جرس إنذار:

إرهاصات تبلور جيل جديد مسيس في روسيا

12 April 2017


اندلعت في 26 مارس 2017 احتجاجات في حوالي 90 مدينة في مختلف أنحاء روسيا، شارك فيها نحو 60 ألف متظاهر، بينما تتراوح التقديرات عن عدد الذين تظاهروا في وسط موسكو من دون الحصول على إذن مسبق من السلطات حسب القانون، ما بين 12 و25 ألف شخص. وتزعم المعارض الروسي "اليكسي نافالني"، البالغ من العمر 40 عاماً، الدعوة لهذه التظاهرات، والتي نُسقت من قِبل "مؤسسة مناهضة الفساد" التي أسسها "نافالني" في عام 2011. وتم القبض على "نافالني" قبيل محاولته الانضمام إلى التظاهرة في موسكو، التي أخذت شكل مسيرة متحركة في أحد أهم شوارع العاصمة، حيث مثل أمام المحكمة وأصدرت حكماً بحبسه لمدة 15 يوماً بتهمة التظاهر من دون ترخيص. كما ألقت السلطات القبض على ألف متظاهر في موسكو.

اتهامات بالفساد

جاءت الدعوة للتظاهرات على خلفية عدم استجابة السلطات الروسية لتحقيق مصور أعدته "مؤسسة مناهضة الفساد" التي أسسها "نافالني" عن الثراء الفاحش والعقارات واليخوت وما شابه، التي يمتلكها رئيس الوزراء "ديميتري ميدفيديف"، من خلال شبكة من المؤسسات الخيرية والشركات الوهمية التي تمثل ستاراً لهذه الملكية. وتم بث التحقيق المصور على شكل فيلم فيديو في أوائل شهر مارس الماضي على موقع "نافالني" على موقع يوتيوب، حيث شاهده أكثر من 13 مليون شخص. وقد شمل الفيلم تصوير مختلف العقارات المفترض أنها مملوكة لـ "ميدفيديف" بواسطة "درونز" حلقت فوق أسوارها.

نموذج مختلف

تختلف هذه الاحتجاجات عن سابقاتها في أنها لم تندلع كرد فعل لتطورات سياسية، مثل ما شاب الانتخابات في عام 2011 من تجاوزات على سبيل المثال، بل إنها كانت مبادرة منظمة نادى بها "نافالني" وتم دعمها تنظيمياً من "مؤسسة مناهضة الفساد"، وهو أمر غير مسبوق في روسيا، ما يفسر اتساع نطاقها الجغرافي. فعلى عكس احتجاجات 2011-2012، لم تقتصر احتجاجات مارس على المدن الكبرى، مثل موسكو وسان بطرسبرج، بل شارك فيها متظاهرون في نحو 90 مدينة امتدت عبر مختلف أنحاء البلاد.

وقد استغل "نافالني" وسائل التواصل الاجتماعي للحشد بنجاح، حيث إنه يعد "زعيم جيل الإنترنت"، ويتابعه على تويتر أكثر من 2 مليون شخص. لكن دراسة أجرتها مؤسسة بحثية في روسيا (Sigma Expert Agency )، ومقرها موسكو، في أعقاب الاحتجاجات، نشرت بعض المواقع المستقلة الروسية نتائجها باللغة الإنجليزية، رصدت أنه، على عكس الاحتجاجات السابقة، لم يكن موقع فيس بوك، الذي تستخدمه النخبة في المدن الكبرى هو وسيلة التواصل الأساسية، بل تركزت الدعوات على موقع "في كونتاكت"، وهو الموقع الأكثر شعبية في روسيا. وبحسب دراسة مركز سيجما، فإن المدن العشرين التي شهدت أكبر خروج للمتظاهرين شهدت كلها إنشاء صفحة أو مجموعة للحشد للتظاهر على الموقع الروسي، بينما لم تنشأ صفحات على موقع فيس بوك إلا في نصف هذه المدن. 

