الحرب البرية:

الصراعات المتغيرة ومستقبل القوات البرية

12 October 2015


إعداد: باسم راشد

ثمة جدل يُثار في الداخل الأمريكي حول مدى تراجع أهمية الحروب البرية في العالم، في ظل تزايد الاهتمام بالأنظمة السيبرانية، والطائرات بدون طيار، والقوات الخاصة، وغيرها من الأسلحة التي لا تحتاج إلى قوة بشرية تديرها، وهي الأمور التي ساهمت في تقليل ميزانية الدفاع البرية. ومع ذلك، وبالنظر إلى وجود عدة مناطق ملتهبة في العالم، يُلاحظ أن للحروب البرية مستقبلاً أكبر بكثير مما يتوقعه البعض، وربما أبلغ دليل على ذلك الأمر تصاعد الصراع في سوريا في ظل التدخل العسكري الروسي الأخير.

وفي هذا الصدد، صدر للكاتب "مايكل أوهانلون" Michael E. O'Hanlon كتاب يحمل عنوان: "مستقبل الحرب البرية"، يناقش من خلاله تلك الإشكالية؛ حيث يستعرض مستقبل القوات البرية، وأبرز مناطق الصراعات التي تستلزم استجابة من الجيش الأمريكي، وتحديداً من القوات البرية؟.. كل تلك التساؤلات وغيرها طرحها "أوهانلون" في محاولة من جانبه لتحذير الإدارة الأمريكية من الثقة المُبالغ فيها في التصورات الخاصة بمستقبل الحروب البرية.

لماذا مازال هناك مستقبل للحروب البرية؟

يؤكد "أوهانلون" أنه على الرغم من تطور الأسلحة والأنظمة الدفاعية غير المعتمدة على القوة البشرية، فإن الجيش الأمريكي مايزال في حاجة شديدة للقوات البرية خاصةً في الفترات القادمة. ورغم تأكيد الكاتب على أن الولايات المتحدة قد تكون بعيدة عن مناطق الصراعات، بيد أنها تعمل مع أكثر من 60 حليفاً وشريكاً على مستوى العالم، بما يجعلها ملتزمة بالحفاظ على أمنهم، ويدفعها القلق حيال ما قد يقع من صراعات داخلها أو فيما وراء حدودها.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة، طرح "أوهانلون" في كتابه عدداً من الأطروحات والحجج التي تؤكد وجهة نظره فيما يتعلق بمستقبل الحروب البرية، مُتخذاً من المقولة البلشفية القديمة دليلاً له، حينما قالوا "ربما قد لا تكون لنا مصلحة في الحروب البرية الفوضوية في المستقبل، لكنهم قد يكون لهم مصلحة معنا"، وهو ما يؤكد أهمية وضرورة الاستعداد لمثل تلك الحروب، والتوقف عن تخفيض حجم الجيش الأمريكي، وعدم الاقتطاع من موازنته الدفاعية مستقبلاً تحسباً لمثل تلك الظروف.

ولعل أبرز ما طرحه الكاتب في هذا الشأن يتمثل في الآتي:ـ

التأكيد على أن حجم الجيش الأمريكي الحالي صغير طبقاً للعديد من المقاييس؛ حيث يصل مجموعه إلى نحو مليون جندي، ينخرط حوالي 450 ألف منهم في الخدمة الفعلية، أما الباقي فيعملون إما في الحرس الوطني أو الجيش الاحتياطي. ويعني هذا أن حجم الجيش الفعلي يمثل حوالي 60% من حجمه أيام الحرب الباردة.

ومع الأخذ في الاعتبار أن عدد السكان في الولايات المتحدة في الوقت الحالي أكبر بكثير مما كان عليه في الثمانينيات، كما أن سكان الولايات المتحدة يمثلون نسبة 5% من الإجمالي العالمي، في حين تمثل عدد قواتها الفعلية فقط 3% من القوات العالمية، ومن ثم فإن أي اقتطاع أو انتقاص من أعداد الجنود الأمريكيين في المستقبل قد يثير المزيد من القلق، خاصةً في ظل ما يعج به العالم من تطورات غير معروف اتجاهاتها العنيفة ولا مساراتها المحتملة.

الإشارة إلى خطأ ما طرحته إدارة "أوباما" في عام 2012 حول استراتيجيتها الدفاعية، والتي أكدت فيها أن العمليات العسكرية ذات النطاق الواسع، والتي تتضمن مكافحة التمرد، وحفظ السلام، وعمليات الإغاثة في حالات الكوارث بهدف تحقيق الاستقرار، هي التي تحدد حجم الجيش، بما يستلزم تقليله مستقبلاً.

