تباعد الحلفاء:

هل تتراجع واشنطن عن التزاماتها تجاه أمن أوروبا؟

04 March 2024


أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في 10 فبراير 2024، التي شجع فيها روسيا على الهجوم على دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" التي لم ترفع نفقاتها الدفاعية إلى 2% من ناتجها المحلي، موجة من التساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي. وقد فاقم ذلك عدم تمرير مجلس النواب الأمريكي حزمة مساعدات قدرها 60 مليار دولار تقريباً مخصصة لأوكرانيا، كان قد أقرها مجلس الشيوخ، وهو ما اعتبره البعض مؤشراً ربما على تغير المواقف الأمريكية بشأن الالتزامات الأمنية تجاه أوروبا في إطار حلف "الناتو". 

ويتزامن ذلك مع تقييمات أوروبية مختلفة تشير إلى أن روسيا ربما تختبر مدى فاعلية "الناتو" خلال السنوات القليلة المقبلة عبر الاعتداء على أراضي إحدى دول الحلف، وهو ما ذكره وزير الدفاع الدنماركي، ترويلز لوند بولسن، بشكل واضح، يوم 9 فبراير 2024. ويطرح ذلك تساؤلات حول مستقبل الأمن الأوروبي، وكيفية تعامل الدول الأوروبية مع الأمر، ومدى تأثر العلاقات الأوروبية الأمريكية.

مؤشرات التراجع: 

هناك عدد من المؤشرات التي تعكس تراجع الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا في العموم، والدعم الأمريكي لأوكرانيا على وجه الخصوص، ومن هذه المؤشرات ما يلي: 

1- تصريحات ترامب: مثلت تصريحات الرئيس الأمريكي السابق وصاحب الفرصة الأكبر ليكون مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات العام الحالي، ترامب، مؤشراً مهماً حول مستقبل التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا في حال تمكنه من الفوز في الانتخابات المقبلة، إذ شجع ترامب روسيا على أن تفعل ما يحلو لها بأي دولة من دول "الناتو" لا تلتزم بقاعدة إنفاق 2% من ناتجها المحلي على النفقات الدفاعية. كما أشار إلى أن رئيس إحدى الدول سأله سابقاً إن كانت واشنطن ستتدخل حال تم غزو أراضي هذه الدول من دون أن تكون ملتزمة بتخصيص 2% من ناتجها المحلي لنفقات الدفاع، فأجاب ترامب بأنه لن يتدخل عسكرياً في هذه الحالة.

2- تعثر تمرير المساعدات الأمريكية لأوكرانيا: رفض مجلس النواب الأمريكي تمرير مشروع قانون بشأن حزمة مساعدات تبلغ حوالي 60 مليار دولار إلى أوكرانيا بالرغم من إقراره من مجلس الشيوخ. وجاء رفض الجمهوريين في مجلس النواب مدفوعاً بعدة أسباب، أبرزها اشتراط عدد منهم تخصيص مبالغ محددة لأمن الحدود وإحكام السيطرة عليها لوقف تدفقات المهاجرين، بالإضافة إلى تحفظات بعض النواب الخاصة بحجم هذه المساعدات في ظل الأوضاع الاقتصادية الأمريكية الحالية. 

3- تراجع نسب الدعم الشعبي الأمريكي: تشير استطلاعات الرأي التي أُجريت في نوفمبر 2023 إلى أن 41% من الأمريكيين يعتقدون أن الولايات المتحدة تقدم دعماً مُبالغاً فيه إلى أوكرانيا، مقارنةً بنسبة 24% فقط في أغسطس 2022، وترتفع هذه النسبة إلى 62% داخل الحزب الجمهوري وفقاً لاستطلاعات أكتوبر الماضي. كما تراجعت أيضاً نسبة من يرون أن الولايات المتحدة يجب أن تدعم أوكرانيا حتى تسترد كامل أراضيها مهما طال النزاع، من 66% في أغسطس 2022 إلى 54% في أكتوبر 2023، في حين يرى 43% أن واشنطن يجب أن تسعى لإنهاء الحرب بشكل سريع حتى لو كان ذلك يعني تنازل أوكرانيا عن جزء من أراضيها. وتشير هذه النسب إلى مزاج أمريكي عام لا يفضل استمرار الدعم الأمني لأوروبا، وما يعنيه ذلك من تكلفة وأعباء قد يرى المواطن الأمريكي أنها لا تعنيه في ظل صعوبات اقتصادية مختلفة تواجهه. 

