إشكاليات أخلاقية:

فرص وتحديات بناء مجتمعات الذكاء الاصطناعي

20 January 2024


عرض: عبد المنعم علي

باتت هناك تطلعات بشأن مستقبل المجتمعات البشرية عبر دمج تقنيات الثورة الصناعية الرابعة مثل الذكاء الاصطناعي بصورة أكثر فعالية في المجتمع، بما يسمح بإيجاد نظام اجتماعي مدعوم بالابتكار في البيانات والمعلومات والمعرفة في مجالات متنوعة مثل: الرعاية الصحية، المدن الذكية، البنية التحتية، إذ يتم من خلالها إيجاد توازن بين جميع الجوانب التي تسهم في جودة الحياة. وأصبح ذلك الأمر هدفاً للعديد من الدول التي تركز على تقنيات وأساليب الذكاء الاصطناعي، من خلال تمكين إنترنت الأشياء والحوسبة السحابية والبيانات الضخمة لتطوير المجتمع.

لذا، تأتي أهمية دراسة الباحث فيكاس خولار، وآخرون، والتي نشرت في Clearance Center في العام 2024، إذ تتناول دور الذكاء الاصطناعي في المجتمع، عبر التركيز على المجالات التعليمية والطبية والصناعية والتنموية والبنية التحتية والمدن الذكية، مع تقييم فرص دمج الذكاء الاصطناعي بهذه القطاعات والتحديات التي تواجه ذلك.

المجتمع والتكنولوجيا الحديثة:

أصبحت فكرة بناء "مجتمعات الذكاء الاصطناعي"، واحدة من سمات المرحلة الحالية من أجل مستقبل المجتمع البشري، واخترعت الحكومة اليابانية هذا المصطلح في عام 2018؛ لوصف المجتمع الذي يدمج الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية، بهدف إنشاء مجتمع يعطي الأولية لرفاهية الفرد والمجتمع باستخدام التكنولوجيا في القطاعات الخدمية المختلفة، وذلك لما يُمثله الذكاء الاصطناعي من أداة قادرة على معالجة تحديات تلك القطاعات سواءً الصحية أم التعليمية أم الزراعية أم النقل، وبما يعزز في ذات الوقت من الاستدامة وحماية البيئة.

تعود أصول هذه الفكرة إلى استكمال منجزات الثورة الصناعية الرابعة، إذ تركز على التقارب بين التكنولوجيا والعالم المادي لتحقيق تنمية تتمحور حول الإنسان، إذ يُعد المجتمع الحالي هو المرحلة الخامسة من نمو المجتمع البشري الذي يتسم بتغيرات جذرية في حياة وطريقة عيش المواطنين بفضل التكنولوجيا الرقمية التي تؤدي إلى الابتكار والازدهار والتغيير الاجتماعي.

وتتمثل الأهمية المركبّة لهذا الأمر في أن البيانات تدعم الاقتصاد الرقمي، بدءاً من خوارزميات الذكاء الاصطناعي ونماذج التعلم الآلي وحتى المساعدين الافتراضيين والسيارات ذاتية القيادة، ويمكن تطبيقها في الرعاية الصحية والتعليم والنقل وإدارة الطاقة، بما يعزز عملية صنع القرار وتحسين استخدام الموارد وإنشاء نماذج وخدمات أعمال جديدة، وتمتد آثار ذلك لإمكانية معالجة تغير المناخ ومكافحة الفقر وتفشي الأمراض.

إن الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة سوف تجعل تنمية الإنسان مرتبطة بشكلٍ متزايد بما يجعل المجتمع فعالاً ومنتجاً ومستداماً ويركز على حل القضايا الاجتماعية من خلال الابتكار، ويسعى هذا المجتمع إلى إنشاء واقع مستدام وشامل من خلال وضع البشر في قمة أولويات الإنجازات التقنية، بما يضمن أن يؤدي التقدم التقني إلى تحسين حياة الناس بدلاً من مجرد التقدم.

ولكي تتحول المجتمعات لحالة المجتمعات الذكية، هناك حاجة لاستخدام مستدام للتكنولوجيا الرقمية التي تدمج النظام المادي السيبراني مع البنية التحتية الاجتماعية، بما يسهم في تكامل التكنولوجيا ومشاركة البيانات، ويتطلب ذلك أنظمة نقل ومبانٍ وشبكات ذكية لكي تساعد هذه الهياكل المتشابكة المجتمع على العمل بسلاسة. كما يعتمد هذا المجتمع على الأنظمة السحابية لتخزين وتحليل البيانات باستخدام الذكاء الاصطناعي، إذ تساعد الخوارزميات على تحليل وتفسير كميات هائلة من البيانات لأغراض صنع السياسات واتخاذ القرار وإنشاء أنظمة ذكية تعزز الإنتاجية في العديد من الصناعات.