وتذهب التقديرات إلى أن 70% من الشعب الروسي يستخدمون شبكة الإنترنت، بينما ترتفع هذه النسبة إلى ما يقرب من 100% عند الشباب. وعلى الرغم من سيطرة الدولة على الإعلام التقليدي، من راديو وتليفزيون بشكل كبير، فإنها لم تنجح في أن تنشئ آلية ترويج لها على الإنترنت. وبينما تجاهلت وسائل الإعلام الحكومية التظاهرات تماماً، فقد تابعها الجمهور من خلال بعض المواقع الإخبارية المستقلة على الإنترنت، التي شهدت إقبالاً غير مسبوق، ومن خلال البث الحي الذي بثته "مؤسسة مناهضة الفساد" نفسها، بالإضافة إلى المدونين والمشاركين في الشارع.

كبش فداء

اختار المعارض الروسي "نافالني" القضية المستهدفة من الاحتجاجات بعناية، إذ إن قضية الفساد أصبح لها مردود كبير بين الشعب الروسي، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن من يضعون الفساد كأكثر قضية تؤرقهم ارتفع من 24% في عام 2009 إلى 39% في عام 2013، بينما في المقابل بلغت نسبة من يضعون قضايا حقوق الإنسان على رأس أولوياتهم 2% في عام 2009، وارتفعت إلى 4% في عام 2013. من جانب آخر، فإن رئيس الوزراء "ميدفيديف" لا يحظى بشعبية في الشارع، ولا يعد ذا سلطة على مستوى النخبة، بل تتردد أنباء متواترة عن أنه ستتم الإطاحة به قريباً ككبش فداء للمشاكل الاقتصادية، ما يجعله هدفاً سهلاً، ويسهل من حشد مختلف الأطياف ضده من دون الدخول في مواجهة مع من يساندون "بوتين"، الذي لا يزال يتمتع بشعبية واسعة.

وربما يكون تراجع المستوى المعيشي لمعظم فئات الشعب الروسي، بسبب العقوبات الاقتصادية وانخفاض أسعار النفط، قد خلق دافعاً قوياً لدى الروس للاحتجاج. وعلى عكس احتجاجات 2011-2012، ليس الدافع للاحتجاج هذه المرة سياسياً صرفاً، بل يبدو أن ثمة ارتباطاً لدى قطاعات واسعة بين ما يعانونه من ضيق اقتصادي، حيث تشير التقديرات إلى تراجع الدخل الحقيقي بنسبة 15% خلال العامين الماضيين، بينما ارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 36%، والخدمات مثل الكهرباء بنسبة 28%، في حين ازداد الثراء الفاحش للمقربين من السلطة.

وبحسب دراسة مركز سيجما، فإن المناطق خارج موسكو وسان بطرسبرج التي شهدت خروجاً أكبر للمتظاهرين، كانت قد شهدت نسبة مشاركة متدنية في الانتخابات التشريعية لعام 2016، ما يؤشر إلى تفاعل فئات لم تكن مسيسة من قبل.

جيل بوتين

شهدت التظاهرات الأخيرة مشاركة غير مسبوقة من طلبة المدارس الثانوية والجامعات، منهم من لم يتعد الخامسة عشرة من عمره، وهو ما كان الظاهرة الأبرز والأكثر خطورة في هذه التظاهرات. ويلقب هذا الجيل بـ"جيل بوتين"، فقد نشأ في ظل قيادته المتواصلة لروسيا، كما أنه ليست لديه أي تجربة مع النظام السوفييتي، ولم يعاني الفوضى التي اندلعت عند انهياره في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وهو بالتالي لا يحمل امتناناً خاصاً لبوتين لإعادة الاستقرار أو إعادة روسيا إلى وضعها كقطب دولي من جديد، إذ إنه يأخذ كل ذلك أمراً مسلماً به. 

من جانب آخر، يحمل هذا الجيل هواجس مختلفة من حيث نوعية الحياة وفرص الترقي اجتماعياً واقتصادياً، والتي يراها مسدودة أمامه. وقد انتشرت بشكل ملحوظ على شبكة الإنترنت مقاطع تصور شباباً يخطبون في المحتشدين عن العلاقة بين الفساد والحالة الاقتصادية، وينتقدون التسييس المُبالغ فيه للنظام التعليمي. 

الجدير بالذكر أن مدونين شباباً تتابعهم أعداد كبيرة لم تكن لديهم توجهات سياسية من قبل، قد تبنوا هذه التظاهرات وبثوا مقاطع مصورة منها وكتبوا عن القضايا التي أُثيرت فيها، ما يدشن لدخول جيل جديد على الساحة السياسية من خلال طرق تواصل غير تقليدية تصل إلى الآلاف. 

