حسابات متناقضة:

المأزق التركي في الحرب على "داعش"

16 September 2014


لم تسفر زيارة وزير الدفاع الأمريكي، تشاك هاجل، إلى تركيا يوم 8 سبتمبر الجاري ــ والتي التقى خلالها كلاً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس هيئة أركان الجيش التركي نجدت أوزال، ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، وكذلك زيارة وزير الخارجية، جون كيري، بعد أربعة أيام فقط من زيارة هاجل ــ عن نتائج ملموسة تدفع تركيا إلى المشاركة الفاعلة ولعب دور أكبر في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش"، وطمأنة أنقرة إلى أنه لن يتم المساس بمصالحها، إذ إن كل ما حصل عليه المسؤولان الأمريكيان هو استعداد تركيا للتعاون في المجالات الإنسانية، وتبادل بعض المعلومات الاستخبارية.

أهمية تركيا في التحالف ضد "داعش"

تبقى تركيا شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه، ويبدو أن التحالف الجديد لمحاربة "داعش" يعيد لتركيا دورها كحليف مهم لا يمكن الاستغناء عنه، ليس فقط بسبب القرب الجغرافي من العراق وسوريا، ولكن أيضاً بسبب المعرفة العميقة التي بدأ الأتراك يتحلون بها فيما يخص المنطقة بعد انخراطهم العميق فيها.

جغرافياً تقع العراق وسوريا في منطقة تجعل من تركيا مفتاحاً مهماً للحرب على "داعش"، فحدود تركيا الطويلة جداً مع سوريا والعراق، والتي تتجاوز الـ 1400 كلم، هي معبر مهم للمقاتلين الذين يأتون من الخارج للالتحاق بـ "داعش" وجبهة النصرة وغيرهما من التنظيمات الإرهابية. وكان التباين حول طريقة مقاربة الحرب ضد الإرهاب هي أساس الخلاف بين واشنطن وأنقرة، وحال دون عقد أي لقاء بين رئيسي الدولتين منذ مايو 2013، إذ ترى واشنطن أن تركيا لم تكن حازمة في وعودها بوقف تسلل المسلحين الأجانب من تركيا إلى سوريا.

كما أن واشنطن تريد ــ لأسباب مختلفة ــ أن يقتصر التحالف على دول سنية دون غيرها، حتى لا تعطي انطباعاً أنها تقاتل السنة عبر "داعش"، بالإضافة إلى دول أخرى غربية؛ ففي مقابلة للرئيس الأمريكي باراك أوباما مع قناة "سي إن بي سي" الأميركية، عقب قمة الناتو في ويلز قال: "نحن بحاجة إلى دول سنية تقف معنا، ليس فقط السعودية، بل على شركائنا في الأردن والإمارات العربية المتحدة وتركيا أن ينخرطوا أيضاً، فالأمر يجري في منطقتهم، والخطر الذي يشكله الجهاديون عليهم أكبر بكثير من ذاك الذي يشكله علينا..".

الحسابات التركية في رفض التحالف ضد "داعش"

واقعياً، ثمة أسباب عديدة ومتنوعة لرفض تركيا الانضمام للتحالف الدولي والإقليمي لمحاربة "داعش"، من أبرزها:ـ

1 ـ لايزال 49 دبلوماسياً وموظفاً من القنصلية التركية في الموصل محتجزين لدى "داعش" منذ 10 يونيو الماضي، وأية مشاركة تركية في التحالف ستعرض حياتهم للخطر، وإن كانت الأسئلة لا تنقطع عن سبب عدم إقفال القنصلية عشية "غزوة الموصل"، على الرغم من تحذيرات حكومة إقليم كردستان.

2 ـ وجود "داعش" على امتداد قسم كبير من الحدود السورية مع تركيا وخطر انقلابها على تركيا، فضلاً عن وجود الآلاف من المقاتلين الأتراك في صفوف التنظيم، إذ نشرت صحيفة "ميللييت" في منتصف يونيو الماضي تقارير أمنية تركية تفيد بأن عدد المقاتلين الأتراك في صفوف تنظيم "داعش" بلغ 3 آلاف مقاتل، وأن معظمهم تلقى تدريبات في معسكرات تنظيم "القاعدة" في أفغانستان وباكستان، وأنهم سوف يشكلون عامل تهديد للأمن القومي التركي في حال انقلبت تركيا عليهم وتخلت عنهم. والأخطر من ذلك هو حجم التعاطف الذي تحظي به "داعش" في تركيا وفي صفوف حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، فنسبة تصل 16% من ناخبي الحزب لا يرون في "داعش" تنظيماً إرهابياً، وهي نسبة مخيفة تعادل ثلاثة ملايين على الأقل من ناخبي الحزب.