ففي الرعاية الصحية، تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بتشخيص الأمراض وتصميم استراتيجيات العلاج ومراقبة صحة المريض، ويستخدم أيضاً الذكاء الاصطناعي في التنقل وفق  أنظمة النقل الذكية التي تعمل على تخفيف الازدحام المروري، وكذلك تحليل بيانات حركة المرور للتنبؤ بالازدحام واقتراح طرق بديلة للسائقين، علاوة على استخداماتها الأخرى في كافة مجالات الحياة.

وعلى الرغم من تلك الأهمية؛ فإن التنمية التي تتمحور حول الإنسان تتطلب التمويل والمعرفة التكنولوجية والدعم المؤسسي، بما يُمثل في حد ذاته تحدياً في الدول النامية بسبب محدودية الموارد والقدرات؛ الأمر الذي يتطلب أهمية استثمار الحكومات والمنظمات الدولية في المؤسسات والمجتمعات المحلية في التنمية وتنفيذ برامج محددة.

الذكاء الاصطناعي والتنمية المستدامة:

تُعد التقنيات الثورية وأهداف التنمية المستدامة عناصر مهمة في تحقيق المجتمع القائم على التكنولوجيا؛ وبالتالي فإن الجمع بينها يخلق مجتمعاً مستداماً، من خلال الاستفادة من قوة إنترنت الأشياء، وتكنولوجيا "البلوك تشين"، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة المتطورة، والحوسبة السحابية، إذ يمكن إنشاء مجتمع يتمحور حول الإنسان ويعزز التنمية المستدامة ويحسن نوعية الحياة للجميع، وقد يتطلب الأمر سياسات وأنظمة جديدة لضمان تقاسم فوائد هذه البنى بشكلٍ عادل بين جميع أفراد المجتمع، وألا تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية القائمة.

إن تحقيق التنمية المستدامة يتطلب دمج جوانب التقدم البشري والاقتصادي والتكنولوجي، وإدارة الموارد، واستخدام الأراضي والمياه، وإدخال تعديلات على البيئة الطبيعية؛ وعلى وجه الخصوص فإن إدخال التكنولوجيا الثورية له العديد من التأثيرات العكسية التي يمكن الشعور بها في جميع أنحاء إطار أهداف التنمية المستدامة، وذلك لأن التكنولوجيا مجموعة متنوعة من التطبيقات يمكن العثور عليها في جميع القطاعات تقريباً.

مع ذلك، فإن غالبية المزايا الملائمة للاستدامة يتم تحقيقها من خلال تطوير مجالين رئيسيين، هما: الصناعة الذكية والمجتمع الذكي، وذلك لأن دعم إنشاء مناطق حضرية ذكية ومجتمعات ريفية من خلال استكمال الصناعة الذكية يحتاج أيضاً إلى مساعدة من مجالات أخرى، مثل: المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، فضلاً عن الاستثمار والقبول المجتمعي.

تحديات وفرص:

تواجه عملية تنمية مجتمعات تعتمد على الذكاء الاصطناعي مجموعة تحديات تتمثل أبرزها في: عدم الاستقرار السياسي والفساد وسوء الإدارة في العديد من الدول، بما يسهم في عرقلة التنمية التي تتمحور حول الإنسان من خلال تقييد المشاركة والموارد والمسؤولية، إلى جانب أن هناك بعض الأعراف الثقافية والمجتمعية تؤثر في مواقف وسلوك برامج التنمية وقد تقيد هذه المعايير المشاركة والموارد وبرامج التنمية، كما أن عملية الأتمتة والذكاء الاصطناعي لديها مخاطر تكمن في القضاء على فرص العمل مع الإضرار بالخصوصية وأمن البيانات والمعلومات مما يتطلب العمل على معالجة أبعادها السلبية لتحقيق الأهداف المنشودة.

ثمة إشكالية أخرى أفرزتها المجتمعات الذكية، وهي الارتباط بين الأخلاق والتكنولوجيا الحديثة، فالمرحلة الخامسة من المجتمع البشري والتي تدمج التكنولوجيا الحديثة جعلت الأخلاقيات أمراً بالغ الأهمية، وذلك لكون التقنيات الجديدة مثل: الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء ساعدت على تعزيز قوة ونفوذ الأفراد والمنظمات بشكلٍ كبير، إذ يثير التقدم التقني والتكنولوجي مخاوف بشأن إساءة استخدام الشركات أو الحكومات لهذه البيانات.

يضاف لذلك، أن الأتمتة والذكاء الاصطناعي قد تحل محل الموظفين وتزيد عدم المساواة الاقتصادية، الأمر الذي يثير مشكلات حول مسؤولية الحكومة في حماية حقوق الموظفين وتوفير التعليم والتدريب للتكيف مع التكنولوجيا الجديدة، ويجب أن يسترشد تنفيذ الأخيرة بالمبادئ والاعتبارات الأخلاقية لضمان استخدامها بطريقة تعود بالنفع على جميع أفراد المجتمع، ولا تؤدي إلى إدامة أوجه عدم المساواة أو التحيزات القائمة، ومن المهم إعطاء الأولوية للشفافية والمساءلة والشمولية وبناء الثقة في أنظمة الذكاء الاصطناعي بين جميع أصحاب المصلحة.