ورأى الكاتب أنه لا توجد طريقة واحدة للتأكد من أن تلك العمليات العسكرية لن تخرج عن السيطرة بما يتطلب رداً حاسماً وسريعاً من الجيش الأمريكي. وقد تتبع "أوهانلون" في هذا الكتاب العديد من الأمثلة التي تؤكد طرحه بدايةً من جنوب آسيا، مروراً بالشرق الأوسط ووسط أفريقيا، وانتهاءً بوسط أمريكا.

التأكيد على أن استراتيجية الحربين "Two-War Strategy" التي تتبعها الإدارة الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة، والتي تفترض وجود حربين كبيرتين تنخرط فيهما الولايات المتحدة مستقبلاً بما يحدد حجم الجيش وعتاده وميزانيته، لم تعد هي الاستراتيجية الأمثل للأهداف المستقبلية، خاصةً لكونها غامضة وغير مناسبة لأهداف القوات الأمريكية وتحديداً البرية منها.

ومن الأفضل - من وجهة نظر الكاتب- بناء القوات على أساس استراتيجية (1+2)، وتعني: (1) أي افتراض الحرب الكبرى التي تدخلها الولايات المتحدة كالصراع المحتمل في كوريا، أما (2) فالمقصود بها بعض العمليات العسكرية طويلة الأمد والمتعددة والضاغطة على العدو في الوقت نفسه، وهو ما قد يجعل تلك الاستراتيجية أكثر واقعية وحيوية للقوات البرية.

الصراعات الكبرى والحاجة للقوات البرية

في إطار تأكيده على استمرار احتياج الولايات المتحدة للقوات البرية دون انتقاص منها، يطرح "أوهانلون" في كتابه عدداً من السيناريوهات التوضيحية للصراعات الكبرى المحتمل وقوعها أو المناطق القابلة للانفجار في المستقبل، وإلى أي مدى قد تستدعي تلك الصراعات التدخل الأمريكي نظراً لتهديدها لأمنها القومي من ناحية، أو لتهديد مكانتها في النظام الدولي من ناحية أخرى.

وثمة عدد من الأخطار العالمية التي تقع على الولايات المتحدة مسؤولية كبرى في التصدي لها، ويأتي في مقدمتها الإرهاب العالمي ومدى انتشاره وتوسعه بشكل كبير في مناطق الصراع. ورغم تأكيد إدارة الرئيس "أوباما" عن اقتراب القضاء على تنظيم "القاعدة" إلا إن التنظيم ما زال يعمل في العديد من المناطق الجغرافية، ناهيك عن النجاح الملحوظ الذي حققه تنظيم "داعش" في العراق والشام حتى الآن رغم الجهود الدولية المختلفة لمواجهته.

إلى جانب ذلك، فإن احتياج الولايات المتحدة لتعزيز قواتها البرية قد ينبع من العديد من الأسباب؛ ومنها الآتي:ـ

1- ردع روسيا حتى من التفكير في هجمات ضد دول البلطيق، خاصةً بعد السلوك الروسي الأخير في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم بشكل حاسم وسريع، وذلك على الرغم من وجود مصالح أمريكية في أوكرانيا.

2- ردع الصين من النظر في الدور المستقبلي لها في شبه الجزيرة الكورية، لما للولايات المتحدة من مصالح حيوية في ذلك الإقليم لا ترتبط فقط بالمصالح الاقتصادية، لكنها أيضاً تتعلق بالنفوذ السياسي والمكانة الدولية.

3- التعامل مع أي تهديد غير محسوب أو غير متوقع في بحر الصين الجنوبي، علاوة على بناء وحماية عدد من القواعد في الفلبين وغيرها.

4- الاستعداد للتعامل مع آثار الكوارث الإنسانية الكبرى في العديد من المناطق مثل جنوب آسيا وغيرها.

5- التعامل مع تفشي فيروس "الإيبولا" الشديد ليس فقط في الدول الصغيرة في غرب أفريقيا، ولكن أيضاً في نيجيريا، خاصةً أن هذا البلد أيضاً ينزلق إلى مزيد من العنف بسبب الصراعات الداخلية.

6- التعامل مع الصراع بين الكوريتين، وحماية كوريا الجنوبية من سلوكيات كوريا الشمالية المتطرفة.

