معادلة "كورسك":

هل يُغير توغل أوكرانيا في الأراضي الروسية مسارات الحرب؟

04 September 2024


تشكل عملية التوغل الأوكراني في منطقة كورسك الروسية منذ 6 أغسطس 2024، نقطة تحول في مسار الحرب الجارية. فبعد نحو عامين ونصف العام من فشل أوكرانيا في شن هجوم مضاد في مسرح القتال الرئيسي في إقليم دونباس، نقلت الحرب إلى العمق الروسي. وتراهن كييف على أن يعزز هذا التطور موقفها التفاوضي مع موسكو مستقبلاً؛ ولاسيما إذا عاد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وقرر تغيير السياسة الأمريكية في هذا الملف باتجاه التسوية ووقف الحرب. 

وبحسب المنظور الأوكراني، يتعين تطوير الهجوم في العمق الروسي، مع القدرة على الحفاظ على الأراضي التي سيطرت عليها كييف والتمدد منها إلى مساحات أخرى، حتى يمكنها المقايضة على مساحة معادلة من روسيا مقابل دونباس. بيد أن هذه الرؤية تواجه العديد من التحديات، لعل أبرزها مدى سماح القوى الغربية لأوكرانيا باستخدام أسلحتها في العمق الروسي، وضمان تدفقاتها إليها، بالإضافة إلى التحديات الميدانية في إطار رد الفعل الروسي على ذلك. 

وبشكل عام، فإن قراءة سياق هذا التطور، وتداعياته، واحتمالاته المستقبلية، تنطوي على عدة مؤشرات واعتبارات، وهو ما يمكن تناوله في سياق هذا التحليل. 

معادلة جديدة:

تقليدياً، تشمل ديناميكية أي حرب عاملي الدفاع والهجوم، وأخفقت أوكرانيا منذ بداية الحرب الحالية في تطوير هجوم مؤثر في مواجهة روسيا بما يمكن أن يشكل عامل ضغط لدفع موسكو للانسحاب أو الجلوس إلى طاولة التفاوض. وعلى الرغم من تكرار محاولاتها؛ لم تنجح كييف في تطوير مثل هذا الهجوم، واستمرت في نطاق العمل الدفاعي، وبررت ذلك بالقيود الغربية على إمدادات واستخدامات الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. 

وقد قدّم حلف شمال الأطلسي "الناتو" لأوكرانيا برامج تدريب وتسليح كفيلة بتحويلها إلى قوة عسكرية غربية، وذلك بعد استهلاك ترسانة الأسلحة الشرقية (السوفيتية) خلال العامين الأولين للحرب. كما شملت عملية إعادة الهيكلة العسكرية بناء قدرات التصنيع العسكري المحلي، في ظل تزايد الطلب الغربي على احتياجات الدفاع الأساسية ومحدودية المخزون الاستراتيجي، بالإضافة إلى تفادي المسؤولية القانونية ورد الفعل الروسي حال التورط في استخدام الأسلحة الغربية. 

وعلى الرغم من أن تقارير الصحافة الغربية تتبنى وجهة نظر مفادها أن أوكرانيا لم يكن بمقدورها أن تحقق المفاجأة من دون ضوء أخضر غربي، خاصةً مع اعتمادها على أسلحة مثل: "ستورم شادو" (Storm Shadow)، و"أتاكمز" (ATACMS)، ومقاتلات "إف-16" (F-16)، بشكل رئيسي؛ فإن المواقف الرسمية الغربية تنفي ذلك، حتى لا تثير غضب روسيا.  

لكن في الوقت ذاته، لم تشر القوى الغربية إلى تمسكها بـ"الخط الأحمر" الذي يمنع أوكرانيا من استخدام هذه الأسلحة، باستثناء ألمانيا التي كانت أكثر حزماً في هذا الأمر، وطالبت كييف بعدم السماح باستخدام صواريخ "توروس" (Taurus)، وهو سياق مفهوم بطبيعة الحال؛ كون الصاروخ الألماني الأطول مدى (يصل إلى 500 كيلومتر) في ترسانة الصواريخ الغربية التي حصلت عليها أوكرانيا؛ يمثل تهديداً أكبر على روسيا، ولا تضمن برلين رد فعل الأخيرة في هذه الحالة. 

