التوجه شرقاً:

كيف تُعزز زيارة البابا العلاقة بين الفاتيكان وآسيا؟

25 September 2024


أجرى بابا الفاتيكان البابا فرانسيس جولة في دول جنوب شرق آسيا، خلال سبتمبر 2024، وكانت الجولة الخارجية الأطول له؛ إذ امتدت إلى 12 يوماً، وتضمنت زيارة أربع دول في المنطقة، هي: إندونيسيا وتيمور الشرقية وبابوا غينيا الجديدة وسنغافورة. 

اهتمام بآسيا: 

تأتي تلك الجولة الآسيوية التي أجراها بابا الفاتيكان في خضم عدد من المتغيرات، يمكن إيجازها على النحو التالي: 

1. اهتمام خاص بآسيا: ثمّة هدف للبابا فرانسيس يتعلق بتعزيز العلاقات الدولية للفاتيكان بالمجتمع الدولي، وخاصة دول الجنوب العالمي ودول العالم الإسلامي والسني على وجه الخصوص، وقد كانت تلك الجولة من المقرر إجراؤها في 2020 لكنها تأجلت بفعل جائحة كورونا، وتعكس توجهات البابا الحالي تجاه آسيا تميزاً عمّن سبقوه، إذ إن سلفه البابا بندكت السادس عشر ذو الأصول الأوروبية، لم يقم بأي رحلات إلى آسيا على الإطلاق.

جدير بالذكر أن للدول الآسيوية أهميتها في اختيار من يخلف فرانسيس في منصب بابا روما، من خلال أمراء الكنسية (الكرادلة)؛ فهذه المرة الأولى التي يُعيّن فيها كرادلة من بابوا غينيا الجديدة وتيمور الشرقية وسنغافورة؛ ومن ثمّ يحق لنحو 21 من أمراء الكنائس الآسيوية التصويت في المجمع الذي يختار البابا من أصل 124 صوتاً.

وتُعد منطقة آسيا والمحيط الهادئ واحدة من الأقاليم المُهمّة التي تشهد نمواً للكنيسة الكاثوليكية من حيث عدد المُنتمين لها والمُمتهنين بها. ومنذ انتخابه في عام 2013؛ حثّ البابا فرانسيس على زيادة الارتباطات مع آسيا، وبعيد شغله منصبه أجرى أربع رحلات طويلة المدى إلى المنطقة، وزار كوريا الجنوبية، وسريلانكا، والفلبين، واليابان، ثم بنغلاديش ومنغوليا وميانمار وتايلاند. 

2. توتر العلاقات بين الفاتيكان والصين: بالرغم من زخم العلاقات الدبلوماسية بين الدول الآسيوية والفاتيكان؛ فإن علاقته مع الصين تتسم بالتعقيد، في ظل سياسات الحزب الشيوعي الرافضة لدور كنيسة الفاتيكان تجاه الكنيسة الكاثوليكية الصينية التي تخضع – شأنها شأن باقي المؤسسات الدينية - لسلطة الحزب بينما تُصرّ الكنيسة في الفاتيكان على الاحتفاظ بحقها الأصيل في تسمية رسل الكنيسة داخل الصين، فضلاً عن أن دولة الفاتيكان لا تعترف بالصين وتحتفظ بعلاقاتها الدبلوماسية مع تايوان فقط.

وتجدر الإشارة إلى أن الزيارة تتزامن مع اقتراب أجل تجديد سريان الاتفاق السري - للمرة الثالثة - المبرم عام 2018 بين الفاتيكان والكنيسة الصينية بشأن حق البابا في تعيين الأساقفة في الصين، وضمهم في حركة سرية موالية للفاتيكان.

3. تبني دبلوماسية اللقاءات: بالمخالفة لنهج سلفه الذي تسبب في توتر العلاقات بين الفاتيكان والعالم الإسلامي؛ حرص البابا فرانسيس على تبني نهج الحوار ودبلوماسية اللقاءات مع الآخر، وأسفر ذلك عن توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية في العاصمة الإماراتية أبوظبي في 2019 مع شيخ الأزهر، الإمام أحمد الطيب، والذي سبق وقطع علاقته مع البابا السابق للفاتيكان، ولعل هذا هو النهج الذي يسعى لاستكماله من خلال توجهه إلى إندونيسيا. 

