ثلاثة محددات:

تحولات الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا

26 June 2016


ثمة علاقة بين تنامي النفوذ الروسي في سوريا، وبالذات العسكري، وبين زخم التواصل والتنسيق الإسرائيلي مع روسيا؛ إذ قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأربع زيارات إلى موسكو مُنذ شهر سبتمبر الماضي، وهو رقم قياسي في كامل تاريخ إسرائيل السياسي.

وتشكل الاستراتيجية العسكرية/ السياسية الإسرائيلية في المسألة السورية جوهر هذه العلاقة، فهذه الاستراتيجية يمكن رسم ملامحها بأربع نقاط، حدد نتنياهو اثنتين منها بشكل واضح في زيارته الأخيرة إلى موسكو، وهما: الإجراءات الرامية إلى الحيلولة دون استخدام أراضي سوريا من قِبل إيران لمهاجمة إسرائيل، ومنع توريد أنواع حديثة من الأسلحة لـ"حزب الله" في لبنان.

لكن المُتابعين لتفاصيل الانخراط الإسرائيلي في المسألة السورية مُنذ اندلاع الثورة قبل خمسة أعوام، يُدركون أن ثمة نُقطتين تُضاف إليهما دوماً، حيث تسعى إسرائيل على تثبيتهما في سوريا، وتتعلق الأولى بمنع سقوط النظام السوري بشكلٍ يؤدي لأن تنهار معه المؤسسة الأمنية/ العسكرية التابعة للنظام، والتي تلتزم مُنذ أكثر من أربعين عاماً بعداوة باردة مع إسرائيل. أما النقطة الأخرى فمحورها منع هيمنة التيارات الإسلامية "السُنية" على المشهد السياسي السوري، وهُما بالضبط النُقطتان التي تشترك فيهما إسرائيل مع الاستراتيجية الروسية تماماً.

وثمة ثلاثة عوامل حديثة طرأت في الشهور الأخيرة على تلك الاستراتيجية الإسرائيلية التقليدية، حيث تؤثر عليها وتمنحها ديناميكيات جديدة من الفعل العسكري والسياسي الإسرائيلي في الساحة السورية. وتتمثل هذه العوامل في الآتي:

1- تولي ليبرلمان منصب وزير الدفاع الإسرائيلي:

أولى العوامل تتعلق بالاستراتيجية والمخيلة العسكرية التي يحملها وزير الدفاع الجديد أفيغدور ليبرلمان تجاه ما يعتبره "الأمن القومي الإسرائيلي". فالصيغة التي حل بها ليبرلمان مكان موشيه يعلون لم تكن مُجرد تغييرٍ لشخص وزير الدفاع، بل ضمن تحولات في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، وبعد توافق رئيس الوزراء على المزيد من الفاعلية العسكرية الإسرائيلية تجاه تطورات المنطقة.

ولعل ما أظهره ليبرلمان منذ أيامه الأولى يدفع للاعتقاد بصحة ذلك الشيء بقوة. فالمزيد من الضغوط باتت تُفرض على السُلطة الفلسطينية، والأوساط العارفة بالملفات الداخلية الفلسطينية تذهب للقول بأن ليبرمان يفضل أن تكون السُلطة الفلسطينية بقيادة شخصية تملك رؤية واضحة وحاسمة تجاه حركة حماس، وعموم الوضع في قِطاع غزة. هذه الاستراتيجية هي التي دفعت ليبرلمان للتهديد بأن حرباً جديدة ضد قِطاع غزة ليست مُستبعدة، لكن يجب أن تكون "الحرب الأخيرة" بإسقاط حماس، حسب تصريحه.