3 ـ تدرك تركيا أنه في ظل الإعلان الأمريكي عن عدم وجود أي تدخل بري مباشر من قبل الحلفاء والاعتماد على الميليشيات والقوى المحلية، فإن ضرب "داعش" لن يصب إلا في صالح تعزيز قوة جميع أعداء وخصوم ومنافسي أنقرة.

وعلى سبيل المثال، قامت قوات البشمركة وقوات العمال الكردستاني وجناحه السوري حزب "الاتحاد الديمقراطي" بالسيطرة على المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة "داعش" في محافظة الموصل شمال العراق، مستفيدة من ضربات الطيران الأمريكي. وقد اعترف نشروان البرزاني رئيس حكومة إقليم كردستان بالدور المركزي الذي لعبه تدخل هذين الحزبين في المعارك، منتقداً في الوقت نفسه تركيا لأنها لم تقدم الدعم المتوقع منها؛ وهو الأمر الذي حدث كذلك في مدينة أمرلي التركمانية، إذ إن فك الحصار عنها والسيطرة عليها تمّا على أيدي ميليشيات شيعية مثل "سرايا السلام" التابعة للتيار الصدري بالتعاون مع مقاتلي "الحشد الشعبي" الشيعية التابعة للجيش العراقي.

وبالتالي، ترى تركيا أن ما أطلقت عليه تسمية "انتفاضة سنية" في العراق في يونيو الماضي، في وجه حكومة بغداد، وساندت عشائرها، ستصبح ذات تأثير سلبي بعد سيطرة الأكراد والميليشيات الشيعية على المناطق التي تسيطر عليها "داعش"، بمساعدة التحالف الدولي، مما تعتبره تركيا تهديداً لمصالحها.

أما التحدي الأهم والأكثر إثارة للقلق التركي، فهو إمكانية وصول المزيد من السلاح إلى قوات "العمال الكردستاني"، والدور المتنامي الذي أخذ يؤديه الحزب في الحرب ضد "داعش"، مما قد يحمل تبعات كبيرة على عملية السلام التي تود الحكومة التركية إتمامها بأسرع وقت.

4 ـ تثير الضربات المحتملة لـ"داعش" القلق التركي حول إمكانية أن يكون نظام بشار الأسد هو المستفيد الأول منها، إذ لم تدعم تركيا الثورة السورية وقوات المعارضة إلا أملاً في قلب نظام الحكم في سوريا وتشكيل حكومة أكثر قرباً لها وأكثر بعداً عن إيران، إلا أن الأمر لم يمر كما أرادت أنقرة. فبعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الثورة السورية - وعلى الرغم من احتضان تركيا للمعارضة السورية - لاتزال الدول الإقليمية العربية تتنازع السيطرة على الائتلاف والمجلس الوطني المعارضين، وحتى كتائب المعارضة السورية لا تدين بولائها للحكومة التركية بقدر ولائها لذات الدول التي تتنازع النفوذ في المعارضة السياسية. وتشير التسريبات إلى أن تركيا غير متعاونة مع التحالف الدولي الجديد إلى الدرجة التي رفضت فيها حتى تدريب كتائب معارضة سورية معتدلة على أراضيها لتحتل الفراغ الذي سيشكله انحسار "داعش".

5 ـ تتخوف تركيا من أن يكون تشكيل هذا التحالف مناسبة لتسليح الجيش العراقي بأسلحة جديدة ومتطورة، وهو ما لا تريده أولاً حتى لا تقع هذه الأسلحة بيد "حزب العمال الكردستاني" من جهة، وحتى لا يكون ذلك تقوية للسلطة السياسية في العراق التي يغلب عليها التأثير الشيعي من جهة ثانية. وفي هذا الإطار قال وزير الخارجية التركي الجديد تشاووش أوغلو في 7 سبتمبر الجاري: "إن الجيش العراقي جيش يعتمد على المذهب الشيعي بنسبة 95%، وليس معروفاً في حال تسليحه الوجهة التي سيستخدم فيها هذا السلاح. والدعم يكون تبعاً لطبيعة البنية الجديدة في بغداد".