دوافع أمريكية:

هناك عدة أسباب قد تدفع الولايات المتحدة للتخفيف من التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا، ومن أبرزها ما يلي: 

1- التخوف من الاستنزاف الأمريكي: تؤكد بعض الأصوات الأمريكية أنه من غير المنطقي الاستمرار في دعم حرب بلا نهاية (في إشارة إلى الحرب الأوكرانية)، وأن ذلك قد يخل بمتطلبات الدفاع الأمريكية في ظل وجود مناطق أخرى تتطلب دعماً أمريكياً أيضاً، وهو ما عبّر عنه السيناتور الجمهوري عن ولاية أوهايو، جي دي فانس، الذي صرح، في 18 فبراير 2024، بأن الولايات المتحدة لم تنتج ما يكفي من الأسلحة لدعم حروب في شرق أوروبا والشرق الأوسط وربما شرق آسيا أيضاً. 

2- حسابات التكلفة والعائد: قد تدفع هذه الحسابات الولايات المتحدة إلى النأي بنفسها عن الحروب الأوروبية، مع محاولة تحقيق أقصى استفادة اقتصادية ممكنة من هذه الحروب. وهي استراتيجية ليست جديدة، فقد سبق وطبقتها واشنطن بشكل جزئي أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ استفادت من تحول القاعدة الصناعية الأوروبية نحو خدمة أهداف الحرب في سنواتها الأولى، ومن ثم شهد القطاع الصناعي الأمريكي رواجاً شديداً نظراً لاعتماد السوق الأوروبية على نظيرتها الأمريكية في توفير السلع الاستهلاكية المختلفة. وفيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، فقد أدت بشكل مباشر إلى تغيير في خريطة مُصدري الغاز الطبيعي المُسال عالمياً، إذ حلت الولايات المتحدة بالمركز الأول في عام 2023، مستفيدة في ذلك من العقوبات الغربية على روسيا. كما شهد قطاع التسليح الأمريكي رواجاً مماثلاً، إذ قالت وزارة الخارجية الأمريكية، في 29 يناير 2024، إن مبيعات المعدات العسكرية الأمريكية للحكومات الأجنبية في عام 2023 ارتفعت بنسبة 16% إلى مستوى قياسي تجاوز 238 مليار دولار، وما يعنيه ذلك من عوائد لواشنطن، وتنشيط لسوق العمل الأمريكية. 

3- الاتجاه الأمريكي العام نحو العزلة: يسود مزاج عام أمريكي انعزالي، يركز على المشكلات الداخلية الأمريكية، ويضع نصب عينيه المصالح المباشرة للولايات المتحدة، ويدعو إلى التخفيف من أعباء قيادة العالم والحفاظ على أمن الحلفاء. وأصبح هذا التوجه ممثلاً بقوة في دوائر صناعة القرار الأمريكية، خصوصاً مع وجود شخصيات شعبوية، مثل ترامب، تتجه إلى التعاطي مع هذا الاتجاه بغية الوصول للسلطة أو البقاء فيها. 

تحركات أوروبية:

من المتوقع أن تتحرك الدول الأوروبية على عدة مسارات لتحقيق أمنها، في ظل تراجع الالتزامات الأمريكية نحوها، ومن هذه المسارات الآتي: 

1- زيادة نفقات الدفاع: من المتوقع أن يتجه الأوروبيون إلى زيادة مخصصات الدفاع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، إذ سيزيد ذلك بشكل مباشر من قدرتهم على الاعتماد على النفس عبر زيادة الإنتاج وتطوير الصناعات العسكرية، ومن ناحية أخرى سيخفف هذا من الانتقادات الأمريكية للدول الأوروبية التي لم تصل بعد إلى هدف الـ2% للإنفاق على الدفاع، مما سينفي حينها الذريعة التي يتبناها عدد من رموز الحزب الجمهوري وعلى رأسهم ترامب. 

