مساران متباينان:

العلاقات الخارجية التركية بعد فشل الانقلاب

22 July 2016


لاتزال تبعات محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا قائمة، فالحكومة التركية مستمرة في ملاحقة المشتبه في تورطهم بمحاولة الانقلاب في مؤسسات الدولة التركية كافة، حيث جرى فصل واعتقال نحو 50 ألفاً من العسكريين وأفراد الشرطة والقضاة والموظفين الحكوميين والمعلمين منذ فشل محاولة الانقلاب، وطالت الاعتقالات اثنين من أعضاء المحكمة الدستورية العليا، كما مُنع العديد من الأتراك ومنهم أكاديميون من السفر إلى خارج البلاد.

وفي ظل انشغال الحكومة التركية بإعادة ترتيب الجبهة الداخلية وتأمينها، ثمة توقعات بأن ينعكس ذلك على سياساتها الخارجية، لتتجه تركيا نحو التهدئة في علاقاتها مع بعض القوى الإقليمية وتقليل انخراطها في أزمات المنطقة.

غير أن العلاقات التركية – الأمريكية، والتركية – الأوروبية، مُرشحة، في الوقت ذاته، نحو مزيد من التوتر، في ظل الرفض الأمريكي لتسليم الداعية المعارض فتح الله كولن لتركيا، وأيضاً الانتقادات الأمريكية والأوروبية المُوجهة للإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية مؤخراً على خلفية محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، والتي يأتي على رأسها طرح الحكومة التركية لمقترح إعادة العمل بعقوبة الإعدام.

توجه تركي نحو التهدئة مع بعض القوى الإقليمية والدولية

من شأن انشغال الحكومة التركية بملاحقة المتورطين في محاولة الانقلاب الفاشلة وتقديمهم للمحاكمة، فضلاً عن بذل الجهود للتخلص من حالة الفوضى التي نجمت عن محاولة الانقلاب، واستعادة حالة الأمن والاستقرار الداخلي، أن تدفع بتركيا للمُضي قدماً نحو تهدئة علاقاتها المتوترة ببعض القوى الإقليمية والدولية، والتركيز في تحركاتها الخارجية على معالجة الملفات التي تشكل تهديداً مباشراً على أمن الدولة التركية.

ويمكن تناول التوجهات المحتملة للسياسة الخارجية التركية في هذا الشأن، على النحو التالي:

1- مُضي تركيا قُدماً في تطبيق اتفاق المصالحة مع إسرائيل، الذي وقعته الدولتان في 28 يونيو 2016 لينهي حالة التدهور في العلاقات التي دامت لأكثر من ست سنوات على خلفية الاعتداء الإسرائيلي على سفينة المساعدات التركية "مافي مرمرة" التي كانت متوجهة لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة في عام 2010. إذ باتت أنقرة الآن في أمس الحاجة إلى توثيق التعاون الأمني والاستخباري والعسكري مع تل أبيب، لمواجهة حالة الانكشاف الأمني التي تعاظمت عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، وتزايد احتمالات تعرض تركيا لهجمات إرهابية من قِبل تنظيم "داعش" وبعض التنظيمات الكردية في ظل تراخي القبضة الأمنية وانشغال قوى الأمن التركية وجهاز الاستخبارات بملاحقة مُنفذي محاولة الانقلاب.

2- اتجاه تركيا لتوثيق علاقاتها مع روسيا، والتي عادت عقب الاعتذار الذي قدمته أنقرة لموسكو في 27 يونيو 2016 على إسقاطها المقاتلة الروسية في نوفمبر العام الماضي، وهي الحادثة التي على أثرها تدهورت العلاقات الثنائية بين الدولتين. فتركيا، المنشغلة بمواجهة أزمات الداخل، ستكون بحاجة إلى توثيق علاقاتها الاقتصادية مع روسيا لمعالجة الآثار السلبية لمحاولة الانقلاب على الاقتصاد التركي، بالإضافة إلى إيجاد نوع من التفاهمات مع روسيا بخصوص الأزمة السورية تضمن المصالح التركية في هذا البلد، والتي يأتي على رأسها منع أكراد الشمال السوري من إقامة منطقة حكم ذاتي، مُستغلة نفوذ روسيا الكبير في سوريا وعلاقتها القوية بنظام الأسد. وما يعزز ذلك أن تركيا فقدت الثقة بالولايات المتحدة كحليف لها في ظل الخلافات بين الدولتين بشأن عدد من الملفات.

وينعكس ذلك التوجه التركي في إعلان السلطات التركية القبض على الطيارين التركيين اللذين أسقطا المقاتلة الروسية في 24 نوفمبر الماضي، بتهمة المشاركة في المحاولة الانقلابية الفاشلة، وذلك بالتزامن مع تصريح لأردوغان بأن المسؤولين عن إسقاط المقاتلة الروسية كانا من المشاركين في الانقلاب، فضلاً عن الإعلان عن عقد لقاء مرتقب بين الرئيسين التركي أردوغان والروسي بوتين في أوائل شهر أغسطس المقبل.

3- السعي التركي باتجاه فتح قنوات اتصال مع كل من العراق وسوريا، وذلك من خلال وسطاء إقليميين، مثل الجزائر وإيران اللذين لديهما علاقات جيدة مع تركيا وفي الوقت ذاته مع العراق وسوريا، أو وسطاء دوليين مثل روسيا. وهذه السياسة سعت أنقرة لانتهاجها قبل محاولة الانقلاب، غير أنها تراجعت عنها عقب الانتقادات الداخلية لتصريحات رئيس الوزراء التركي ابن علي يلدرم بأن تركيا ستسعى لإصلاح علاقاتها بالعراق وسوريا. وقد باتت تلك الخطوة ضرورية الآن لأمن الدولة التركية، التي تعاني انقساماً في قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية، من أجل تهدئة الأجواء مع دولتين لديهما حدود مشتركة مع تركيا يمكن أن يشكلان تهديداً لأمنها القومي، وذلك بما يضمن أمن حدود الدولة التركية.

