إلى أن كل تلك الجهود للتعاطي مع الدين الإسلامي تمت بشكل سطحي لا ينم عن فهم حقيقي للموضوع؛ مؤكدةً أن جميع الأديان - بما فيها الإسلام - لا تدعو إلى العنف، بل يمكن القول إن الدين كغيره من العناصر التي تساهم في تشكيل الهُوية البشرية والسلوك الإنساني مثل الجنس والنوع والفئة الاجتماعية والمستوى الاقتصادي، بل وكلها تمثل - بدرجات مختلفة - محفزات للسلوك الذي يمكن وصفه فيما بعد بالإرهابي.

لذا، فإن اقتصار التعامل مع الدين الإسلامي في العلاقات الدولية كونه الدافع الوحيد وراء الإرهاب، يساهم في تعميق الفهم الخاطئ لطبيعة الدين من ناحية، ويؤثر سلباً على كيفية التعاطي مع التنظيمات الإرهابية من ناحية أخرى، بما يزيد من احتمالية الصراع أكثر من التعاون.

هل الدول الإسلامية لا تقبل الحرية الدينية؟

من ضمن التساؤلات المهمة التي طرحتها ورشة العمل هو مدى قبول المجتمعات والدول الإسلامية للحرية الدينية وللأقليات الموجودة بها، وهل تتعامل معها بنوع من التسامح أم يغلب عليها الطابع العنيف؟

وقد بدا ملحوظًا تحيز الورقة البحثية التي ناقشت هذا الأمر إلى الدين الإسلامي أكثر، فعلى الرغم من الإقرار بحقيقة أن الشواهد التاريخية المتعددة تثبت أن المسلمين لم يكونوا في كثير من الحالات متقبلين لفكرة الحريات الدينية، فإنه تمت الإشارة إلى أن الإسلام في حد ذاته يدعم التنوع، وأن المسلمين لم يكونوا دائماً أعداءً للحرية الدينية.

ولتأييد ذلك الطرح، تم عرض بعض المؤشرات التي أثبتت أن 12 دولة من الـ47 دولة ذات الأغلبية المسلمة لا توجد لديها قيود كبيرة على الحرية الدينية، بالإضافة إلى الدول العلمانية بطبيعتها، والتي تخف فيها القيود على الحريات الدينية. وكذلك توجد العديد من الأمثلة للدول ذات الغالبية المسلمة خارج نطاق العالم العربي، والتي تثبت بما لايدع مجالاً للشك أن رفض الحريات الدينية بعيد كل البعد عن روح الإسلام الحقيقية، ومنها جيبوتي، وكوسوفو، وألبانيا، ومالي، والسنغال، وسيراليون.

التغير في طبيعة التهديد الجهادي للنظام العالمي

تطرقت ورشة العمل إلى طبيعة الفكر الجهادي للجماعات الإسلامية المسلحة بالتركيز على تنظيمي "القاعدة" و"داعش"؛ فمعظم الجماعات الجهادية المعروفة كانت أهدافها محددة في الحصول على القوة أو الاستقلال عن الدولة أو حتى إحداث بعض التغيير في السياسات التي تحددها قواعد النظام العالمي في النهاية، ومن ثم فهي تدور في إطار مفهوم الدولة والقواعد المؤسسية للنظام الدولي التي استقرت منذ معاهدة ويستفاليا.

أما تنظيما "القاعدة" و"داعش" فيختلفان في رؤيتهما للدولة نفسها؛ فهما لا يمثلا تهديداً للدولة،  بل للنظام العالمي كله، خاصةً في ظل طرحهما لأفكار تتجاوز فكرة الدولة لتصل لرفض المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام العالمي. ومن ثم، فإن "داعش" لا يهدف - كغيره من التنظيمات الإرهابية – إلى إحداث تغيير أو كسب مزيد من القوة فقط، بل إنه يسعى لتغيير شكل النظام العالمي، وهو ما يبرز جلياً في نظام "الخليفة" الذي يتجاوز الحدود المرسومة للدول، وهو المنظور الذي يرون من خلاله العالم الإسلامي، بما يجعله يمثل تهديداً قوياً لسيادة الدول، ومن ثم للنظام العالمي.