2- محاولة تغيير طريقة تمويل التسليح الأوروبي: ظهرت في الأروقة الرسمية الأوروبية عدة أفكار بشأن ضمان انسيابية مالية لنفقات التسلح الأوروبية، من ضمنها فكرة طرحتها إستونيا وتبنتها فرنسا تتعلق بتوفير ما تصفه بـ"سندات الدفاع الأوروبية"، والتي تقوم على فكرة أن توفر الدول الأعضاء مظلة ائتمانية تُقدر بـ600 مليار يورو على مدار عشر سنوات، لتمكين الصناعات الدفاعية الأوروبية من الموارد المالية اللازمة لتطوير هذه الصناعات وتدشين خطوط إنتاج جديدة؛ وذلك لمعالجة مشكلة أن جهات الائتمان الأوروبية لا تمنح الصناعات العسكرية ائتماناً كافياً لإنشاء خطوط إنتاج جديدة إلا بوجود اتفاقات موقعة مسبقاً مع الدول التي تنوي شراء هذا الإنتاج. بيد أن هذه الفكرة لم تلق قبولاً ألمانياً حتى الآن، إذ لا تزال برلين تدرس فكرة أن يتم تمويل الصناعات الدفاعية عبر مؤسسات القطاع الخاص وليس عبر الدين الحكومي. 

3- مزيد من المسؤوليات على عاتق الدول الأوروبية الكبرى: من المتوقع أن يكون العبء الأكبر مالياً وعسكرياً على الدول الأوروبية الكبرى وبالأخص ألمانيا وفرنسا، باعتبارهما المحرك الرئيسي للاتحاد الأوروبي، والأقدر على تحمل المسؤولية. وبدا يتضح ذلك، مثلاً، من خلال تزايد الدعم الألماني بشكل ملحوظ لأوكرانيا، لتعويض تراجع الدعم الأمريكي. ففي 16 فبراير 2024، أقرت ألمانيا حزمة مساعدات جديدة تُقدر بـ1.2 مليار يورو لكييف، تشمل ذخائر ومنظومات دفاع جوي. 

4- ظهور تكتلات أمنية مُصغرة لدول أوروبية: من الممكن أن تلجأ بعض الدول الأوروبية إلى تشكيل تكتلات عسكرية أصغر داخل القارة الأوروبية، وذلك في ظل صعوبة الوصول إلى اتفاق حول سياسة أمنية موحدة بين جميع الدول الأوروبية. وفي هذا الإطار، يبرز مثالان، هما: 

أ- دول المنطقة القطبية: مع زيادة التخوفات الأوروبية واحتمالات تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها الأمنية، من المتوقع أن يحاول الأوروبيون زيادة حضورهم العسكري في المناطق الهشة أمنياً خصوصاً تلك التي يمكن أن تكون مجالاً للصدام بسبب مواردها. وأولى هذه المناطق هي المنطقة القطبية، وعلى الرغم من الاتفاقات التي تجمع الدول القطبية والتي تشمل بالأساس ثماني دول بينها روسيا، فإنه هناك دلالات على توترات مقبلة. ففي أكتوبر 2023، قال رئيس اللجنة العسكرية لحلف "الناتو"، الأدميرال روب باور، إنه "يجب أن نكون مستعدين لنزاع عسكري في المنطقة القطبية"، وهو الأمر الذي تدعمه بعض التحركات الروسية، إذ خرجت موسكو في سبتمبر 2023 من مجلس "بارنتس" الأوروبي والقطب الشمالي، الذي يضم في عضويته النرويج وفنلندا السويد، إذ اتهمتهم روسيا بإعاقة عمل المجلس. كما غيرت روسيا من "الاستراتيجية القطبية"، مضيفة فقرات تشير إلى مزيد من التعاون مع دول "بريكس". كذلك أصبحت القاعدة الموجودة في شبه جزيرة "كولا" والتي تحاذي النرويج وفنلندا، إحدى أكبر القواعد العسكرية الروسية. 

