دبلوماسية اليسار:

دوافع تحول الموقف اللاتيني من حرب إسرائيل على غزة

07 November 2023


اتخذ عدد من الدول في أمريكا اللاتينية، خلال الأيام الماضية، موقفاً وصف بالداعم للجانب الفلسطيني في الصراع الحالي مع إسرائيل، حيث أعلنت بوليفيا، يوم 31 أكتوبر 2023، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب بسبب التصعيد الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة رداً على هجوم نفذته حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي. وفي نفس اليوم، استدعت كل من كولومبيا وتشيلي سفيريهما في تل أبيب للتشاور، وتكرر الأمر من قِبل حكومة هندوراس يوم 3 نوفمبر الجاري، لذات الأسباب. وأثارت هذه القرارات تساؤلات حول طبيعة مواقف دول أمريكا اللاتينية من الحرب الجارية في غزة، ودوافعها.

مواقف لاتينية:

شهدت مواقف الدول اللاتينية تبايناً فيما بينها بشأن الحرب الإسرائيلية الجارية في قطاع غزة، كما مرت الدولة الواحدة بتغيرات واضحة في اتجاهات مواقفها تجاه هذه الأزمة على مدار الأسابيع الماضية مع تفاقم الأحداث.

فمع بداية الهجوم الفلسطيني المفاجئ الذي قامت به حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي، صدرت التصريحات الرسمية اللاتينية تعليقاً على الهجوم، لكن المواقف تباينت بين إدانة كاملة لهذا الهجوم، وبين إدانة مبررة أو ملحقة بتفسير لما يعانيه قطاع غزة من حصار وتضييق منذ عام 2007 وما تعانيه الحقوق الفلسطينية والقرارات الدولية بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من انتهاكات وتجاوزات، وبين مواقف اتسمت بالتأييد الكامل للهجوم الفلسطيني على مستوطنات غلاف غزة باعتباره "مقاومة مشروعة أمام قوة احتلال".

وجاءت مواقف معظم الدول اللاتينية في خانة إدانة هجوم حماس، لكن مع تبريره بالتجاوزات الإسرائيلية الممتدة، وانغلاق أفق مسار السلام وحل الدولتين. ومع مرور الوقت وحدوث تحولات في مشهد الحرب الجارية، ظهرت مفردات جديدة تشغل الرأي العام والخطاب الرسمي في الدول اللاتينية، ومنها مسألة طول أمد الحصار على غزة وشدة إحكامه بقطع إمدادات الكهرباء والمياه والغذاء، وهو ما يعني عقاباً جماعياً لنحو 2.3 مليون نسمة هم سكان القطاع، وكثرة عدد الضحايا من الجانب الفلسطيني وخاصة من الأطفال، بالإضافة إلى رفض إسقاط الصواريخ بصورة مباشرة على أهداف مدنية ومنها مدارس ومستشفيات وملاجئ إيواء. كل هذه الأحداث التي نقلتها وسائل الإعلام، ربما كان من شأنها إحداث تحولات في الموقفين الرسمي والشعبي لعدد من الدول اللاتينية إزاء حرب غزة. ويمكن توضيح طبيعة مواقف هذه الدول في النقاط التالية: 

1- رفض التصعيد الإسرائيلي الفلسطيني: مع بداية الأزمة، وفور الإعلان عن هجوم حماس على المستوطنات الإسرائيلية وسقوط عدد من القتلى واحتجاز الرهائن ونقلهم إلى مخابئ داخل قطاع غزة، ظهرت المواقف الأولية لعدد كبير من الدول اللاتينية. فالبرازيل والأرجنتين وتشيلي، وعلى الرغم من وجود حكومات يسارية ورؤساء اعتادوا أن يكونوا في الصفوف الأولى من المؤيدين للحقوق الفلسطينية والمعارضين للممارسات الإسرائيلية، أصدروا بيانات فورية تحمل إدانة واضحة للهجوم الفلسطيني، واللافت وصفه بـ"الإرهابي" من قِبل الرئيس البرازيلي اليساري، لولا دا سيلفا، الداعم للقضية الفلسطينية. 