وينطبق الأمر ذاته على تنظيم "القاعدة"، وإن كان قد أجَّل تأسيس نظام "الخليفة" لهدف تكتيكي وهو هزيمة الولايات المتحدة، إلا أن خطاب "القاعدة" المُعلن وسلوكها يوضح بشكل جليّ رفضها للنظام الدولي الحالي بقواعده وهياكله المختلفة وحتى القوانين التي يفرضها. وأبسط مثال على ذلك، طريقة تسمية تنظيم "القاعدة" للجماعات التابعة له في المناطق المختلفة في العالم، حيث يُسميهم طبقاً للتوزيع الجغرافي بدلاً من الاعتماد على أسماء الدول؛ مثل "تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي" بدلاً من تنظيم القاعدة في الجزائر.

صعوبة التحول من تنظيم "جهادي" إلى دولة مستقرة

طرحت النقاشات داخل ورشة العمل إشكالية غاية في الأهمية، تتعلق بتساؤل مفاده: لماذا لا يمكن لتنظيم "داعش" أن يتحول لدولة كاملة المؤسسات داخل الإقليم؟

وانطلق هذا التساؤل من بعض المُقترحات التي تم تقديمها في الفترة الأخيرة بضرورة احتواء "داعش" وقبوله كدولة داخل النظام العالمي، بما يجعله ينصاع لقواعد ذلك النظام وأوامره بدلاً من محاربته.

وترتبط الإجابة على ذلك التساؤل بما ذكر سابقاً؛ من كون التنظيم في حد ذاته لديه تصور مختلف عن العالم يتجاوز الحدود التي رسمها النظام الدولي ويرفضها، بالإضافة إلى ذلك فقد أشارت بعض الأوراق البحثية المقدمة إلى أن تنظيم "داعش" نفسه ليس من مصلحته الانخراط في إطار النظام الدولي، بل إن محاولات قبوله كدولة ستزيد من مخاطر الصراع والتفكك داخل الإقليم ولن تساعد إلى تعزيز الاستقرار.

ومن ثم، لا يمكن التعامل مع تنظيم "داعش" بالطريقة الواقعية المُعتادة، بل عن طريق التعاطي بجدية مع تأثيرات الأفكار والأيديولوجية التي يتبعها ذلك التنظيم عبر الدول وداخلها، والتي تساعده بسهولة على التمدد والتوسع متجاوزاً تلك الحدود المرسومة. ففكرة الاعتراف الدولي بـ "داعش" من شأنها أن تخلق "معضلة أمنية فكرية" لدول الجوار، خاصةً في ظل قدرة ذلك التنظيم على حشد وتجنيد أنصاره في الدولة السُنية عن طريق الأفكار التي يبثها، وهو ما يُسرِّع من تساقط الأنظمة السياسية الحاكمة في تلك الدول ويدعم الفوضى والصراع داخل الإقليم.

لهذا، يُمكن القول إن الحرب الفكرية ذاتها ضد تنظيم "داعش" قد تساعد في نزع فتيل الحرب داخل إقليم الشرق الأوسط أكثر من التعاطي الأمني معه، خاصةً أن السياق الأيديولوجي الذي يُغلِّف هذا الإقليم هو سياق تنافسي بالأساس بين سنة وشيعة من ناحية، وحتى داخل كل فصيل من ناحية أخرى.

موقع الإسلام في السياسة الخارجية الإيرانية

اهتمت بعض أوراق ورشة العمل بالتطرق إلى إيران كإحدى الدول الإسلامية، وتم طرح تساؤل هام حول: إلى أي مدى تؤثر قواعد ومبادئ الدين الإسلامي في تشكيل السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العالم؟.

وقد توصلت هذه الأوراق البحثية بشكل عام إلى أن إيران دولة براجماتية بالأساس في سياستها الخارجية، وأحدث دليل على ذلك محادثاتها الأخيرة حول برنامجها النووي الإيراني والاتفاق الذي توصلت إليه مع مجموعة دول (5+1).

كما أن السياسة الخارجية الإيرانية لها أهداف ومصالح عامة تسعى للحفاظ عليها، و­الدين الإسلامي ليس إلا وسيلة من الوسائل التي تلجأ إليها طهران في بعض الأحيان لتحقيق تلك الأهداف، والتي تظهر في بعض الأحيان في إطار التنافس الإقليمي من ناحية، أو من واقع الرغبة في السيطرة على مفاصل الدولة نفسها من ناحية أخرى.