توطيد الانسجام:

تضمنت تلك الجولة الآسيوية - التي تُعد الأطول في تاريخ الباباوية - العديد من الفعاليات المدفوعة ببعض الدوافع والمسببات وخلصت إلى بعض المخرجات، وهو ما يمكن تبيانه على النحو التالي: 

1. تفعيل الحوار بين الأديان: لعل من أهم أهداف البابا فرانسيس على صعيد السياسة الخارجية هو تعميق حوار الأديان خاصة مع المسلمين السنة؛ مما دفعه لاختيار إندونيسيا كإحدى محطات رحلته الآسيوية والتي تضم أكبر تجمع لمسلمين في دولة واحدة حول العالم، خاصة وأن سلفه - البابا بندكت - قد تسبب في توتر العلاقات مع العالم الإسلامي السني بعد خطاب ألقاه عام 2006، اتهم فيه الإسلام بأنه دين العنف والإرهاب. 

ويُعد البابا فرانسيس هو الأب الثالث للفاتيكان الذي يزور إندونيسيا تاريخياً. وأجرى البابا زيارة تاريخية لمسجد الاستقلال في العاصمة جاكرتا وتحدث عن الجذور المُشتركة للمُعتقدات الدينية المُختلفة، وقد تم – حينها - التوقيع على إعلان بشأن الانسجام الديني بالشراكة مع الإمام الأكبر في إندونيسيا.

2. بحث مواجهة التغيرات المناخية: وهي من أهم الرسائل التي يحرص البابا على تأكيدها كإحدى أولويات سياسته الخارجية، خاصة مع تأكيده الارتباط بين تلك الظاهرة ومشكلات الدول النامية من الفقر واستغلال الموارد من قبل الدول الأغنى؛ وما ينتج عنه من انعدام للعدالة البيئية، وقد تناول تلك القضية خلال زيارته بابوا غينيا الجديدة. كما أنه تناول القضية ذاتها خلال وجوده بإندونيسيا فأصدر البابا إعلاناً مُشتركاً مع الإمام الأكبر وغيره من الزعماء الدينيين المحليين، دعوا فيه إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لمعالجة ظاهرة الاحتباس الحراري. بينما أشاد البابا فرانسيس بجهود سنغافورة لمواجهة تغير المناخ، ووصفها بأنها نموذج للدول الأخرى.

3. التصالح بشأن جرائم الاعتداء الجنسي بالكنيسة: وهي القضية التي تأججت في تيمور الشرقية بفعل ممارسات بعض القساوسة الكاثوليك، وعلّق عليها البابا مبدياً تعاطفه مع الضحايا من الأطفال والمراهقين، إلّا أنه لم يتقدم باعتذار رسمي عن ذلك الأمر، وهو ما خيّب آمال الكثيرين. إلّا أنه خلال وجوده هناك تناول إشكالية السلام والمصالحة في ذلك البلد الذي عانى من الفظائع جراء الاحتلال الإندونيسي له، فقدم عظة حول دبلوماسية المصالحة السلمية.

4. مُشاركة القساوسة الصينيين: خلال القدّاس المُنعقد في سنغافورة؛ شارك قساوسة قادمون من هونغ كونغ وتضمن القدّاس صلاة باللغة الصينية، دون حضور صيني آخر على الصعيد الرسمي. وجدير بالذكر أن أبرشية هونغ كونغ مُستقلة عن هيكل الكنيسة في البر الرئيسي للصين. ويتم تعيين الكاردينال في هونغ كونغ مباشرة من قبل الفاتيكان.

وبُعيد الزيارة وعلى متن الطائرة خلال رحلة العودة؛ أشار البابا فرانسيس إلى بعض الرسائل الإيجابية حول الصين التي اعتبرها أنها "وعد وأمل" للكنيسة الكاثوليكية، وأعرب مرة أخرى عن أمله في زيارتها يوماً ما. وأشار إلى وجود حوار إيجابي مع القساوسة الصينيين للتفاوض حول تجديد الاتفاق السابق الإشارة إليه، مُعرباً عن أمله في انخراط الجانبين في مفاوضات ذات نتائج جيدة وحسنة النية.