تصاعد التوتر في علاقة أنقرة بواشنطن والاتحاد الأوروبي

اتسمت علاقات تركيا بكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتوتر قبل محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، وذلك بسبب الخلافات التركية - الأمريكية بشأن الأزمة السورية، والدعم الأمريكي لأكراد سوريا، والخلافات التركية - الأوروبية حول تطبيق اتفاق اللاجئين، والرفض الأوروبي لإلغاء تأشيرة الدخول للمواطنين الأتراك بسبب عدم تعديل تركيا لقانون الإرهاب. ومن المرجح أن تكون هذه العلاقات مُرشحة لمزيد من التوتر، وذلك في ضوء الشواهد التالية:

1- الرفض الأمريكي، حتى الآن، لتسليم الداعية المعارض فتح الله كولن زعيم حركة الخدمة المقيم بولاية بنسلفانيا الأمريكية، حيث يتهم الرئيس التركي أردوغان زعيم حركة الخدمة بالمسؤولية عن تدبير محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، مُطالباً الولايات المتحدة بتسليمه إلى تركيا لمحاكمته. كما أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم أن بلاده ستلجأ إلى إعادة النظر في صداقتها مع واشنطن في حال عدم تسليمها كولن.

ومن جانبه، أعلن البيت الأبيض تسلمه طلب تركيا بشأن تسليم فتح الله كولن، مؤكداً أنه سيتم النظر في الإجراءات القانونية لهذا الأمر. كما عرض الرئيس أوباما، في اتصال هاتفي، على الرئيس أردوغان مساعدة الحكومة التركية في تحقيقها في محاولة الانقلاب.

2- الانتقادات الأمريكية والأوروبية للإجراءات المتخذة من قِبل الحكومة التركية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، حيث توجد حالة من القلق لدى الولايات المتحدة والقوى الأوروبية من سعي أردوغان لاستغلال محاولة الانقلاب الفاشلة للانتقام من خصومه، والتوجه بتركيا نحو نظام أكثر سلطوية، وذلك عقب حملة الاعتقالات الواسعة في صفوف مؤسسات القضاء والشرطة والجيش، وإعلان الرئيس التركي ورئيس حكومته "ابن يلدرم" أنه ستتم دراسة الإجراءات الدستورية والقانونية لإعادة العمل بعقوبة الإعدام، فضلاً عن مصادقة البرلمان التركي، في 21 يوليو، على قرار مجلس الوزراء بإعلان حالة الطوارئ في تركيا لمدة 3 أشهر، وتعليق العمل بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

وقد انعكس هذا القلق في إعلان مسؤولة السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي "فيديريكا موغيريني" أن أي بلد يطبق عقوبة الإعدام لا يمكنه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، داعيةً أنقرة إلى احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان. كما ذكر المفوض المسؤول عن توسعة الاتحاد الأوروبي "يوهانس هان" أن عمليات الاعتقال السريعة التي تمت في صفوف القضاة والشرطة والقوات المسلحة تشير إلى أن الحكومة أعدت قائمة الاعتقالات سلفاً. علاوة على تحذير وزير الخارجية الألماني لتركيا من أن أي تحرك من جانبها باتجاه إعادة عقوبة الإعدام سيعرقل جهود انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وطالب أنقرة بالتعامل مع مُدبري محاولة الانقلاب بما يتفق مع القانون. فيما رجح الرئيس الفرنسي "فرنسوا هولاند" حدوث انتهاكات بعد استعادة أردوغان سيطرته التامة على الأمور، وشدد وزير الخارجية النمساوي "سيباستيان كورز" على أن محاولة الانقلاب الفاشلة لا تمنح أردوغان حرية التصرف بطريقة تعسفية.

كما لقي إعلان حالة الطوارئ في تركيا وتعليق العمل بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، انتقادات أوروبية، تخوفاً من استغلالها في مزيد من التضييق على الحريات في البلاد.

ختاماً، يمكن القول إن السياسة الخارجية التركية، خلال فترة ما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، ستعطي أولوية كبرى لعاملين أساسيين؛ هما الحفاظ على أمن واستقرار الدولة التركية، ودفع الاقتصاد التركي بما يحافظ على الإنجازات الاقتصادية التي حققتها حكومات حزب العدالة والتنمية خلال السنوات السابقة، وهو ما سيدفع الحكومة التركية للمُضي قدماً في سياسة "تقليص الأعداء" خاصةً مع دول الجوار ومنطقة الشرق الأوسط.

ومن المتوقع أيضاً استغلال عدد من القوى الإقليمية والدولية لحالة عدم الاستقرار التي تمر بها تركيا وانشغالها بالداخل، للحصول على تنازلات تركية في عدد من الملفات بالمنطقة. فعلى سبيل المثال، تسعى روسيا إلى الاستفادة من التوجه التركي نحو توثيق العلاقات معها من ناحية، وعلاقات تركيا المتوترة بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، في اتجاه إقناع أنقرة لتغيير سياساتها تجاه الأزمة السورية، بما يتناسب مع المصالح الروسية، وهو الأمر الذي سيؤثر بلا شك على مسار الصراع السوري.