محفزات القتل:

لماذا يغتال المتطرفون المفكرين العرب؟: حالة ناهض حتر

27 September 2016


لم يكن حادث اغتيال الكاتب الأردني "ناهض حتر" يوم 25 سبتمبر 2016 حدثًا استثنائيًّا في تاريخ المنطقة العربية، فقد عايشت المنطقة -عبر عقود- أزمات حادة تركت آثارًا عميقة على المجتمعات وطريقة إدارة الدول لشئونها. 

فمن جهة، باتت البيئة السياسية أكثر قابلية للعنف، حيث أصبح أطراف المعادلات السياسية القائمة في الكثير من الدول غير قادرين على تسوية الصراعات السياسية عبر تسويات وصيغ سلمية، خاصة مع ضعف القيم الديمقراطية، وتراجع ثقافة التعايش المشترك. ومن جهة أخرى، تم تنشئة أجيال ذات عقول منغلقة لا تتقبل الآخر، سرعان ما يتولد عنها عناصر أكثر تطرفًا تستسيغ العنف ضد الآخر، واغتياله، طالما أنه مخالف فكريًّا.

سياقات الدولة المأزومة:

يستدعي تفسير ظاهرة اغتيال الكُتاب والمفكرين في منطقة الشرق الأوسط الرجوع إلى السياقات المجتمعية والسياسية التي تشكلت في المنطقة على مدار العقود الماضية، والتي كانت بشكل أو بآخر تُكرِّس لأزمة الدولة القومية التي تأسست في حقبة ما بعد الاستقلال. 

فقد ارتبط ظهور هذه الدولة بالتأسيس لنمط من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المتمركزة حول الدولة، والمسيطرة على المجال العام بكافة مكوناته، بما في ذلك المكون الديني. ولكن سرعان ما تعرضت شرعية هذه المأسسة للدولة الحديثة بالمنطقة لاهتزازات عميقة، لا سيما مع بزوغ مشروع الإسلام السياسي، الذي طُرح كمشروع بديل للمشروعات السياسية والأيديولوجية التي تبنتها الأنظمة الحاكمة المتعاقبة.

وفيما كان التنافس قائمًا بين الأنظمة الحاكمة وتيارات الإسلام السياسي، كان الوقت كفيلا بإظهار الأزمات البنيوية للدولة والتي شكلت مدخلا للعنف والاغتيالات كأحد أنماط هذا العنف، وإجمالا يمكن اختزال هذه الأزمات في تجليين رئيسيين، هما:

أولا- موقع الدين: فقد ظلت قضية الدين، وموقعه في الدولة العربية الحديثة في مرحلة ما بعد انتهاء الخلافة الإسلامية، إحدى القضايا المثيرة للجدل في السياق العربي، والتي لم تُحسم حتى الوقت الراهن، ناهيك عن التعاطي الحائر للدولة مع القضايا التي تمس الشأن الديني، ومساحة الحرية المتاحة للكتاب والمفكرين في تناول الموضوعات الدينية، حيث بدا أن الدولة متأرجحة بشكل أو بآخر في التعامل مع هذه المساحة الإشكالية. فتارة يتم إعطاء حيز أكبر من الحرية للكتاب في هذا الإطار، وتارة أخرى ترفع الدولة شعار الدفاع عن الرموز الدينية، وهو الأمر الذي كان يرتبط إلى حد كبير بالحسابات السياسية، وديناميات الصراع السياسي مع تيارات الإسلام السياسي، والتنافس على الشرعية الدينية.

ولا يُمكن إغفال أن هذا المتغير (التنافس على الشرعية) كان حاضرًا في حالة الكاتب الأردني "ناهض حتر"، فبعد أن نشر في شهر أغسطس الماضي رسمًا كاريكاتوريًّا على صفحته الشخصية بالفيسبوك بعنوان "رب الدواعش"، بدا أن ثمة صراعًا بين الدولة والإسلاميين حول القضية، ومحاولات من جانب كل طرف لتوظيف القضية في صالحه؛ حيث أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن بيانًا تنتقد فيه "حتر"، وتطالب فيه السلطات الأردنية باتخاذ العقوبات ضد الكاتب؛ لأنه تطاول على المعتقدات الإسلامية. وفي المقابل اتخذت السلطة قرارًا بالتحقيق مع "حتر"، وصدرت تصريحات من السلطة بأنها لن تسمح "بتجاوز الخطوط الحمراء للمقدسات".