لكن مواقف الإدانة جاءت مصحوبة بتأكيد الأسباب الجذرية المتسببة في تطور الأوضاع إلى هذا الحد، وفي أغلبها أشارت إلى أهمية العودة إلى مفاوضات السلام، وحتمية حصول الفلسطينيين على حقوقهم. لكن في المقابل، جاء موقف دول التحالف البوليفاري (يشمل كوبا، وفنزويلا، وبوليفيا، ونيكاراغوا، ودومينيكا، وأنتيغوا وبربودا، وسانت فنسنت وجزر غرينادين، وغرينادا، واتحاد سانت كريستوفر ونيفيس؛ وهي الدول الأكثر يسارية والأكثر عداءً للولايات المتحدة الأمريكية)، مؤيداً للجانب الفلسطيني ولم يذكر إدانة لهجمات حماس.

ومع استمرار الحرب وتصاعد الضربات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة وما تبعها من خسائر كبيرة في الأرواح البشرية وهدم للبنى التحتية وتعطيل لكل سُبل الحياة، حدثت تحولات في مواقف الدول اللاتينية واتجهت نحو إدانة قتل المدنيين في غزة. فعلى سبيل المثال، أكد الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، على حسابه على منصة "إكس"، في 14 أكتوبر الماضي، إدانته للممارسات الإسرائيلية في غزة، وهو ما دفع السفير الإسرائيلي في بوغوتا لرفض هذه التصريحات. وقررت إسرائيل وقف الصادرات الأمنية إلى كولومبيا، حسبما أفادت وزارة خارجيتها يوم 15 أكتوبر الماضي، دون توضيح ما إذا كان ذلك سيؤثر في اتفاقيات التعاون والعقود الموقعة مع كولومبيا والتي تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات. 

2- إدانة تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة: مع تطور الأحداث في قطاع غزة، أصبحت المواقف الرسمية في الدول اللاتينية تتسم بالإدانات المتكررة للضربات الإسرائيلية ضد المدنيين، وانتقاد عرقلة دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. ومن ثم أصبح ملف الوضع الإنساني هو محور المواقف الرسمية للدول اللاتينية.

فقد أدانت وزارات خارجية كولومبيا والأرجنتين وتشيلي، الانفجار الذي وقع في المستشفى الأهلي العربي (المعمداني) في شمال غزة، يوم 17 أكتوبر الماضي، والذي كان يأوي آلاف النازحين. وعرضت وزارة الخارجية الأرجنتينية مساعدات إنسانية للسكان المتضررين من النزاع من خلال وكالة التعاون الدولي والمساعدات الإنسانية الأرجنتينية. وقالت وزارة الخارجية الكولومبية في بيان لها: "لا يجب أن تكون المستشفيات أبداً هدفاً للقصف". وأشارت وزارة خارجية تشيلي إلى أن الحادث "قد يشكل جريمة حرب يجب التحقيق فيها من قِبل السلطات الوطنية والدولية المختصة"، وأعربت عن تعازيها لأسر الضحايا. 

وفي اتصال هاتفي بين الرئيسين الفلسطيني، محمود عباس، والتشيلي، جابرييل بوريك فونت، يوم 20 أكتوبر الماضي، أكد رئيس تشيلي وقوف بلاده مع فلسطين لنيل "حقوقها المشروعة"، لافتاً إلى أن بلاده ضد قتل المدنيين، وأنها ستقدم مساعدات إغاثية وإنسانية عاجلة لغزة من خلال مفوضية اللاجئين. وفي 23 أكتوبر الماضي، طالب الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، بوقف "الإبادة الجماعية" التي تحدث في غزة، وبضرورة العودة إلى مسار السلام وإقامة دولة مستقلة للفلسطينيين.

ومن جانبها، سعت البرازيل للاضطلاع بدور فاعل في هذه الأزمة من خلال مجلس الأمن الدولي، مستغلة أنها تترأس هذه الدورة، إلا أن جميع محاولاتها لإصدار قرار بوقف وقف إطلاق النار في غزة قد فشلت. ففي 18 أكتوبر الماضي، كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي صوتت بـ"لا" على القرار المُقترح الذي صاغته البرازيل والداعي إلى "وقف مؤقت لأسباب إنسانية" للقصف الإسرائيلي لغزة. وكان مشروع القرار يحث جميع الأطراف على الامتثال الكامل لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، ويدعو إلى هدنة إنسانية للسماح بوصول المساعدات بشكل كامل وسريع وآمن ودون عوائق.