ولا تنفصل هذه "الانفعالية" تجاه الداخل الفلسطيني عن عموم ما بات ليبرلمان يُصرح به تجاه منطقة الشرق الأوسط. فخلال زيارته الأولى للولايات المُتحدة، في يونيو 2016، كوزير للدفاع الإسرائيلي، حدد الطرفان ما يُجمع عليه "الحليفان الاستراتيجيان" في هذا الشأن، والمُتمثل في رفض تزود حِزب الله بالصواريخ النوعية، مُعتبرين أن انخراط حزب الله في الحرب في سوريا يزعزع الأمن في لبنان. وكذلك ربط حركة حماس بتنظيم "داعش"، كما أكد الجانبان على ضرورة "دحر التهديدات التي تمثلها إيران".

ووضح التغير في استراتيجية ليبرمان من خلال الخطوات التي اتخذتها القوة العسكرية الإسرائيلية في سوريا خلال الفترة الماضية. فالطيران الاسرائيلي قام باستهداف منظومة صواريخ مُضادة للطيران "سام 6" في ريف درعا الجنوبي، وهي كانت منظومة صاروخية تابعة لميليشيات "جيش خالد بن الوليد"، التي تملك علاقات متينة مع "داعش"، وكانت قد استولت عليها "حركة المُثنى" قبل عامين في مدينة الشيخ مسكين بدرعا من الجيش السوري النِظامي. الأمر الآخر تمثل في قصف مقرات وثكنات ومخازن لحزب الله جنوب مدينة حُمص.

كان ذلك تجاوزاً لعمليات القصف التقليدية التي كان يقوم بها الجيش الاسرائيلي في الأراضي السورية مُنذ اندلاع الثورة السورية، والتي كانت تتمثل في مخازن الأسلحة التي كان يُتوقع أن تُصدر لحزب الله، أو بعض الأسلحة الاستراتيجية التي كانت إسرائيل تخشى أن تقع في يد التنظيمات المُسلحة غير المُنضبطة. وقد كانت عمليات القصف تلك تُختصر على حدود الضواحي الشمالية لمدينة دمشق وريفها، ولم تكن تطال مناطق داخلية ومُنخرطة في الصراع السوري بشكل حيوي، مثل مدينة حُمص، أو نقاط تابعة لجماعات عسكرية مُعارضة.

هذا السلوك الجديد ربما يعني أن إسرائيل قد تغدو لاعباً رئيسياً في الصراع السوري في حيزه العسكري، حيث ستسعى لإثبات شيء واحد لجميع الجهات العسكرية، وهو أهمية الدور الاسرائيلي وفاعليته في تحديد الجهة التي يُمكن أن تحقق "انتصاراً" نسبياً في الساحة السورية. وإن كانت ستستهدف مزيجاً من الأهداف التابعة للتنظيمات التابعة لإيران والتي يُمكن تكرر تجربة حزب الله اللبناني في سوريا، والجماعات الإسلامية الراديكالية "السُنية" التي يُمكن أن تشغل منطقة قريبة من الحدود الإسرائيلية.

2- الدور العسكري الروسي في سوريا:

يتمثل هذا العامل في وضوح الدور الروسي العسكري في سوريا، ومزاحمته لنظيره الإيراني، وقدرته ورغبته في اجتراح حل سياسي في سوريا مُستقبلاً. ويشكل وضوح هذا الدور المرجعية لما سوف تكون عليه استراتيجية النِظام السوري، وكذلك الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا راهناً ومُستقبلاً.

بالنسبة لتل أبيب، فإن ذلك الدور الروسي الساعي إلى خلق توافق بين النفوذ الإيراني والاستراتيجية الأمريكية، هو المُقلق. فإسرائيل تُدرك بشكل تام أن جُملة التنازلات العسكرية والسياسية التي تقدمها الولايات المُتحدة لروسيا في الملف السوري، مع احتفاظ إيران بكامل السيطرة الفعلية على الميليشيات المُحاربة، ومعها القرار الاستراتيجي الخاص بمصير بشار الأسد، كل ذلك بالنسبة لإسرائيل يعني أن أكثر من نصف الملف السوري بات إيرانياً، وأن موجة التمدد الروسية، وحتى القبول الأمريكي بها، لم تستطع أن تتجاوز النفوذ والأدوات الإيرانية، والدليل على ذلك مفاوضات جينيف التي أتت بخارج الإرادة الإيرانية، لم تؤد إلى أي شيء.