ثانيًا- الانتماءات الأولية: لقد ذهب المفكر المغربي محمد عابد الجابري في توصيفه لحالة العقل العربي إلى أن فكرة القبيلة بمعناها المادي والمعنوي أحد المحددات الرئيسية للعقل السياسي العربي، ليعبر بذلك عن جانب من جوانب أزمة الدولة العربية التي عجزت عن تأسيس شكل سياسي يمثل بوتقة صهر لكافة المكونات المجتمعية. وفي خضم عجز الدولة تنامت الانتماءات الأولية، سواء للقبيلة أو الطائفة أو الجماعة، لتصبح في بعض المجتمعات كيانات بديلة عن الدولة. 

وفي الوقت ذاته تعزز من قابلية اللجوء إلى العنف واغتيال الأغيار. ولعل هذا النمط من الاغتيالات السياسية (غير المرتبط بدوافع دينية بحتة) أكثر ظهورًا في دول مثل ليبيا ولبنان المعروفة تاريخيًّا بكثرة الاغتيالات السياسية للكتاب والمفكرين. 

مداخل تفسيرية:

المعطيات المجتمعية السابقة كانت بمثابة مخزون فكرى يستند إليه المتطرفون بالمنطقة لشرعنة العنف، واغتيال الكتاب والمفكرين المخالفين. ناهيك عن ذلك، فقد حدث تلاقٍ بين السياقات السياسية والمجتمعية القائمة وبين المكونات النفسية والفكرية لتلك العناصر المتطرفة (دون الاقتصار على المتطرفين دينيًّا) لتتشكل بذلك منظومة محفزة للقتل، وهي المنظومة التي يُمكن تفسيرها من خلال المداخل التالية:

1- الدفاع عن الدين: الكثير ممن يقومون باغتيال الكُتاب والمفكرين لأسباب دينية لديهم القناعة الذاتية بأن ارتكابهم لعمليات القتل هو بمثابة مهمة مقدسة للدفاع عن الدين ضد أشخاص خارجين عن الدين يتم وصفهم بعدد من الصفات السلبية التي تنزع عنهم إنسانيتهم، وتبرر قتلهم. فالمتطرف آنذاك يكون في حالة يتماهى فيها الدين ورموزه مع ذاته، ومن ثم فإنه يشعر بأن أي مساس بالرموز الدينية -وفقًا لرؤيته- هو بمنزلة إهانة موجهة لذاته تستدعي نظرية الانتقام والقتل Humiliation – Revenge Theory. فاتساقًا مع تلك النظرية، فإن "رياض إسماعيل أحمد" حينما اغتال ناهض حتر، كان يدور في عقله أنه يقتل كاتب مسيحي، وصمه متطرفون بالاستهزاء بالدين الإسلامي عبر رسوم كاريكاتورية، ومن ثم، فإن القتل – بحسب وجهة نظره - يُعد ثأرًا للإهانة الموجهة للدين ولذاته بالتبعية.

2- شرعية الفتوى: تكتسب الفتوى أهمية مركزية في عمليات الاغتيال التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقود الماضية، إذ إن الفتوى تساعد مرتكب القتل في شرعنه تصرفه، لا سيما أنها (الفتوى) تصور الآخر "الضحية" على أنه كافر أو مرتد يستحق القتل. وقد تجلى هذا الأمر في العديد من حالات اغتيال الكُتاب في العالم العربي، ولعل أبرزها حالة الكاتب المصري "فرج فودة" الذي قُتل عام 1992 على يد "عبد الشافي أحمد رمضان" و"أشرف السيد صالح" اللذين كانا قد أشارا أثناء التحقيقات معهما إلى أن عملية قتل "فودة" كانت بناء على فتاوى دينية تبيح دم "فودة"؛ لأنه "علماني متطرف يهاجم الدين الإسلامي".

3- العقول المنغلقة: هي ظاهرة ترتبط بدلالتين جوهريتين، إحداهما عدم القدرة على التفكير المستقل، وانتظار التوجيهات من الآخرين ذوي الانتماء الديني والمذهبي ذاته. فعلى سبيل المثال، لم يكن "محمد ناجي مصطفى" الذي حاول قتل الروائي المصري "نجيب محفوظ" على دراية بكتابات "محفوظ"، ولم يكن قد قرأ روايته الإشكالية "أولاد حارتنا"، ولكن كل ما هنالك أنه قد تلقى فتاوى من قيادات الجماعة الإسلامية آنذاك تندد بمحفوظ "الذي يهاجم الإسلام في كتاباته". أما الدلالة الثانية فهي تتصل بعدم التسامح وتقبل الاعتذار من الآخر، فالذي قتل الكاتب الأردني "ناهض حتر"، لم يُعطِ لنفسه فرصة لإعادة التفكير فيما كتبه "حتر" بعد الأزمة التي أثيرت بسبب الرسوم الكاريكاتورية؛ حيث نفى "حتر" أن يكون متعمدًا الإساءة إلى الذات الإلهية، وذكر "أن الكاريكاتور يسخر من الإرهابيين وتصورهم للرب والجنة، ولا يمس الذات الإلهية من قريب أو بعيد، بل هو تنزيه لمفهوم الألوهية عما يروجه الإرهابيون". وأضاف أنه "لا ولن يقبل من أحد التطاول أو الإساءة للذات الإلهية".