3- قطع العلاقات وسحب السفراء من إسرائيل: أعلنت حكومة بوليفيا، يوم 31 أكتوبر الماضي، أنها قررت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب ارتكاب "جرائم حرب ضد الإنسانية" في قطاع غزة. ورحبت وزارة الخارجية الفلسطينية بهذا القرار، معتبرة أنه يعكس حقيقة الموقف البوليفي المتضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني.

وبالتزامن مع القرار البوليفي، أعلن الرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، استدعاء سفير بلاده لدى إسرائيل بسبب حربها في غزة. وفي نفس اليوم، استدعت حكومة تشيلي سفيرها لدى تل أبيب للتشاور بعد ما وصفتها بأنه ترتكب انتهاكات للقانون الإنساني الدولي جراء هجماتها على غزة. أيضاً، استدعت حكومة هندوراس سفيرها لدى إسرائيل للتشاور بسبب الوضع الإنساني الذي يعاني منه الفلسطينيون في غزة، حسبما أعلن وزير الخارجية، إنريكي رينا، يوم 3 نوفمبر الجاري.

4- موقف شعبي داعم لوقف إطلاق النار: تجد أحداث الشرق الأوسط عموماً، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي بصفة خاصة، صدى كبيراً في دول أمريكا اللاتينية. ومن ثم شهدت شوارع وعواصم هذه الدول تظاهرات عديدة، داعمة للحقوق الفلسطينية، ومنددة باستهداف المدنيين في غزة. ففي بوغوتا (عاصمة كولومبيا)، خرجت المظاهرات بالأعلام الفلسطينية باتجاه ساحة بوليفار التاريخية، وطالبت بوقف الهجمات الإسرائيلية على غزة. كما دعا المتظاهرون في بيرو، العالم إلى الوقف "الفوري" للقصف الإسرائيلي على القطاع. وأمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي، تجمع المتظاهرون للتعبير عن دعمهم لفلسطين وإدانة إسرائيل. وكذلك تجمع المئات أمام مبنى الكونغرس في كاراكاس (عاصمة فنزويلا)، وأدانوا الهجمات الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.

وتجمع مئات الأشخاص في البرازيل وبورتوريكو وتشيلي والإكوادور خلال الأسبوع الثاني للهجمات على غزة، للتعبير عن دعمهم للحقوق الفلسطينية. وفي بيونس أيرس (العاصمة الأرجنتينية)، تجمع حوالي 2000 شخص يوم 19 أكتوبر الماضي، لدعم الشعب الفلسطيني. كما نظمت نحو 40 منظمة غير حكومية في الأوروغواي، منضوية في مجموعة "التنسيق من أجل فلسطين"، مسيرة يوم 20 أكتوبر الماضي، باتجاه مقر الرئاسة في العاصمة مونتيفيديو، دعماً للشعب الفلسطيني، وللمطالبة بوقف إطلاق النار ودخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. 

محددات حاكمة:

هناك عدة عوامل ربما تفسر طبيعة موقف العديد من دول أمريكا اللاتينية إزاء الحرب الجارية في قطاع غزة، ومنها ما يلي:

1- ملف الرهائن والمفقودين لدى حماس: فتح ملف القتلى والرهائن الإسرائيليين من مزدوجي الجنسية، قضية شائكة جداً، ألا وهي زيادة أعداد ساكني المستوطنات الإسرائيلية من حاملي الجنسيات الأخرى. وبشكل عام، ووفقاً للإحصائيات الإسرائيلية، فإن نحو 17% من المواطنين الإسرائيليين يحملون جنسية أخرى ويتم إلحاقهم بالجيش الإسرائيلي وكثير منهم يعيش داخل المستوطنات، وهو ما ينطبق بقوة على مستوطنات غلاف غزة. وطالبت الحكومة الفلسطينية، عدة مرات، دول العالم إما بسحب من يحملون جنسياتها أو معاقبتهم؛ كونهم يخالفون المواثيق والمعاهدات الدولية بإقامتهم في مستوطنات على مساحات من أراضٍ محتلة وفقاً لقرارات الأمم المتحدة.