رهانات كييف:

يتمحور المبرر الأوكراني في شن هجوم على العمق الروسي بالقيام بعملية استباقية تقطع الطريق على خطة موسكو في التحرك للسيطرة على كل من سومي وخاركوف شرقاً. كما أن التحرك في هذه الجغرافيا من اتجاه الشمال الشرقي قد يسمح بالتحام قوات من بيلاروسيا لإسناد القوات الروسية؛ ما قد يشكل تهديداً للعاصمة كييف؛ ومن ثم فإن أوكرانيا تؤكد أنها بصدد عملية دفاعية في المقام الأول. 

وتكتيكياً، تراهن أوكرانيا على فكرة مقايضة الأراضي محل السيطرة، فقد احتلت مساحة كبيرة في العمق الروسي، بالإضافة إلى زيادة المدى النيراني انطلاقاً من كورسك باتجاه العمق الروسي؛ بما يشكل تهديداً لمناطق حيوية في روسيا. مع ذلك قد لا تكون نظرية المقايضة في صالح أوكرانيا؛ لأنها في الأخير وصلت إلى السيطرة على نحو 1300 كيلومتر من الأراضي الروسية، في حين أن القوات الروسية تضع قدمها على أكثر بـ65 مرة من مثل هذه المساحة في دونباس على أقل التقديرات من دون إضافة مساحة القرم. 

لكن من الناحية العملية والميدانية، قد تكون هناك اعتبارات أخرى، منها نظرة روسيا لهذا التطور المفاجئ وانعكاساته الداخلية، بالإضافة إلى التهديد الذي شكلته أوكرانيا فعلياً على البنية التحتية واللوجستية الروسية، والتهديد الأوسع الذي يمكن أن تشكله في حال واصلت هذا المسار. وتجدر الإشارة هنا إلى أن "معهد دراسات الحرب الأمريكي" استعرض خريطة تضم ما يصل إلى 250 موقعاً عسكرياً في مجال مديات الصواريخ الأوكرانية وحددها بما يناسب كل نوع من هذه القدرات، وفي حدود القدرات الأوكرانية التي تصل إلى 300 كيلومتر، إذا لم تستخدم الصواريخ متوسطة وطويلة المدى. 

وأعلنت كييف أنها أرسلت وفداً إلى واشنطن في أواخر أغسطس الماضي للنقاش حول هذه التطورات والمتطلبات الدفاعية، والأهم من ذلك المتطلبات الاستراتيجية الخاصة بالموافقة على استخدام الأسلحة الغربية عموماً وليس فقط الأمريكية؛ بحكم أن معظم الأسلحة الغربية بها مكون أمريكي. وفي هذا السياق، يُعتقد أن الموقف الأمريكي هو الحاسم ليس فقط في المعارك، ولكن أيضاً بالنسبة لروسيا. 

ومن ثم فإن أي رهان أوكراني سيتوقف في الأخير على الحسابات الأمريكية؛ وهي مسألة معقدة، وثمة تناقض ما بين صفقات التسلح، ومبررات وحق الاستخدام. فعلى سبيل المثال، هناك تقديرات دفاعية تشير إلى احتمال إطلاق صاروخ "أتاكمز" الأمريكي من منصة "هيمارس"، وفي حال صحة ذلك؛ فالمسألة لا تتوقف على عامل الاستخدام من دون موافقة، وإنما على عملية النقل الميداني من العمق الأوكراني إلى الأطراف في المنطقة الشرقية؛ وهو ما يؤكد ضرورة الموافقة المسبقة. ولكن هل يمكن أن تمضي واشنطن مع كييف في هذا المسار إلى ما هو أكثر من ذلك؟

ويفتح هذا السياق الباب لتساؤلات عديدة من الصعب الإجابة عنها بشكل قاطع، وفي المقدمة منها، على سبيل المثال، هل كانت واشنطن ترغب في تحريك الوضع بشكل مختلف لوقف التقدم الروسي في أوكرانيا، خاصةً أن معدلات تسارع السيطرة الروسية في النصف الأول من العام الحالي هي الأعلى والأسرع منذ بدء الحرب وفق رصد وتحليل خرائط السيطرة؟ 

وثمة انطباع ينعكس بشكل واضح في وسائل الإعلام الغربية يشير إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن ربما تميل إلى استغلال الوقت المتاح لديها، لحين وصول إدارة جديدة تكمل المسار الحالي أو أخرى تنقلب عليه وتبدأ مساراً مختلفاً. 

