تحوّل استراتيجي :

هل تنجح أرمينيا في التحالف مع الغرب على حساب روسيا؟

22 November 2023


بدأ بُعد جديد يطرأ في علاقات أرمينيا الخارجية بعد الهجوم الذي شنته أذربيجان، في 19 سبتمبر 2023، وسيطرت بموجبه على إقليم ناغورنو كاراباخ بشكل كامل، باتجاهها نحو تعزيز علاقاتها مع الغرب، على حساب علاقاتها مع روسيا والتي ظلت حليفتها لعقود، وهو ما يطرح تساؤلات حول مُستقبل النفوذ الروسي في منطقة القوقاز، ومدى قدرة يريفان على أن تطور علاقاتها بالغرب بالفعل على حساب روسيا في ظل الأوضاع الجيوسياسية الحالية في العالم.

مُؤشرات دافعة:  

يمكن الوقوف على عدد من الأسباب التي دفعت أرمينيا للاتجاه نحو الغرب، ومحاولة تقليص علاقتها بموسكو على النحو التالي: 

1. اعتقاد يريفان بتخلي موسكو عنها: تعرضت العلاقات بين روسيا وأرمينيا لهزة عنيفة منذ حرب ناغورنو كاراباخ التي اندلعت في عام 2020 عندما رأت أرمينيا أن روسيا لم توفر لها الحماية اللازمة  بموجب انضمامها لمعاهدة الأمن الجماعي وتوقيعهما اتفاقية دفاع مشترك، ولاسيّما وأن قوات حفظ السلام التي تشكلت بموجب اتفاقية وقف إطلاق النار التي توسطت فيها روسيا وتركيا لم تمنع أذربيجان من تكرار عملياتها العسكرية في الإقليم، على النحو الذي حدث في سبتمبر 2022 عندما هاجمت القوات الأذربيجانية الإقليم وسيطرت على عدة كيلومترات منه، ثم استيلائها بشكل كامل على الإقليم في هجوم سبتمبر 2023. 

يُضاف إلى ذلك عدم وفاء موسكو بصفقات الأسلحة التي أبرمتها مع يريفان في 2021 لتعزيز قدراتها العسكرية في الدفاع عن نفسها. وبناءً على ذلك، اتخذت أرمينيا مجموعة من القرارات التي عُدّت مؤشرات على عزمها المضي قدماً في مسار التحول الاستراتيجي في علاقاتها الخارجية لتصبح أقرب ما يكون إلى حليف للغرب والابتعاد عن التحالف مع روسيا رغم كونها عضواً في معاهدة الأمن الجماعي التي أسستها موسكو. 

2. التصديق على نظام المحكمة الجنائية الدولية: صوّت البرلمان الأرميني، في 3 أكتوبر 2023، لصالح التصديق على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بأغلبية 60 صوتاً مُقابل 22 صوتاً مُعارضاً، وذلك على الرغم من تحذيرات روسية سابقة من هذه الخطوة وأنها سيُنظر إليه على أنها عدائية للغاية؛ ذلك بالنظر إلى أن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية وما يترتب عليه من ضرورة إلقاء القبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إذا زار يريفان. ولذلك وصف المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف هذه الخطوة بأنها إهانة وستعني أنه سيتعين على موسكو التشكيك في القيادة الحالية لأرمينيا.

3. البحث عن حليف: بدأت تصريحات المسؤولين الأرمينيين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء نيكول باشينيان في الهجوم بشكل علني على روسيا؛ إذ أعرب باشينيان، في حديث صحفي يوم 2 سبتمبر 2023، عن أسفه لاعتماد بلاده شبه الكامل على موسكو فيما يتعلق بالأمن وهو ما وصفه بالخطأ الاستراتيجي في الوقت الذي تغادر فيه موسكو منطقة القوقاز. ولذلك بدأت يريفان في اتخاذ بعض الخطوات التي تقربها من الغرب، مثل إرسال حزمة من المساعدات الإنسانية إلى أوكرانيا، في 7 سبتمبر 2023، قدّمتها آنا هاكوبيان زوجة رئيس الوزراء باشينيان على هامش حضورها القمة الثالثة للسيدات والسادة الأوائل التي عُقدت في كييف. 