واستدعت هذه المؤشرات ردود فعل أوروبية، إذ انطلقت مؤخراً مفاوضات بين النرويج وفنلندا والسويد حول توحيد قوتها الجوية، كما أنه من المقرر أن تقود النرويج في مارس 2024 تدريبات تحت اسم "استجابة الشمال" (Nordic response)، والتي تهدف إلى اختبار قدرات الدول الثلاث على تنسيق الخطط الدفاعية. وكانت هذه الدول الثلاث قد أعلنت في عام 2022 اتفاقاً لتقوية التحالف بينها، وترتبط بتحالف تحت مظلة "التعاون الدفاعي الشمالي" منذ عام 2009.

ب- دول البلطيق: شرعت دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) في زيادة إنفاقها العسكري، وتغيير خططها العسكرية، إذ عملت على بناء سلسلة من خطوط ومنشآت الدفاع بطول حدودها مع كل من روسيا وبيلاروسيا، وهو ما يُعرف باسم "خط دفاع البلطيق". وأشار أحد المسؤولين العسكريين الإستونيين إلى أن خط الدفاع الذي يتم إنشاؤه قائم على الاستفادة من تجربة الحرب الأوكرانية، ويهدف بشكل أساسي إلى إيقاف الوحدات الروسية المدرعة حال هجومها على دول البلطيق الثلاث. 

ويشمل هذا الخط في الجزء الإستوني فقط إقامة 600 منشأة/ مخبأ، بحيث تحتوي كل منشأة على 10 جنود، ويتم تصميم المخابئ لتتحمل قصفاً مدفعياً ثقيلاً. ويشير بعض المتخصصين إلى أن لاتفيا قد تقوم بإنشاء 1116 مخبأً من هذا النوع، في حين تحتاج ليتوانيا إلى ما يزيد عن 2700 منشأة. وتهدف هذه المنشآت إلى إبطاء تقدم القوات الروسية حال اجتياحها دول البلطيق، وذلك حتى تمنح التعزيزات وقتاً مناسباً للوصول، وهي استراتيجية تتناسب مع مبدأ الدفاع عن كل شبر من أراضي حلف "الناتو".  

في الوقت ذاته كثفت دول البلطيق، ومعها الدول الإسكندنافية، دعمها لأوكرانيا، باعتبار أن كييف خط دفاعهم الأول، وتشير التقديرات إلى أن إستونيا تتصدر قائمة الدول في تقديم المساعدات لأوكرانيا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بإجمالي 4.1% من ناتجها، خلال الفترة من 24 يناير 2022 وحتى 15 يناير 2024، تليها الدنمارك بنسبة 3%، ثم ليتوانيا بنسبة 2%، فالنرويج ولاتفيا بنسبة 1.7% لكل منهما.

5- تغيير تدريجي لمنظومات تسليح دول شرق أوروبا: أظهرت حرب أوكرانيا مدى خطورة اعتماد دول شرق أوروبا على نظم تسليح قديمة منذ الحقبة السوفيتية، إذ لم تستطع العديد من الدول الغربية إمداد أوكرانيا بما تملكه من أسلحة غربية، نظراً لاختلاف نظم التسليح وصعوبة تدريب المقاتلين الأوكرانيين على النظم الغربية أثناء الحرب. ومن ثم من المتوقع، وفي إطار محاولة الأوروبيين الاعتماد على أنفسهم، أن يتم الاتجاه لتحديث أنظمة تسليح دول شرق ووسط أوروبا، وربطها بالتصنيع العسكري الغربي، على أن يشمل ذلك برامج تدريب مكثفة، بما يمكن المجموعة الأوروبية من التكافل الحربي وتقديم الدعم بسهولة ويسر أثناء المعارك.

6- تجهيز الجبهة الداخلية في بعض دول المواجهة: سعت بعض الدول الحدودية مع روسيا إلى تجهيز الجبهة الداخلية لاحتمالات حرب مع موسكو. فعلى سبيل المثال، أصدرت السويد كتيبات إرشادية لمواطنيها حول كيفية التعامل في حالة نشوب حرب، كما دعا عدد من المراكز البحثية الحكومات الأوروبية إلى تجهيز الطرق وخصوصاً الرئيسية منها وتأهيلها، لتحمل سير مُحتمل للدبابات والآليات العسكرية.