وقد أشار المتحدث باسم الفاتيكان ماتيو بروني إلى أنه من غير المُتوقع أن يحلق البابا فوق المجال الجوي الصيني أو التايواني في طريقه من وإلى سنغافورة. جدير بالذكر أنه خلال قداس البابا الأخير في منغوليا في سبتمبر العام 2023، حضر مجموعة من الكاثوليك الصينيين دون الإفصاح علناً عن ذلك الأمر.

5. التعليق على الانتخابات الأمريكية: انتقد البابا كلا المرشحين للرئاسة الأمريكية؛ الديمقراطية كامالا هاريس والجمهوري دونالد ترامب، دون تسميتهما؛ بسبب تبنيهما لسياسات مُناهضة للحياة، في إشارة لقضايا الإجهاض الذي يؤيده الديمقراطيون، والسياسات المُناهضة الهجرة التي يتبناها الجمهوريون، واصفاً المتنافسين وعملية التصويت لكل منهما بأنها بمثابة المُفاضلة بين شريْن. جدير بالذكر أن البابا سبق وعلّق على السباق الانتخابي الأمريكي لعام 2016 تعقيباً على مساعي ترامب لبناء جدار لصدّ المهاجرين من المكسيك، قائلاً إن من يبني مثل ذلك الجدار ليس مسيحياً! 

6. العدالة ومُكافحة الفقر: أثناء وجوده في سنغافورة؛ حثّ البابا على توفير أجور عادلة للعمّال المهاجرين في الدولة التي تستضيف أكثر من مليون عامل أجنبي من ذوي الأجور المُنخفضة، خاصة وأنهم يُعدون قوام قوة العمل باقتصادها الذي يعاني من تنامي الشيخوخة، داعياً إلى إيلاء اهتمام خاص بالفقراء وكبار السن وحماية كرامة العمّال المهاجرين. وعلّقت وزارة القوى العاملة في سنغافورة على ذلك بقولها إن الأجور تحددها السوق وليس الحكومة فهي لم تحدد الحد الأدنى للأجور للعمال، وأكدت وجود قوانين العمل لضمان عدالة التعامل مع العمالة المهاجرة وحماية حقوقها في العمل ورفاهيتها.

7. الحرب في فلسطين: في الإفادة الصحفية بعد انتهاء الزيارة لآسيا؛ تطرق البابا للصراع في غزة والضفة الغربية، مؤكداً متابعته وتواصله اليومي من خلال الكرسي الرسولي مع المدرسة التابعة له في غزة، والتي تؤوي نحو 600 شخص من المسلمين والمسيحيين، وأشار إلى احتمالية أن يتدخل الكرسي الرسولي في جهود الوساطة للتوصل لوقف لإطلاق النار، مؤكداً امتنانه لجهود العاهل الأردني الملك عبدالله في هذا الإطار واصفاً إياه برجل السلام.

تعزيز المكانة: 

تحمل تلك الجولة وتفاصيل مخرجاتها العديد من الدلالات، فضلاً عما أثارته من تداعيات وردود فعل، وهو ما يمكن إيجازه على النحو التالي: 

1. تطلعات البابا لتعزيز مكانته بالجنوب العالمي: استناداً لأصوله الجنوبية (الأرجنتينية)؛ باتت أولويات السياسة الخارجية للبابا تولي اهتماماً بالغاً بالجنوب العالمي والمجتمعات المُهمّشة والنائية، بل إن علاقته بأوروبا قد شابها العديد من القلاقل، وهو ما جعل أغلب جولاته الخارجية - وآخرها الجولة سالفة التناول - تنصب على دول الهامش وليس تلك التي تحتفظ الكنيسة الكاثوليكية معها بعلاقات تقليدية. وقد أجرى البابا تحولاً نموذجياً في انتشار الرهبانيات الدينية الكبرى عبر توجيهها صوب الجنوب العالمي، واختيار رموز منها في المناصب القيادية بالكنيسة والمناصب الباباوية والجامعية، في إطار سعيه لكسر حلقة تأطير الكنيسة الكاثوليكية بالإطار الأوروبي. 

وعندما انتُخِب في عام 2013؛ كان هناك 60 أوروبياً من أصل 117 كاردينالاً ناخباً ينخرطون في اختيار البابا، إلا أنه عمل على مُضاعفة عدد الآسيويين الذين يمكنهم التصويت في المجمع المقبل، وقلّص بمقدار الثلث عدد الإيطاليين وخفض عدد الناخبين من أمريكا الشمالية من 20 إلى 16، بينما رفع عدد الناخبين من أمريكا اللاتينية من 13 إلى 19، وتعكس تلك التحركات مساعي البابا فرانسيس لتحقيق إعادة التوازن داخل الكنيسة؛ لجعلها أكثر ميلاً نحو الجنوب العالمي.