معضلة النظام

كان التجاهل التام من قِبل النظام الروسي ووسائل الإعلام الحكومية لتظاهرات شهر مارس أمراً غير مسبوق، حيث إنها قد قامت بتغطية احتجاجات 2011-2012، على سبيل المثال، وهو ما يؤشر إلى أوامر صريحة من الكرملين في هذا الصدد. كما لم يصدر أي تعليق من دوائر رسمية حتى قطع "بوتين" الصمت بعد عدة أيام في تصريحاته أمام مؤتمر عن شؤون القطب الشمالي في 30 مارس الماضي. وجاءت تصريحات "بوتين" حادة في شجبها لهذه الاحتجاجات، حيث قال إنها تُستغل لأهداف انتخابية، في إشارة إلى نية "نافالني" الترشح ضد "بوتين" في الانتخابات الرئاسية لعام 2018، كما قال إنها تفتح الباب أمام الفوضى وانهيار الدولة.

ويؤشر الموقف المتغير للنظام الروسي إلى المعضلة التي يواجهها في التعامل مع "نافالني"، فبينما يبدو استمراره على الساحة السياسية دليلاً على أن النظام لا يعده خطراً، حيث تم التخلص من معظم الرموز السياسية التي عارضت "بوتين" بأشكال مختلفة في السنوات الماضية، فإن الدعم والمصداقية التي حصل عليهما كنتيجة للاحتجاجات الأخيرة قد يجعلان السيطرة عليه أكثر صعوبة.

الجدير بالذكر أن "نافالني" كان قد ترشح في الانتخابات المحلية في موسكو عام 2013، حيث حصل على ما يقرب من 24% من الأصوات، وهي أقل بقليل من النسبة التي كانت تؤهله لدخول الجولة الثانية من الانتخابات. 

وقد تم الحكم على "نافالني" في قضية اختلاس من شركة مملوكة للدولة، واعتبرها معظم المراقبين قضية ذات دوافع سياسية، ما يجعله غير مؤهل لخوض الانتخابات الرئاسية قانوناً. وبينما يفيد وجوده النظام، بوصفه دليلاً على وجود معارضة، فإن استخدام القوة المفرطة ضده قد يجعل منه "بطلاً" في نظر البعض. وبالتالي فإن السماح له بخوض الانتخابات الرئاسية يعد مجازفة، لكن منعه قد يمثل ضرراً أكبر، ويخلق له دعماً شعبياً أكبر. ويبدو أن "نافالني" يرسم خططه "على المدى الطويل"، وأنه أثبت قدرة كبيرة على استغلال الظروف لصالحه.

من جانب آخر، فإن نجاح "نافالني" في استقطاب الجيل الأصغر سناً، والذي كان في وقت سابق غير مهتم بالسياسة، يُعقد أيضاً من المعادلة، إذ لو تكررت الاحتجاجات وتم استخدام القوة في تفريقها، أو القبض على الشباب، فإن ذلك سيستعدي آباءهم أيضاً، وبعضهم من النخبة. لذلك أغلقت السلطات الروسية صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي دعت إلى تظاهرات جديدة في موسكو يوم 2 أبريل الجاري، وأعلنت أنها ستستخدم جميع الوسائل للمحافظة على الأمن، وبحسب تعبير بوتين "من يخرق القانون يجب أن يُعاقب".

روسيا أخرى

إذا كان النظام الروسي يملك من الأدوات ما يكفل له ردع هذه الاحتجاجات على المدى القصير، حيث كان عدد من خرجوا للتظاهر يوم 2 أبريل الجاري في موسكو لا يتعدى مئات قليلة، فإن الكرملين قد اكتشف فجأة وجود ما وصفه البعض بـ "روسيا أخرى"، وجيل جديد لا يمثل له "الخطاب القومي" و"شعبية بوتين" حافزاً كافياً لتحقيق ولائه للنظام، كما أنه بعيد عن تأثيره الذي يعتمد على السيطرة على الإعلام التقليدي، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه نظام "بوتين" على المديين المتوسط والطويل.