7- السعي لإصلاح السياسة الأمنية المشتركة بالاتحاد الأوروبي: من المتوقع أن تمثل هذه المتغيرات ضغوطاً مباشرة على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي باتجاه تعديل آلية اتخاذ القرارات المتعلقة بسياسة الأمن والدفاع والسياسة الخارجية الأوروبية. ومن المرجح أن تتم إعادة طرح فكرة إلغاء شرط الإجماع الخاص بتبني الاتحاد الأوروبي لأي مواقف متعلقة بالأمن والسياسة الخارجية، والاتجاه نحو "الأغلبية المؤهلة" (Qualified majority voting)، أو "أغلبية خاصة" يتم الاتفاق عليها. 

تأثيرات مختلفة:

سيكون للتراجع الأمريكي عن الالتزامات الأمنية تجاه أوروبا، إن استمر، عدد من التداعيات المُحتملة، التي لا تقف عند حد العلاقات الأمنية بين الجانبين، ومن أهم هذه التداعيات ما يلي: 

1- التباعد في المواقف الخارجية: يمثل البُعد الأمني أحد أهم دوافع تقارب الولايات المتحدة وأوروبا في مواقفهم الخارجية، ومن ثم فإن أي خلل في الرابطة الأمنية بينهم سيؤدي بالضرورة إلى حدوث تباعد في سياستهم الخارجية. وقد ينعكس ذلك بشكل واضح في الموقف من الصين، إذ إن تخلي الولايات المتحدة عن أوروبا أمنياً سيجعل الأخيرة أقل رغبة في سلك مسلك عدائي تجاه بكين، أخذاً في الاعتبار أولوية التهديد الروسي بالنسبة للأوروبيين، وقد يكون الحرص الصيني على عدم تقديم دعم عسكري مباشر وملموس لروسيا يهدف بالأساس إلى فصل الموقف الأوروبي تجاهها عن نظيره الأمريكي. 

2- مزيد من الشكوك حول مصداقية واشنطن: تُعد أوروبا أهم حلفاء الولايات المتحدة على الإطلاق، وذلك لعدة اعتبارات، منها اعتبارات "تاريخية" مرتبطة بخوض الطرفين معاً الحرب العالمية الثانية، وأخرى "قيمية" مرتبطة بمسائل القيم المشتركة وعلى رأسها الديمقراطية وحقوق الإنسان، وثالثة "براغماتية" مرتبطة بحجم المصالح الاقتصادية والسياسية بين الجانبين. ومن ثم فإن تراجع أو تخلي الولايات المتحدة عن أهم حلفائها سيضع مصداقيتها لدى باقي الحلفاء محل شك وتساؤل، كما سيفتح الباب لهم للتحوط من الموقف الأمريكي، وذلك بالأساس عبر التوجه نحو إقامة علاقات طيبة مع الصين تحديداً، والتي ربما تُعد البديل المتاح حالياً، وبشكل أقل روسيا. 

3- زيادة أهمية الترتيبات الأمنية الإقليمية: إن تراجع الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزاماتها الأمنية ناحية أوروبا، وعدم رغبة الصين حتى الآن في أداء دور مماثل بما يحمله ذلك من تكاليف، سيرفع من أهمية التنسيقات والترتيبات الأمنية الإقليمية خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، إذ ستعود المسائل الأمنية بشكل أساسي لتكون مسائل إقليمية بامتياز، ومن ثم قد تعود إلى الواجهة الأفكار المرتبطة بإنشاء تحالفات إقليمية أو الشروع في ترتيبات أمنية بين القوى الإقليمية الرئيسية.

الخلاصة أن اتجاه الولايات المتحدة للتخفيف من التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا، والذي قد يكون له ما يبرره في الداخل الأمريكي، ستكون له تداعيات ليس على أوروبا وحدها، وإنما قد تمتد لتشمل واشنطن أيضاً. فقد يؤدي ذلك إلى خلافات واضحة في السياسة الخارجية لكلا الطرفين، كما قد يدفع بعض حلفاء الولايات المتحدة، حتى من خارج أوروبا، إلى إعادة النظر في اعتمادهم عليها باعتبارها لم تعد مأمونة الجانب، واتجاههم نحو قوى دولية أخرى أبرزها الصين، مما قد يؤثر بالتبعية في دور واشنطن على الساحة الدولية.