ممارسات همجية:

لماذا يتصرف "داعش" بهذه الوحشية؟

15 January 2015


** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الثالث، أكتوبر 2014.


 يُعد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، الذي غير اسمه في يونيو 2014 إلى "الدولة الإسلامية"، من أبرز الفاعلين الدوليين من غير الدول في الوقت الراهن. فالمتابع لوضع "داعش"، والتطورات الراهنة على الأرض والمتعلقة بتمدده وإحكامه السيطرة على مساحات وأقاليم مختلفة من سوريا والعراق، يجد أن تأثيرات التمدد السريع للتنظيم قد تجاوزت حدود سوريا والعراق.

وأصبح لهذه الامتدادات صداها على المستويين الإقليمي والدولي، مما دفع أطرافاً دولية وإقليمية عديدة، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، للتحرك السريع من أجل وضع استراتيجيات وخطط لمواجهة التنظيم، من أبرزها تشكيل تحالف دولي واسع لهذا الغرض، مع التأكيد في الوقت نفسه على أن هذه العملية سوف تستغرق بعض الوقت، كما أن مجلس الأمن أصدر قراراً بالإجماع بتجريم التنظيم وقطع التمويل عنه، مما يؤكد على الخطورة التي بات يمثلها تنظيم "داعش" على المستويين الإقليمي والدولي.

وبغض النظر عن مواقف وحسابات الأطراف الإقليمية والدولية في مواجهتها لتنظيم "داعش"، فالمؤكد أن هذا التنظيم الذي يسيطر على مناطق تتراوح ما بين 20 - 30 % من مساحة كل من سوريا والعراق - حسب كثير من التقارير - يمتلك قدرات ومعدات عسكرية جيدة، حصل على جانب كبير منها من الجيش العراقي، كما أن لديه موارد مالية ومصادر تمويل كبيرة جراء بيع نفط مستخرج من حقول سورية وعراقية في السوق السوداء، والحصول على فدية مقابل إطلاق سراح محتجزين، فضلاً عن نهب بعض المصارف، وفرض الجزية على الأقليات الدينية... إلخ.

لكن الأخطر من ذلك كله، هو الإرهاب الوحشي الذي مارسه - ويمارسه - التنظيم في المناطق التي تقع تحت سيطرته، والذي يتمثل في فظائع أخرى كثيرة منها عمليات هتك أعراض، وقطع رؤوس، وتمثيل بجثث، وبتر أطراف، وسبي نساء وبيعهن، فضلاً عن عمليات تطهير عرقي وتدمير قبور أنبياء، وهدم مساجد.

والسؤال هنا: كيف يمكن تفسير هذه الوحشية التي تعيد إلى الأذهان الممارسات البربرية والهمجية التي عرفتها الإنسانية في بعض فترات التدهور والانحطاط؟.

ثمة أربعة مداخل يمكن من خلالها فهم وتفسير وحشية تنظيم "داعش" ودمويته المفرطة تتمثل في: تأسيس العنف والإرهاب على تأويلات وتفسيرات دينية فاسدة، وطبيعة الخلفيات الاجتماعية لكثير من الأعضاء الذين انضموا إلى التنظيم، سواء من داخل سوريا والعراق أو من دول عربية وأجنبية أخرى، والإمعان في ترهيب المستهدفين في ظل تنامي نزعة غرور القوة لدى التنظيم، خاصة في ظل وجود مناطق فراغ داخل كل من سوريا والعراق بسبب عجز الدولة في البلدين عن فرض سلطتها على إقليمها، فضلاً عن تجذر وانتشار ثقافة العنف والإرهاب في المناطق التي يتمدد فيها التنظيم. وفيما يلي عرض لكل هذه المداخل بشيء من التفصيل.

أولاً: تأسيس العنف والإرهاب من منطلقات وتفسيرات دينية فاسدة

من المعروف أن تنظيم "داعش" هو امتداد لسلسلة تنظيمات جهادية متطرفة ظهرت تباعاً في العراق، حيث تمثلت البداية في جماعة "التوحيد والجهاد"، التي نشطت على الساحة العراقية، ثم تحولت إلى تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين"، والذي تولى قيادته أبومصعب الزرقاوي في عام 2004، وقام بمبايعة زعيم القاعدة السابق أسامة بن لادن. وبعد مقتل الزرقاوي في يونيو 2006 خلفه في رئاسة التنظيم "أبوحمزة المهاجر"، وتم بعد ذلك تشكيل تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" بزعامة "أبي عمر البغدادي"، وبعد مقتله في أبريل 2010 خلفه "أبوبكر البغدادي"، وفي أبريل 2013 أعلن الأخير دمج تنظيمي "الدولة الإسلامية في العراق" و"جبهة النصرة" الذي يعمل في سوريا في تنظيم واحد تحت مسمى "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، إلا أن "جبهة النصرة" رفضت الاندماج، وعندها قرر التنظيم نقل جانب من نشاطه إلى الساحة السورية، وخاض مواجهات مع "جبهة النصرة" وأطراف أخرى هناك. وفي يونيو 2014، وعلى أثر سيطرة التنظيم على مساحات واسعة من العراق، أعلن قيام دولة الخلافة الإسلامية، مع مبايعة أبي بكر البغدادي خلفية للمسلمين.