هنالك أيضاً تحديات أخرى مثل، أن دمج التكنولوجيا في جميع جوانب الحياة لتحسين حياة الناس؛ أو ما يمكن تسميته بالتكامل التكنولوجي يخلق مشكلات جديدة في مجال الأمن السيبراني إذ يسهم في مزيد من الجرائم الإلكترونية ويزيد من مهاجمة الأجهزة المتصلة بشكل متزايد؛ مما يطرح مشكلات جديدة تتعلق بالأمن السيبراني، والذي يُعد أكثر أهمية في مجتمعات الذكاء الاصطناعي، في ظل اعتماد الكثير من المجالات، كالاتصالات والتمويل والنقل والرعاية الصحية بشكل متزايد على التكنولوجيا، الأمر الذي زادت معه عمليات القرصنة وانتهاك البيانات وسرقة الهوية.

ويتطلب ذلك اعتماد تدابير الأمن السيبراني التي تقوم على حماية الأفراد والشركات والحكومات من الهجمات السيبرانية، وبما يتضمن حماية البيانات الشخصية وتعزيز سبل التشفير وجدران الحماية وبروتوكولات الأمان الأخرى لحماية هذه البيانات، كما أن البنية التحتية في مجتمعات الذكاء الاصطناعي تتأثر بصورة كبيرة بالهجمات السيبرانية، فعلى سبيل المثال، تكون شبكات الكهرباء وشبكات النقل ومرافق الرعاية الصحية مترابطة وتعتمد على التكنولوجيا؛ وقد تؤدي الهجمات الإلكترونية على هذه المرافق إلى تعطل تلك الخدمات وبالتالي، يجب حماية هذه البنى التحتية باستخدام أنظمة أمن سيبراني قوية.

على الجانب الآخر، ثمة فرص كبيرة مطروحة، إذ إن اعتماد مجتمعات الذكاء الاصطناعي على التقنيات المتطورة والتعلم الآلي لتأمين الشبكات؛ يسهم بصورة كبيرة في التعرف على الهجمات الإلكترونية والرد عليها في الوقت الفعلي، مما يساعد المؤسسات على مواكبة المخاطر الناشئة، علاوة على ذلك فإن الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة بأتمتة الإجراءات الأمنية مثل: اكتشاف التهديدات والاستجابة لها، يسهم في تخفيف مسؤوليات الأمن البشري.

إضافة لذلك، فإن تحول المجتمعات ودمجها بالذكاء الاصطناعي يؤدي إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويجب تنظيم هذه التقنيات لتحقيق الأهداف الاجتماعية بما يراعي الاستخدام الآمن والأخلاقي، ويسهم ذلك النمط من المجتمعات في تحقيق السلامة والاستدامة والمسؤولية الاجتماعية، كما أن تلك التقنيات تنظم الاستدامة البيئية، أي الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة والنفايات وتعزيز الاقتصاد الدائري إذ يجب أن تكون أيضاً صديقة للبيئة.

ختاماً؛ لقد غيّر الذكاء الاصطناعي أنظمة الخدمات الاجتماعية كالخدمات الصحية والنقل والتعليم والتمويل، وأثار قضايا أخلاقية واجتماعية بما في ذلك التحيز والخصوصية والأمن في العديد من المجالات، وقدرته على إنشاء مجتمع مستدام وشامل ومزدهر للبشر، ويدعم حل القضايا المجتمعية بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم وتغير المناخ، وعلى الرغم من أهمية هذا التحوّل فإن ثمة تحديات منها ما يتعلق بالأبعاد الأخلاقية والمجتمعية والأمان الاجتماعي.

ولمعالجة ذلك يجب أن يتم توظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي ذات الثقة التي تأخذ أبعاد الخصوصية والأمان في الاعتبار والامتثال للتشريعات والمعايير ذات الصِلة، ويتطلب ذلك متخصصين في الذكاء الاصطناعي والأخلاقيات والقانون والعلوم الاجتماعية والأمن السيبراني. إضافة إلى الجمع بين التمويل الكافي وتوافر الخبرة الفنية، ووعي الإدارة العليا وإدراكها الإشكاليات الأخلاقية والاجتماعية، خاصة مع إمكانية تزايد عدم المساواة إذا لم يتمكن بعض الأشخاص من الوصول إلى التكنولوجيا الجديدة.

المصدر:

Vikas Khullar, Vrajesh Sharma, Mohit Angurala and Nipun Chhabra, Artificial Intelligence and Society 5.0 Issues, Opportunities, and Challenges, Clearance Center, Inc, Taylor & Francis Group, LLC, 2024.