تركيا والخيارات المحدودة

إذا كانت حسابات أنقرة تجعلها لا تنخرط في هذا التحالف عملياً، لكن يمكن أن تقتصر مشاركتها على بعض الخطوات الرمزية، حتى لا تدفع بالغضب الأمريكي منها إلى ذروته، وذلك للأسباب التالية: ـ

1 ـ لا شك أن أنقرة حليف مقرب من واشنطن، بل يكاد يكون الحليف الأهم في المنطقة، وإن اعترى الفتور العلاقات بين الجانبين خلال السنوات القليلة الماضية، على خلفية الأزمة السورية والقبرصية والأوضاع في مصر والعلاقات التركية -الإسرائيلية، لكن تبدو تركيا في الوقت الحالي، خصوصاً بعد لقاء أردوغان مع أوباما خلال قمة الناتو الأخيرة، وفي ظل وجود حكومة جديدة برئاسة داود أوغلو، غير راغبة في تدشين عهد أردوغان ـ داود أوغلو بخلاف كبير مع الولايات المتحدة.

2 ـ إذا كان تأييد ومشاركة الدول العربية السنية الرئيسية، وعلى رأسها مصر والسعودية، للحرب الأمريكية ضد "داعش"، يرفع العتب والحرج عن تركيا للمشاركة فيها من جهة، إلا أنه يزيد الضغط عليها من جهة أخرى، حتى لا تبدو في نظر الولايات المتحدة والغرب والعالم دولة داعمة للتنظيمات الإرهابية المتطرفة في المنطقة. وفي الوقت نفسه، فإن أي مساهمة تركية - ولو رمزية - في الحرب ضد "داعش" قد تجعلها مشاركة في ترتيبات ما بعد سقوط التنظيم، وبشكل يمكنها من تفادي الأخطار أو جني الثمار.

3 ـ ثمة مخاوف تركية من وجود استراتيجية أمريكية جديدة في المنطقة يمكن من خلالها لواشنطن أن تستغني عن أنقرة لاحقاً، إذ أسست واشنطن مركزين للعمليات ضد "داعش"، أحدهما في بغداد والثاني في أربيل، ويؤشر الدور المتنامي لأربيل في هذا السياق إلى أنها باتت حليفاً أكثر من أنقرة، كما تقول صحيفة وول ستريت جورنال، والتي ترى أنه "حان الوقت لإنشاء قاعدة بديلة عن "إنجرليك" في المنطقة.

كما نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخراً تقريراً اتهمت فيه تركيا بالتحول إلى سوق للنفط "الداعشي"، وأوردت الصحيفة نقلاً عن مصادر رسمية في الإدارة الأمريكية قولها: "إن تركيا تعتبر الآن أكبر عائق أمام الولايات المتحدة في حربها لتجفيف الموارد المالية لتنظيم داعش"، مؤكدة أنها تسعى بكل طاقتها لقطع تلك الموارد، والتي تقدر بالملايين من بيع شحنات النفط. وقالت "إن خيار توجيه الضربات الجوية للشاحنات التي تنقل النفط الداعشي إلى تركيا ما زال أمراً وارداً"، موضحة أن "تجارة النفط تُعد المصدر الأكبر لتمويل "داعش" لأنه بمنزلة الضامن الوحيد لبقائه مستمراً ومسيطراً على الأرض".

على هذا النحو، فإن خيارات تركيا محدودة وضيقة، وتقديراً وتفهماً لهذا المأزق التركي، فإنه وبحسب المعلومات المتداولة التي سربتها قناة "سي إن إن تورك"، فإن أوباما وأردوغان اتفقا خلال قمة الناتو الأخيرة، على أن دور تركيا يجب ألا يكون واضحاً، وأن تركيا ستقوم بالعمل من خلف الستار، أي أن تركيا لن تتدخل بشكل مباشر في الحرب على "داعش" ولن تسمح باستخدام قاعدة إنجرليك التابعة لحلف الأطلسي للقيام بضربات مباشرة للتنظيم (وإن كانت هناك احتمالات مطروحة لفتح القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في تركيا سراً)، لكنها قد تقدم بعض الدعم في إطار محدود أو غير معلن، لاسيما على صعيد المعلومات الاستخبارية، ومن دون أي مشاركة بشرية في الحرب، ويقتصر دورها - حسب واشنطن - على التركيز على وقف تدفق المتشددين الأجانب عبر أراضيها للانضمام لـ"داعش"، وذلك تفادياً للاعتراض والبلبلة والاضطرابات التي قد تحدث في الشارع التركي وصفوف حزب "العدالة والتنمية"، جراء الدعم العلني للتحالف الأمريكي ضد "داعش".