وفي ضوء نشأة التنظيم وتطوره يتضح أن الإطار العام لفكره لا يختلف عن فكر القاعدة وغيره من التنظيمات المتطرفة الإرهابية التي تتستر برداء الدين، وتتبنى مقولات الجاهلية والتكفير، وتتخذ من العنف والإرهاب وسيلة للإطاحة بالنظم القائمة وإخضاع المجتمعات، وبناء الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وفقاً للأسس والمبادئ الإسلامية الصحيحة، حسبما تتصورها هذه التنظيمات. ومن المعروف أن أسوأ أنواع العنف والإرهاب هو ذلك المتسربل بالدين، حيث إن من يمارسه يوغل فيه، ويكون على قناعة بأنه يؤدي رسالة مقدسة، ويمارس الجهاد لإعلاء رايات الإسلام، وإن ذلك أسمى من أي اعتبارات أخرى، وبالتالي لا تهتز له شعرة وهو يتمادى في القتل والتمثيل بالجثث والتعذيب.

 ولذلك فإن تسويغ العنف والإرهاب استناداً إلى تفسيرات وتأويلات دينية يمثل مدخلاً مهماً لتفسير وحشية تنظيم "داعش" وهمجيته.

وبالطبع فإن هذه التفسيرات والتأويلات الفاسدة بعيدة كل البعد عن جوهر الدين الإسلامي الحنيف، الذي يجسد كل معاني الوسطية والاعتدال، ويعلي من قيمة احترام الكرامة الإنسانية والحق في الحياة، كما يكفل حرية العقيدة، بل ويؤكد على الالتزام بمنظومة كاملة من الأخلاقيات حتى في حالة الحرب مثل: عدم التمثيل بالجثث، وعدم قتل النساء والشيوخ والأطفال، وعدم هدم دور العبادة، وحسن معاملة الأسرى، ولكن تنظيم "الدولة الإسلامية" ارتكب كل هذه الموبقات وأكثر.   

ثانياً: الخلفيات الاجتماعية لأعضاء التنظيم

إن تأسيس العنف والإرهاب على تفسيرات وتأويلات دينية فاسدة يحدث أثره الأكبر في سياق خصوصية الخلفيات الاجتماعية لأعضاء التنظيم، الذين يتبنون هذا الفكر. وبغض النظر عن التفاوتات والتباينات بشأن تقدير عدد أعضاء التنظيم، فالمهم هنا هو تسليط الضوء على جانب من خلفيات الأعضاء، باعتبار أن ذلك يساعد في تفسير نزعة الوحشية والدموية التي يتميز بها التنظيم. ويمكن في هذا المقام تسجيل عدة نقاط:

أولاها، أن هناك أعداداً من أعضاء التنظيم هم من الشباب صغار السن، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 17 و25 سنة، وبالتالي يسهل التغرير بهم وتعريضهم لعمليات غسل مخ، بحيث يكونوا أدوات طيعة لارتكاب أعمال وحشية.

وثانيتها، أن أعداداً من المتطرفين المنتمين إلى تنظيمات جهادية أخرى انضموا إلى "داعش"، حيث نظروا إليه باعتباره الأكثر قوة وفاعلية مقارنة بالتنظيمات التي كانوا ينتمون إليها، والتي تراجع دورها.

وثالثتها، أن التنظيم استقطب أعداداً من غير السوريين والعراقيين، وهم ينتمون إلى عشرات الدول، العربية والآسيوية والأوروبية، ومعظم الشباب القادمين من هذه الدول  يعانون مشكلات الهوية والبطالة والتمييز والتهميش في بلدانهم، وبالتالي لديهم من الإحباطات ما يكفى لممارسة العنف الوحشي باسم الدين.

ورابعتها، أن التنظيم حسب مصادر عديدة يدفع لأعضائه مرتبات، ويقدم لهم مزايا، لاسيما أنه أغنى تنظيم إرهابي في العالم. وفي ظل أوضاع مأساوية في كل من سوريا والعراق، وبطالة خانقة في بلدان عربية وآسيوية كثيرة، وتهميش للجاليات العربية والإسلامية في بلدان أوروبية عديدة يصبح الانضمام للتنظيم وظيفة في نظر فئات محبطة من الشباب، وبالتالي يصبحون مرتزقة يمارسون القتل بأجر مادي، علاوة على أن هناك من يبشرهم بالجنة في الآخرة.