7- العمل على معالجة انهيار الأوضاع الأمنية في أمريكا الوسطى، والتي تؤثر بالضرورة على الأمن القومي الأمريكي والمصالح الأمريكية في هذا الإقليم.

يُضاف إلى ما سبق، الصراعات المحتملة بين الدول النووية وبعضها البعض، وهو ما يتطلب بالضرورة التدخل الأمريكي نظراً لتأثيراتها الكارثية على الأمن العالمي والاقتصاد الدولي، ومن أمثلتها الصراع المحتمل بين الهند وباكستان، والذي إذا تم فيه استخدام أسلحة نووية فسوف يدفع بالضرورة إلى تدخل دولي على الأقل من أجل وقف إطلاق النار.

متطلبات استمرارية الدور القيادي للولايات المتحدة

يؤكد "أوهانلون" اقتناعه بفكرة مفادها أن الردع النووي خلق عالماً لن تسعى فيه القوى النووية الكبرى للتورط في حروب، لكن في الوقت نفسه قد تكون هذه الفكرة نسبية إذا ما شعرت الدولة بأن الحرب الصغيرة المنخرطة فيها - والتي ليس من المرجح أن تظل صغيرة إذا ما اندلعت - تهدد بقائها نفسه. ومن ثم سيكون احتمال استخدام السلاح النووي كبير - كما تمت الإشارة - في حالة الهند وباكستان مثلاً.

في هذا الصدد، يشير الكاتب إلى أن الأمل في مستقبل أفضل سيتأكد في ظل الوجود القوي ذو المصداقية للولايات المتحدة في النظام الدولي، رغم ما يُثار من جدل حول أن النظام الدولي متعدد الأقطاب سيكون أفضل وأكثر أماناً من الوضع الحالي الذي تسيطر فيه الولايات المتحدة بشكل كبير على مجرياته. فواشنطن حالياً تقود تحالفاً يضم 60 دولة؛ يمثلون في مجموعهم نسبة 70% من الإنفاق العسكري العالمي، ونفس النسبة تقريباً من الناتج القومي الإجمالي، وهو ما يمثل قوة كبيرة للولايات المتحدة في النظام الدولي.

غير أن هذا التحالف الغربي يواجه ضغطاً وتحدياً كبيراً، مع تزايد حجم الدين الداخلي للولايات المتحدة، بالإضافة إلى الكساد الحاصل في الطبقة الوسطى الأمريكية خلال العقود الأخيرة، وتدني الاستثمارات في مجالات التصنيع والبحث والتعليم، وذلك في مقابل صعود الاقتصاد الصيني بشكل كبير، الأمر الذي أصبح يهدد المكانة الأمريكية في ذلك النظام.

بيد أن ذلك لا يمنع من القول إن النموذج الأمريكي الغربي أكثر حضوراً وإبهاراً، ومازالت دخول المواطنين أعلى من تلك في روسيا والصين على سبيل المثال، هذا بالإضافة إلى أن هذا التحدي يمثل ضريبة المصداقية التي تدفعها الولايات المتحدة في النظام الدولي وأمام حلفائها الاستراتيجيين.

وفي هذا الصدد يؤكد "أوهانلون" - من خلال فصول كتابه - نقطة غاية في الأهمية، وهي أن القيادة الأمريكية للنظام الدولي والتدخل الأمريكي في الصراعات أمر مرغوب فيه للغاية، حتى وإن ظلت الولايات المتحدة انتقائية حول الكيفية التي توظف بها قواتها البرية في حماية مصالحها في الداخل والخارج.

ومن ثم، يؤكد "أوهانلون" - في خلاصة كتابه - أنه من الأولى للإدارة الأمريكية أن تتمسك بالوضع الحالي على الأقل فيما يتعلق بحجم قواتها البرية، مشيراً إلى أن أية محاولات للانتقاص من هذا الوضع، سواء فيما يتعلق بأعداد القوات البرية أو ميزانية الإنفاق العسكري، سيعد أمراً غير حكيم، وستكون له تداعياته السلبية على الأمن القومي الأمريكية، والمصالح الأمريكية في العالم.

 * عرض مُوجز لكتاب: "مستقبل الحرب البرية"، والصادر في أغسطس 2015 عن مؤسسة بروكينجز.

المصدر:

Michael E. O'Hanlon, The Future of Land Warfare (Washington, Brookings Institution Press, August 2015( pp 254.