رد موسكو:

من المُرجح أن روسيا استوعبت مفاجأة كورسك، وفي غضون أسبوعين من التوغل الأوكراني بدأت في التحركات التكتيكية المضادة ميدانياً وسياسياً بشكل متزامن ومتشابك، على نحو ما يمكن الإشارة إليه في النقاط التالية:  

1- اتجهت موسكو إلى تركيز ثقل الجهد العسكري في دونيتسك، والسيطرة على منطقة بوكروفسك ذات الأهمية الاستراتيجية وفقاً لحسابات موسكو باعتبارها بوابة الإقليم، إضافة إلى أهميتها اللوجستية كخط إمداد رئيسي للجانب الأوكراني في تلك الجبهة. وفي مقابل ذلك، قامت القوات الأوكرانية بانسحاب متدرج من بوكروفسك. وتشير التقديرات الأوكرانية التي تستند إلى الموقف الميداني، إلى تراجع القيمة الاستراتيجية لبوكروفسك؛ كونها تشكل تحصيل حاصل للسيطرة الروسية. لكن هذا التقدير قد لا يعكس الواقع؛ إذ قد يكون المغزى الأكثر واقعية هو أن أوكرانيا بالفعل حشدت جهدها العسكري الرئيسي لدعم مسار التوغل في الأراضي الروسية، كما أنها ربما تدرك أن روسيا تناور بعملية بوكروفسك لدفعها للانسحاب أو تشتيت الجهد العسكري؛ لذا لا تفضل الاستجابة للاستدراج الروسي. 

2- لم تستخف روسيا بالمفاجأة الأوكرانية؛ بل على العكس كانت تحركاتها منظمة لاستيعاب المفاجأة، من عمليات الإجلاء السريعة للمدنيين، وإخلاء العديد من القواعد التي قد تصبح هدفاً مكشوفاً، ومع ذلك تكبدت الكثير من الخسائر، ثم بدأت في رد الفعل الهجومي لوقف التقدم الأوكراني لكن بشكل متباطئ. وترجع حسابات هذا التباطؤ الروسي إلى عامل استيعاب المفاجأة، لكن ثمة تقديرات عسكرية ترى أن التكتيك الروسي ممنهج؛ بهدف إفشال المبرر الدفاعي لأوكرانيا، وتبرير حجة الانتقام الروسي بالرد في العمق الأوكراني؛ ولاسيما المنطقة الغربية، التي استهدفتها موسكو على نطاق بنك أهداف واسع ولإخراج البنية التحتية واللوجستية عن الخدمة مثل: محطات الطاقة والوقود والمياه، على نحو ما فعلت كييف في النطاق الروسي. 

3- لجأت موسكو إلى ورقة التهديد النووي، فمن جهة سلطت الضوء على تداعيات التوغل الأوكراني على محطة كورسك النووية بما يشكل تهديداً، خاصةً مع سقوط طائرة من دون طيار في الموقع وتحميل كييف المسؤولية عن ذلك. ومن جانب آخر، أعاد مسؤولون ومحللون روس تسليط الضوء على مراجعة العقيدة النووية، وإذا كانت المراجعات السابقة تُمكن روسيا من اللجوء للخيار النووي حال تعرض البلاد لخطر وجودي، فما هو الحال في ظل انتقال المعركة إلى الأراضي الروسية نفسها؟ ومن غير المُرجح أن تغامر موسكو باللجوء للسلاح النووي، وسيبقى مجرد بند في قائمة الردع تحسباً لتطورات أكثر صعوبة في مواجهة حلف "الناتو" والقوى الغربية. 