ثالثاً: ترهيب المستهدفين في ظل تنامي نزعة غرور القوة لدى التنظيم

خلال عام 2013 والنصف الأول من عام 2014، استطاع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" أن يحرز تقدماً عسكرياً سريعاً في كل من سوريا والعراق، وأن يمدد دائرة سيطرته ونفوذه، حيث أصبح ـ حسب كثير من التقارير - يسيطر على مساحة تتراوح ما بين 20% - 30% من مساحة كل من البلدين، وهي مساحة شاسعة تضم حقولاً ومنشآت نفطية ومدناً وقرى، بما في ذلك مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية. ومن هنا فقد أعلن التنظيم في نهاية يونيو 2014 قيام دولة الخلافة الإسلامية، ومبايعة أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين.

وعلى خلفية هذه التطورات، أصبح التنظيم يمتلك معدات عسكرية كبيرة حصل على جانب كبير منها من الجيش العراقي الذي فر من الموصل من دون مقاومة قبل أن يستعيد المبادرة بعد ذلك، كما أصبحت له مصادر تمويل ضخمة على نحو ما سبق ذكره، وراح يمارس سلطته في إدارة وتسيير شؤون المناطق التي تحت سيطرته. ولاشك في أن عجز الدولة في كل من العراق وسوريا عن فرض سيطرتها على إقليمها، ووجود مشكلات داخلية متفاقمة في البلدين بسبب أخطاء وخطايا الحكومة العراقية السابقة (حكومة المالكي) التي غذت النزعات الطائفية في العراق، وانزلاق سوريا إلى مستنقع حرب داخلية طاحنة لا تبدو نهايتها قريبة، قد وفرت بيئة ملائمة لتمدد تنظيم "الدولة الإسلامية"، مما عزز من نزعة غرور القوة لديه، وجعله يمعن في ممارسة العنف والإرهاب حتى يحكم قبضته على سكان المناطق التي تحت سيطرته، ويقضي على إمكانية ظهور قوى محلية مناوئة له. وفي المقابل فإن الإنجازات العسكرية السريعة التي حققها التنظيم في مواجهة الجيش العراقي وقوات البشمركة الكردية وعلى الجبهة السورية قد أوجدت صورة ذهنية لدى العامة عن قوته القاهرة، وعززت من حالة الخوف والهلع لديهم، بحيث أصبح لسان حالهم يقول: إذا كانت جيوش قد عجزت عن التصدي للتنظيم، فماذا سيفعل البسطاء العزل؟.   

رابعاً: تجذر ورسوخ ثقافة العنف والإرهاب

إن المناطق التي يتمدد فيها تنظيم "الدولة الإسلامية" ومحيطها الإقليمي بصفة عامة مشبعة بثقافة العنف والإرهاب، حيث إن أعمال القتل والحرق والتدمير والتهجير وغيرها أصبحت جزءاً من الحياة اليومية للناس. فالعراق لم تعرف استقراراً منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، وبدلاً من أن تصبح نموذجاً للديمقراطية حسب التصور الأمريكي في أعقاب إطاحة نظام صدام حسين في عام 2003 تحولت إلى نموذج للفوضى والانفلات الأمني والنعرات الطائفية والقتل على الهوية وتدمير المساجد والتهجير القسري.

أما سوريا فهي في حالة حرب، بل حروب داخلية منذ أكثر من ثلاث سنوات، فلا نظام الأسد قادراً على فرض سيطرته على الرغم من استخدامه كل الأسلحة المتاحة لديه، ولا الجيش السوري الحر وغيره من الجماعات المسلحة قادرة على إطاحة النظام، خاصة في ظل كثرة التعقيدات والتوازنات الإقليمية والدولية المرتبطة بالمأساة السورية. وتفرز هذه البيئة المشبعة بثقافة العنف والإرهاب أشخاصاً مستعدين لممارسة العنف العدمي المجرد من أي هدف، وهم يشكلون خزاناً بشرياً تغترف منه التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" وغيره.

خلاصة القول: إن وحشية وهمجية تنظيم "الدولة الإسلامية" مصدرها تأسيس العنف والإرهاب على تفسيرات وتأويلات دينية فاسدة ومنحرفة، وطبيعة الخلفيات الاجتماعية لأعضاء التنظيم، والتي تجعلهم أكثر استعداداً لتبني هذا الفكر والتصرف على أساسه، فضلاً عن حرص التنظيم على تأمين مكاسبه وتثبيت سيطرته من خلال بث الرعب والخوف في نفوس السكان الذين يقطنون المناطق التي يسيطر عليها، ناهيك عن شيوع ورسوخ ثقافة العنف والإرهاب في المنطقة التي يتمدد فيها التنظيم، مما يوفر له بيئة ملائمة تمكنه من تجنيد الأعضاء، وغسل أدمغتهم، والدفع بهم لتنفيذ مخططاته الدموية. 

لقراءة النص كاملاَ رجاءً الضغط هنا