4- التهديد الهوياتي: إذ إن الكثير من الجماعات المتطرفة، سواء كانت دينية أو عرقية أو قبلية أو حتى سياسية، عادةً ما تلجأ إلى فكرة الهوية المشتركة المنفردة لتعزيز التماسك الداخلي بين أعضاء المجموعة، والمفاصلة بين المجموعة والمجموعات الآخر، وبالتالي تلعب الهوية هنا دورًا سلبيًّا، وخاصة مع الاعتقاد بفكرة الهوية المنفردة التي تنفي الهويات الأخرى، وتعتبرها تهديدًا لها. وقد عبر عن هذه الإشكالية "أمارتيا صن" في كتابه "الهوية والعنف" حينما ذكر "أن كثيرًا من النزاعات والأعمال الوحشية في العالم تتغذى على وهم هوية متفردة لا اختيار فيها. وفن بناء الكراهية يأخذ شكل إثارة القوى السحرية لهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى".

هذا الشعور بالتفرد الهوياتي يجعل الجماعة في الكثير من الأحيان تشعر بالتهديد الخارجي من جانب الآخرين الذين يتم وسمهم في خطاب الجماعة بسمات سلبية وغير أخلاقية. وفي هذا السياق، يمكن أن تتشكل لدى الفرد الدوافع لقتل الآخرين بمن فيهم الكُتاب والمفكرون، على اعتبار أن هؤلاء بما يقومون بكتابته -خاصة إذا ما كان ينطوي على انتقادات للجماعة- يمثلون تهديدًا لوجود الجماعة ومصالحها، ومن ثم يكون التخلص منهم أمرًا مشروعًا. ويحظى هذا النموذج بفرص ظهور أكبر في المجتمعات التي تتسم بدرجة أكبر من الطائفية السياسية والقبلية على غرار ليبيا ولبنان التي شهدت حالات اغتيال كتّاب بارزين مثل "سمير قصير" في 2005.

رؤية مستقبلية:

ليس من المرجح تقويض احتمالات الاغتيالات السياسية بالمنطقة العربية في المستقبل القريب، وهو أمر يتسق مع طبائع الأمور بالمنطقة، ومعطيات الواقع الراهن، والتي تشير إلى تعرض الدولة العربية لهزات عنيفة في مرحلة ما بعد الثورات، جعلتها تتراجع في مخيلة الكثيرين الذين بدءوا يؤسسون لدويلاتهم الخاصة، والأمر هنا لم يعد قاصرًا على تنظيمات إرهابية، ولكنه يمتد إلى الفرد العادي، وإن كان على مستوى أقل، فالذي قتل الكاتب الأردني "ناهض حتر" أمام قصر العدل أثناء توجهه لحضور جلسة المحكمة، كان يعبر عن تآكل فكرة الدولة، وسعي كل فرد -أو حتى مجموعة- إلى تأسيس عدالته الخاصة بعيدًا عن عدالة الدولة. 

ثمة إشكالية أخرى سيكون على الدولة العربية التعاطي معها، وهي تلك المرتهنة بتنامي أدوار الفاعلين العنيفين من غير الدول، على غرار التنظيمات الإرهابية والإجرامية، والتي عززت بصورة أو بأخرى من مسارات العنف والاغتيالات السياسية، على اعتبار أن هذه التنظيمات تتسم في المقام الأول بدرجة من الرشادة والعقلانية، وتتخذ قراراتها وفقًا لحسابات المكاسب والخسائر، وبالتالي فقد تلجأ هذه التنظيمات إلى الاغتيالات كإحدى الآليات الكفيلة بتحقيق أهدافها، وتشكيل صورتها الذهنية الخاصة التي تستهدف بالأساس نشر الخوف والقلق بين خصومها، علاوة على التخلص من الآراء المعارضة.