في نفس الإطار، طُرح تساؤل حول مدى إمكانية تصدير النموذج الإيراني للعالم الإسلامي، وتمت الإشارة إلى أن نجاح طهران في المفاوضات الأخيرة حول برنامجها النووي، وحضورها في العديد من الملفات في العالم الإسلامي، لا يعنيان بأي حال أنها تقدم نموذجاً، فمن المبالغة القول إن النموذج الإسلامي الإيراني قابل للتصدير.  

ماذا تحتاج الحركات الإسلامية في العالم؟

في الجزء الأخير من ورشة العمل، تم التطرق إلى موضوع الحركات الإسلامية في العديد من الدول وتقييم أدائها في السنوات الأخيرة وما تحتاجه لاستعادة بريقها بعدما مُنيت بهزائم عديدة في كثير من الدول مثل مصر وتونس وكذلك تركيا في الانتخابات الأخيرة.

وتم طرح خمس نقاط رئيسية تحتاجها حركات الإسلام السياسي بصفة عامة - وجماعة الإخوان المسلمين تحديداً - للعودة للمشاركة في المشهد السياسي من جديد، ولعل أبرزها:ـ

1- ضرورة الاعتراف بواقع احتياج المواطنين إلى الديموقراطية الحقيقية وقبول التعددية الدينية والسياسية، وليس كما فعلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر من تفعيلها للمبادئ الديمقراطية فقط في حالة احتياجها لها بما جعلها غير صادقة في سلوكها أمام الناس.

2- التحول من التمحور حول "الهُوية الإسلامية" إلى التمحور حول "القيم الإسلامية"؛ حيث إن معظم الحركات الإسلامية ظهرت لمواجهة النموذج الغربي السائد، فظهرت الدولة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي والمجتمع الإسلامي وغيرها، وكانت النتائج اللاحقة لذلك مُربكة للجميع بما قلَّل من الإيمان بتلك الهُوية الإسلامية، ومن ثم فإن التحول للقيم الإسلامية التي تحكم السلوك البشري في العموم سيكون أعم وأفضل لتلك الحركات.

3- إعادة النظر في مفهوم الشريعة وكيفية تعريف المجتمع الإسلامي، من خلال فتح الباب لمزيد من الاجتهاد والتجديد دون الاقتصار على التفسيرات القديمة للنصوص الإسلامية التي لا تتواكب مع طبيعة التطور التي تمر به المجتمعات الإسلامية.

4- التوقف عن لعب دور الضحية كرد فعل على الأحداث والعمل على مواكبتها بشكل أسرع وأكثر عملية، كأن يتم انتخاب قيادات جديدة من الأجيال الأصغر سناً لتلك الجماعات الإسلامية، بحيث تكون أكثر انفتاحاً على مبادئ الديمقراطية لا معارضة لها.

5- الابتعاد عن الشعارات المقدسة، حيث رفعت معظم الحركات الإسلامية في العالم العربي شعارات مضادة للثقافة الغربية من أجل الحصول على تأييد المواطنين، ثم بعدها تعاونت مع تلك الثقافة التي ترفضها؛ مما أدى إلى خلل في مصداقيتها أمام الرأي العام، وهو ما تحتاج للعمل عليه في الفترة القادمة إذا ما أرادت العودة للمشهد السياسي العام في معظم الدول.

إجمالاً، يمكن القول إن الأوراق البحثية التي قُدمت في ورشة العمل، قد أخذت جانباً مؤيداً للإسلام كدين في مجمله، منتقدة الادعاءات التي تُوجه ضده بأنه أساس الإرهاب وعدم الاستقرار العالمي، وفي نفس الوقت بدت الورشة حادة في انتقاداتها للحركات الإسلامية التي استخدمت الدين كوسيلة ولم تُعلي من قيمه كهدف سامٍ لها. كما أجابت تلك الأوراق أيضاً عن التساؤلات الخاصة بمدى ارتباط الدين الإسلامي بالسياقات المحلية والإقليمية والعالمية ومآلات تلك العلاقة وسبل تطويرها.


* عرض مُوجز لعدد من الأوراق البحثية المنشورة في يوليو 2015، عن ورشة عمل عقدت تحت عنوان: "الإسلام والنظام العالمي"، وهي الورشة التي عقدها "مشروع الشرق الأوسط للعلوم السياسية" التابع لمعهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن، بالتعاون مع "أكاديمية الأطلسي" وهي مبادرة تابعة لصندوق مارشال الألماني في الولايات المتحدة.