وعلى هذا الأساس، كان لاحتجاز "كتائب القسام" رهائن أثر في مواقف عدد كبير من دول العالم في أوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا، وبدأنا نرى مطالب من داخل إسرائيل من قِبل عائلات الرهائن وكذلك من دول عديدة، وبالطبع منها دول لاتينية في مقدمتها الأرجنتين والبرازيل، بضرورة إفراج حماس الفوري عن هؤلاء الرهائن. وتشير بعض التقارير حتى يوم 27 أكتوبر الماضي إلى أن هجمات حماس على مستوطنات غلاف غزة خلفت قتلى ومفقودين يحملون جنسيات بعض الدول اللاتينية، وهم كالتالي: الأرجنتين (9 قتلى و21 مفقوداً)، والبرازيل (3 قتلى ومفقود)، وبيرو (3 قتلى)، وتشيلي (قتيل ومفقود)، وكولومبيا (قتيل ومفقود)، وباراغواي (مفقودان)، وأوروغواي (رهينة واحدة).

2- ضغوط الجاليات اليهودية والعربية: في حالة الحرب الحالية في قطاع غزة، والصراع العربي الإسرائيلي بصفة عامة، تصبح الصورة أكثر تعقيداً في دول أمريكا اللاتينية؛ وذلك بسبب وجود جاليات يهودية وعربية كبيرة كمواطنين في عدد من هذه الدول، الأمر الذي يفسر تفاعل الرأي العام في الدول اللاتينية مع أزمات الشرق الأوسط بصورة تبدو أكبر من تفاعله مع الحرب الروسية الأوكرانية مثلاً. وتضم دول مختلفة في أمريكا اللاتينية، مجتمعات كبيرة من أصول يهودية وعربية، ومنهم الفلسطينيون، فيما تضم الأرجنتين أكبر جالية يهودية في أمريكا اللاتينية. وفي تشيلي، يعيش حوالي نصف مليون مواطن من أصل فلسطيني، وهم أكبر جالية في الشتات خارج الشرق الأوسط.

3- انحياز اليسار اللاتيني للقضية الفلسطينية: اعتاد اليسار اللاتيني، في إطار مناهضته للسياسة الخارجية الأمريكية، اتخاذ موقف مساند للقضية الفلسطينية؛ نظراً لوجود ميراث طويل من التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية لدول الجوار اللاتيني، ودعم عدد من الانقلابات العسكرية ومساندة حكومات لاتينية "موالية" بهدف تصفية اليسار خوفاً من وصوله إلى السلطة بما يشكله من تهديد لمصالح واشنطن. من ثم أتاح التصعيد الإسرائيلي في غزة، للعديد من الحكومات اللاتينية اليسارية فرصة لتبرير موقفها المناهض لممارسات تل أبيب. وفي المقابل، وعلى عكس كثير من دول أمريكا اللاتينية، أعربت باراغواي وأوروغواي والإكوادور، وهي جميعها دول يديرها اليمين، عن تضامن أكبر مع إسرائيل في الأزمة الراهنة.

ختاماً، سيستمر الشارع اللاتيني متابعاً ومعبراً عن تعاطفه مع سقوط الضحايا من المدنيين في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ليس فقط بسبب وجود المواطنين من أصول عربية، ولا بسبب الهوى اليساري في المجتمعات اللاتينية؛ لكن أيضاً لأن مسار الحرب الجارية في قطاع غزة يخبرنا بأن عدد الضحايا من الجانب الفلسطيني مرتفع جداً وآخذ في التزايد، فضلاً عن الدور الكبير الذي يؤديه تأثير "الصورة" التي تُنقل من القطاع. وعلى المستوى اللاتيني الرسمي، ثمة علاقة طردية بين وجود حكومات يسارية أو يمينية في قياس مدى الدعم لطرفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.