وقبل ذلك، استدعت أرمينيا ممثلها الدائم والمفوض لدى منظمة معاهدة الأمن الجماعي فيكتور بياجوف، في 5 سبتمبر 2023، وعينته سفيراً لها لدى هولندا وممثلاً دائماً لدى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية. ثم أعلنت وزارة الدفاع الأرمينية في اليوم ذاته أنها ستجري مناورة لمدة 9 أيام مع الولايات المتحدة، وهي المناورات التي حملت اسم "الشريك النسر" وانطلقت، في 11 سبتمبر 2023، بمشاركة 85 جندياً أمريكياً و175 جندياً أرمينياً بهدف إعداد الجنود الأرمنيين للمشاركة في مهام حفظ السلام الدولية. وذلك بعدما رفضت أرمينيا المشاركة في مناورات الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي عُقدت، في 1 سبتمبر من نفس العام، ببيلاروسيا.

حسابات موسكو: 

توجد مجموعة من الحسابات التي ربما تكون قد دفعت موسكو إلى عدم أداء دور مُؤثر في عدم سيطرة أذربيجان على ناغورنو كاراباخ أو عدم تحريكها قواتها الموجودة في أرمينيا سواءً أكانت قوات حفظ السلام أم القوات المتمركزة هناك من قبل. ويمكن إجمال هذه الحسابات فيما يلي: 

1. تأثير الحرب الأوكرانية: ربما أدت الحرب في أوكرانيا إلى استنزاف القدرات العسكرية والجيوسياسية الروسية إلى حد بعيد، بما قد جعلها تفضل عدم الانخراط في هذا الصراع في منطقة القوقاز وعدم ضخ المزيد من قدراتها العسكرية المستنزفة بالفعل فيه، أو أنها باتت على إثر الحرب في أوكرانيا غير قادرة على التأثير في تطور الصراع لإدراك الأطراف كافة، وفي مقدمتها أذربيجان، أن نفوذها وقدرتها على التأثير في مجريات الأحداث قد تراجع، خاصة مع الوضع في الاعتبار أن أذربيجان قد استطاعت الانتصار في حرب 2020 بدعم قوي من تركيا وإسرائيل، ومن شأن انخراط موسكو في هذا الصراع أن يؤثر في مصالحها مع حليفين مهمين لها وخاصة تركيا التي اعتمدت عليها بشكل كبير للالتفاف على العقوبات الغربية، وهي العقوبات التي تمثل في حد ذاتها عاملاً مؤثراً في التحرك الروسي في صراع ناغورنو كاراباخ؛ إذ أفقدت الحرب في أوكرانيا وتضرر علاقات روسيا والغرب إلى حد بعيد، الأولى قدرتها على أداء دور الوسيط أو صانع السلام بين أرمينيا وأذربيجان. 

2. تفضيل موسكو لباكو عن يريفان: ربما يمكن تفسير التوجه الروسي لغض الطرف عن الهجوم الأذربيجاني بأنه إعادة تقييم للأولويات لدى موسكو وأنها رأت أن علاقتها بأذربيجان قد تكون أكثر أهمية بالنسبة لها من علاقتها مع أرمينيا، وذلك في ضوء مجموعة من العوامل، منها أن أذربيجان قد أدت مع روسيا دوراً مهماً في تحايلها على العقوبات الغربية، وأن باكو تمثل شريكاً اقتصادياً مُهماً لموسكو في ضوء كونها الطريق البري الرئيسي لروسيا إلى الجنوب، ومفتاحاً مهماً في الحد من نفاذ الدول الأوروبية تجارياً إلى آسيا الوسطى للالتفاف على الطرق المارة بروسيا وبيلاروسيا، وأن باكو كذلك من أكثر الدول استيراداً للسلاح من روسيا. وهو ما قد يعطي في مجمله إشارة إلى أن موسكو قد رأت في علاقتها مع باكو أهمية أكبر وأكثر استراتيجية من علاقتها مع يريفان، على الأقل في المرحلة الحالية في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، وربما أدركت باكو ذلك فتعمل على استغلال هذا الوضع الجيوسياسي لتحقيق أهدافها في أرمينيا.

مُحددات حاكمة: 

تتحدد مسارات مُستقبل العلاقة بين روسيا وأرمينيا خلال المرحلة المُقبلة في ظل المُعطيات السابقة والسعي الأرميني إلى فك التحالف مع روسيا والاتجاه إلى تعزيز العلاقات مع الغرب بناء على مجموعة من المُحددات الأساسية، وهي كالتالي:

1. أوراق الضغط الروسية: تمثل أوراق القوة التي تمتلكها روسيا في أرمينيا أحد المحددات المهمة التي ستحكم مسار علاقات أرمينيا الخارجية خلال الفترة المقبلة؛ إذ تمتلك موسكو مجموعة متنوعة من أوراق القوة ووسائل الضغط على يريفان التي تسمح لها بالضغط عليها وتحييد مسارها عن أي تقارب مُحتمل مع الغرب، وتتمثل هذه الوسائل في: أولاً العامل الاقتصادي؛ إذ تُعد موسكو أكبر شريك تجاري لأرمينيا على الإطلاق ويمكنها أن تستغل ذلك لتقييد صادراتها إلى يريفان كإجراء عقابي إذا ما أقدمت على توسيع علاقاتها مع الغرب. وعلاوة على ذلك، تسيطر روسيا على قطاعات كبيرة من الاقتصاد الأرميني وخاصة قطاعي الاتصالات والطاقة. وثانياً العامل السياسي؛ إذ تمتلك روسيا مجموعة من أدوات التأثير والضغط في السياسة الداخلية من خلال مجموعة من الأحزاب التي يمكنها تأليب الرأي العام ضد رئيس الوزراء نيكول باشينيان وخاصة بعد الهزائم التي حدثت في كاراباخ من خلال حركة احتجاجية واسعة يمكن أن تؤدي إلى تغيير في القيادة السياسية. يُضاف إلى ذلك عامل ثالث مهم وهو القوات الروسية الموجودة في أرمينيا والقاعدة العسكرية القائمة في مدينة جيومري، فضلاً عن قوات حفظ السلام، وهو ما يمكن استثماره بشكل أو بآخر.

2. مدى القبول الغربي: أظهرت بعض التحركات التي تمت خلال الفترة الأخيرة من جانب الغرب باتجاه أرمينيا رداً على إشارات يريفان على تغيير بوصلة سياستها الخارجية ربما قبولاً غربياً لدعم أرمينيا أو دمجها في المعسكر الغربي بصورة أو بأخرى، والنظر إلى ذلك بوصفه فرصة استراتيجية للتأثير في منطقة القوقاز التي تمثل عمقاً استراتيجياً ومجالاً حيوياً لروسيا؛ وذلك مثل زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، في 4 أكتوبر 2023، إلى يريفان، وإعلانها من هناك أن باريس أعطت موافقتها على تسليم معدات عسكرية لأرمينيا لتمكينها من الدفاع عن نفسها. وهي الخطوة التي أدانتها ورفضتها كل من موسكو وباكو بما يُشير إلى توافق روسي أذري على رفض الوجود الغربي في منطقة القوقاز، وهو الرفض الذي يمثل ورقة مهمة لإضعاف أي دور أوروبي أو غربي في هذا الأمر على النحو الذي ظهر في فشل قمة غرناطة الأوروبية حول كاراباخ التي عُقدت في 5 أكتوبر في ظل غياب كل من أذربيجان وتركيا إضافة إلى روسيا بطبيعة الحال.

ولكن على الرغم من هذا القبول الغربي المبدئي؛ فإن التدقيق في الأمر يُشير إلى أن الغرب لا يملك القدرة على تحمل تكلفة هذا القبول وما يعنيه من التزام بالدفاع عن أرمينيا؛ وذلك بالنظر إلى التكلفة الكبيرة التي يتكبدها جراء دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، وما استجد من دعم لإسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى. فضلاً عن أن الدول الغربية لا تمتلك رفاهية توسيع نطاق الحرب شبه الباردة الجارية الآن مع كل من روسيا والصين وإيران لتشمل منطقة القوقاز بما يعنيه ذلك من مخاطر اندلاع صراعات أكثر خطورة.

وفي الختام، يمكن القول بناءً على ما سبق أنه من غير المُحتمل أن تحدث تغييرات جذرية أو هيكلية في السياسة الخارجية لأرمينيا خلال المدى القصير بالمعنى التقليدي بقطع العلاقات مع روسيا أو إيصالها إلى الحد الأدنى في مقابل تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الغرب لما يحمله ذلك من مخاطر على يريفان، تضاف إلى مخاطر إقدام أذربيجان على اجتياح أوسع لأراضيها، ولكنها في المقابل قد تعمد إلى تعزيز علاقاتها العسكرية مع القوى الحليفة للغرب مثل الهند لتخفيف النفوذ الروسي. ذلك علاوة على أن روسيا على الرغم من الصعوبات والضغوط التي تواجهها جراء الحرب في أوكرانيا فإنها من الصعب أن تقبل بتمدد النفوذ الغربي إلى مجالها الحيوي، وخاصة في منطقة جنوب القوقاز، وهو الأمر الذي شنت من أجله حرباً في جورجيا عام 2008، وهو أمر ربما تشترك فيه معها كل من تركيا وإيران.