2. تمهيد مُحتمل لزيارة الصين: أدت تلك الزيارة وما تضمنته من تصريحات إيجابية من قبل البابا فرانسيس بشأن الصين، إلى أن اعتبرتها بعض التقديرات بمثابة تمهيد لإمكانية زيارة البابا للصين؛ وهو أمر إذا حدث سيكون بمثابة الجائزة الكبرى للكنيسة الكاثوليكية، لرأب الصدع والتهديد الذي يمثله الحزب الشيوعي لسلطة الكنيسة بشأن تعيين الأساقفة في الصين التي يُتوقع أن تصبح موطناً لأكبر عدد من المسيحيين بحلول عام 2030؛ فالهدف الأسمى للبابا هو توحيد الكاثوليك عالمياً مع الكاثوليك الصينيين تحت مظلة كنيسة الفاتيكان. 

وتُشير التقديرات إلى أن الحزب بالشيوعي يراقب عن كثب تلك التحركات التي تمثل تناقضاً لسياساته الرافضة لدور الدين في المجال العام والرافضة لوجود كيان خارجي يمثل تحدياً لسلطة وصلاحيات الحزب الشيوعي في ضبط العلاقة بين الكنيسة والدولة.

3. مخاوف تايوان: تخشى تايوان أن تدفع ثمن التفاهمات بين الصين والفاتيكان التي تخالف سياسة الصين الواحدة وتعترف باستقلال الجزيرة وهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تعترف بتايوان، وتخشى الأخيرة من تضرر علاقتها بها أو تخليها عن الاعتراف بها في حال انفتاحها على تطبيع العلاقات مع بكين. وبات بعض التايوانيين يطالبون الكرسي الرسولي بالاعتراف المزدوج بكل من الصين وتايوان. 

4. تحسين صورة الكنيسة الكاثوليكية: في ضوء الانتقادات والتُّهم التي وجهت للكنيسة الكاثوليكية، وبالنظر إلى بعض الانتهاكات التي ارتكبها بعض رجال الدين خصوصاً في تيمور الشرقية؛ فإن عدم اعتذار البابا عن تلك الانتهاكات قد أفضى إلى استمرار تلك الانتقادات على نحو ينتقص من المكانة والسيادة العالمية التي يتطلع لها البابا والكنيسة الكاثوليكية. بل إن سياسات الحكومة في تيمور الشرقية بشأن الاستعداد لتلك الزيارة قد أفضت للمزيد من الانتقادات بفعل الإسراف في تخصيص الموارد للاستعداد للزيارة بتكلفة 12 مليون دولار، وكذا بناء مذبح للقدّاس البابوي تكلف نحو مليون دولار، في وقت تعاني فيه البلاد من الفقر الشديد. 

بينما تُشير بعض التقديرات إلى أن لتلك الزيارة بعض الرسائل التي سعى البابا لتقديمها منها إعادة تأكيد وحدة جميع الكاثوليك في جميع أنحاء العالم، وخاصة بين البابا والكاثوليك الآسيويين، للرد على معارضيه خصوصاً داخل أوروبا، مع تشجيع الكاثوليك المحليين على الانخراط بفعالية في حل المزيد من مشكلات تغير المناخ والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.

وفي التقدير، تعكس تلك الزيارة الباباوية لآسيا العديد من الاعتبارات السياسية التي تتجاوز الأطر الدينية نحو أطر ديناميكيات التفاعلات السياسية بالإقليم، فضلاً عن تنامي دور الكنائس الآسيوية في مجمع التصويت لاختيار خليفة البابا على نحو يقلّص الاحتكار الأوروبي الغربي للكنيسة، مقابل تنامي دور الجنوب العالمي داخلها. وتظل الآفاق المستقبلية للعلاقات بين الفاتيكان والصين هي أحد أهم محددات دور الكنيسة الكاثوليكية إقليمياً ودولياً، ولن تتوقف آثارها على الجانب الديني وحده، بل قد يكون لها تأثير في آفاق الصراع بين الصين وتايوان.