صحيح أن الإسرائيليين يستشعرون بثقة دفينة في المؤسسة العسكرية والأمنية السورية، ويرونها الجهة الوحيدة التي تستطيع أن تتحمل ثقل الالتزام السوري السياسي والعسكري الاستراتيجي تجاه إسرائيل، وصحيح أنهم يرون في الجماعات والتنظيمات الإسلامية "السُنية" خطراً تكتيكياً على أمن حدودها، لكن إسرائيل تُدرك أن تحول سوريا إلى "محمية إيرانية" يمسها استراتيجياً، ويخلق "استعصاءً" عسكرياً مُستقبلياً لها.

ضمن هذا السياق، فإن الاستراتيجية الإسرائيلية تميل إلى أن تدعم الجهد والدور الروسي في سوريا، خصوصاً في هذه الشهور القليلة التي تفصل بين نهاية ولاية الإدارة الأمريكية الراهنة، واستراتيجية الإدارة الجديدة، والتي عبرها يُمكن للإسرائيليين أن يحددوا استراتيجيتهم الجديدة في سوريا.

3- التحولات في الاستراتيجية التركية بسوريا:

آخر العوامل التي يُمكن أن تؤثر بعمق على التفاعل الاسرائيلي مع المسألة السورية، تتعلق بالتحولات التي قد تطرأ على الاستراتيجية التُركية في سوريا. فالمُناهضة التُركية لنِظام الأسد ولمحاولته قمع الثورة السورية، ترافقت مع تدهور العلاقات الاستراتيجية المتوازنة بين تُركيا وإسرائيل. وإعادة الصياغة التي تتوخاها الحكومية التُركية الجديدة في الملف السوري، تظهر وكأنها تترافق مع إعادة الصياغة المتوقعة للعلاقات التُركية - الإسرائيلية.

وكانت إسرائيل دائماً ترى في تُركيا الدولة الإقليمية "المُسلمة" الوحيدة التي تمتاز بموضوعية واتزان في علاقتها معها، ولا تملك أية نزعة أيديولوجية تجاهها. لكن ذلك الشيء تغير تماماً في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد أحداث الربيع العربي، حينما رغبت قيادة حزب العدالة والتنمية في التحول إلى زعامة سياسية للتيارات السياسية الدينية الإخوانية في المنطقة، مُستغلة صعودها في العديد من الدول بُعيد الثورات العربية. كانت تلك الرغبة التُركية تُباين الاستراتيجية الإسرائيلية، التي لم تكن سعيدة في أي وقت بحصول حالة جديدة في المنطقة شبيهة بالتجربة الناصرية العابرة للحدود.

وترى إسرائيل في التراجع التُركي الراهن نهاية لمساعي أنقرة إلى خلق جماعة سياسية أصولية عابرة لدول المنطقة، وتملك موقفاً خِطابياً وأيديولوجياً مُناهضاً لإسرائيل. وتعتبر تل أبيب أن السلوك التُركي في المسألة السورية سيشكل معياراً لذلك التحول التُركي.

وستدفع إسرائيل لأن تعمل تُركيا في ثلاثة اتجاهات فيما يتعلق بالمسألة السورية، لإعادة صياغة علاقة سياسية إيجابية معها، تتمثل الأولى في ضبط الجماعات الإسلامية المُتطرفة التي تتدفق من تركيا إلى سوريا، والمسألة الأخرى تتعلق بفرض بعض الالتزامات السياسية الواضحة على الجماعات السياسية السورية القريبة من تُركيا، وبالذات حركة الإخوان المُسلمين السورية والتيارات الشبيهة لها. وأخيراً، ألا تشكل تُركيا أداة لتصعيد المسألة السورية، وبالذات ألا تنجر إلى مواجهة عسكرية مع روسيا أو إيران في سوريا.