مسارات قادمة: 

على الأرجح، يتمثل التكتيك الرئيسي للقوى الغربية في تحريك أوكرانيا للجبهة الروسية بشكل يؤثر في موسكو، ويدفعها إما إلى وقف الزحف المتسارع في دونباس، أو الجلوس إلى طاولة التفاوض. ومع ذلك ترفض روسيا هذه الطريقة (سلام زيلينسكي)، في إشارة إلى موقف الرئيس الأوكراني وأهدافه من هذا التحرك؛ ومن ثم فإن السيناريو الأقرب للواقع هو أن عملية التوغل الأوكرانية قد تكون مؤقتة، وقد تضطر كييف للاستدارة مرة أخرى لحماية خطوطها الخلفية، بدلاً من الاندفاع إلى المزيد من التقدم المساحي دون ضمانات أو تغطية كافية من الحلفاء؛ وهو ما سيتضح في ضوء الزيارة التي قام بها وفد عسكري أوكراني إلى واشنطن في أواخر شهر أغسطس المنقضي. 

من جانبها، تدرك القوى الغربية تكلفة الاستمرار الأوكراني في عملية التوغل داخل روسيا، وإن كان لا يوجد موقف غربي موحد للهجوم داخل الأراضي الروسية، فقد سبق وأشارت فرنسا إلى الموافقة، وبدرجة أقل بريطانيا، في حين حاولت ألمانيا كبح هذا الاتجاه. وإجمالاً تتخوف القوى الغربية من أن تتحول عملية التوغل الأوكرانية إلى مغامرة غير محسوبة.  

فلا شك أن تركيز الجهد العسكري الأوكراني على التوغل في العمق الروسي، قد يحقق أهدافاً تكتيكية عديدة، لكن تحديات الصمود، والقيود على تدفقات الأسلحة، ورد الفعل الروسي، كل ذلك قد يأتي بنتائج عكسية. كما أنه لا يمكن لأوكرانيا المُضي منفردة في هذا السيناريو، ولا يمكنها أيضاً الاستعاضة عن التسليح الغربي بالتصنيع المحلي، بالرغم من الحديث عن امتلاك قدرات معادلة مثل صاروخ "غروم" (Groom). والعامل الآخر أنه باستثناء صاروخ "أتاكمز" الذي لا تمتلك أوكرانيا مخزوناً كبيراً منه، سيتعين عليها الحصول على المزيد من مقاتلات "إف-16" كمنصات إطلاق للأنظمة الأخرى التي تُطلق جواً، هذا بافتراض أنها حصلت على ضوء أخضر في الأساس.

في المقابل، لا يمكن تجاهل حجم التكلفة الهائلة على روسيا، مع اللجوء إلى استخدام أسلحة عالية القدرة والكفاءة مثل: "كينجال" و"إسكندر"، والتي تستخدمها موسكو بشكل اضطراري ومحدود، بالإضافة إلى عملية التعبئة الواسعة للقوات للتحرك على أكثر من موقع. لكن تنظر روسيا إلى أنها في الأخير تمتلك أوراقاً تتفوق بها على أوكرانيا، أقربها أنها تغير واقع دونباس بشكل عام، على عكس طبيعة التوغل الأوكراني الذي يظل في حدود السيطرة المكانية على مواقع يمكن استعادتها في نهاية المطاف، فضلاً عن ميل معادلة مساحات السيطرة لصالحها؛ ومن ثم لا يتعين عليها تقديم تنازل كبير لكييف أو النزول عند رغبتها في المقايضة.

الخلاصة، أنه على الرغم من محاولة كل طرف إعادة ضبط قواعد الحرب الروسية الأوكرانية لصالحه، لا توجد ضمانات في الحروب، وقد يفتح هامش الخطأ الباب على سيناريوهات أسوأ، طالما أنه لا يمكن التحكم في قواعد اللعبة في مباراة تُستدعى فيها نذر حرب عالمية ثالثة "حرب نووية"، حتى وإن كانت معطيات الواقع تقول إن المشهد لم يتدهور بعد إلى ذلك الحد.