اجتماعات الأمم المتحدة.. واضطرابات السياسة الدولية

13 October 2023


بدأت الدورة الثامنة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة مناقشتها رفيعة المستوى قبل بضعة أسابيع على خلفية أجواء مثيرة للقلق، الأمر الذي استدعى اهتمام المجتمع الدولي بأكمله. وقد افتتح دينيس فرانسيس، رئيس الدورة الثامنة والسبعين، الجلسة بالتحذير من أن احتمالية حدوث انفجار نووي الآن قد أصبحت أقرب من أي وقت مضى. ويرتبط هذا الوضع المثير للقلق جزئياً بالصراع الدائر في أوكرانيا وبالتوترات المتصاعدة بين العديد من الدول المسلحة نووياً.

وقبل بضعة أسابيع فقط من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، ألقى أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، بياناً مثيراً للقلق هو الآخر، حيث ذكر أن دول العالم قد دخلت بالفعل في مرحلة "الغليان العالمي" بسبب عدم اتخاذ خطوات كافية لمعالجة التداعيات السلبية لتغير المناخ.

توترات طال آمدها 

في خضم هذا السيناريو الحافل، أتابع وبقلق عميق انتشار واستمرار الصراعات في جميع أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال تظل محنة الفلسطينيين في حق تقرير المصير كما هي في مواجهة تحديات جمّة مع استمرار احتلال الأراضي العربية منذ عام 1967. وكذلك ليبيا التي تعيش ظروفاً صعبة منذ ما يقرب من عقد من الزمان، حيث حذر المبعوث الخاص للأمم المتحدة بليبيا، عبدالله باثيلي، من أن الدولة تقف على حافة التفكك وأن استقرارها ووحدتها وهويتها معرضان للخطر. أضف إلى ذلك أن ليبيا أيضاً قد عانت مؤخراً بشدة من كارثة طبيعية شديدة في درنة. وبالمثل لا تزال الأزمات في السودان وسوريا واليمن دون حل، مما قد يؤدي إلى تمزق هذه الدول ونزوح الملايين من مواطنيها. علاوة على ذلك، فإن العديد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك الأمن المائي والغذائي والصحي، تثير قلقاً بالغاً في جميع أنحاء المنطقة.

في الواقع إن قارة إفريقيا بأكملها ليست بعيدة عن حالة الاضطراب المحتدمة المنتشرة حول العالم، حيث يؤدي الصراع على السلطة في مختلف دول القارة السمراء إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها. فيلاحظ مثلاً أنه منذ عام 2020 شهدت عدة دول إفريقية كغينيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد والغابون حالة من عدم الاستقرار أدت إلى عواقب أمنية ضارة بالمنطقة برمتها. هذا غير أن العديد من الدول الإفريقية حتى بعد تخلصها من الاستعمار لا تزال تصارع تداعياته، بما في ذلك التدخل الأجنبي المستمر وسعيه إلى المنافسة الجيوسياسية واستغلال الموارد الطبيعية لمختلف دول القارة. ومن المؤسف أن سوء الإدارة الوطنية المنتشر على نطاق واسع في الدول الإفريقية قد يؤدي إلى تفاقم هذه التحديات.

ويرى المتابع للأحداث حول العالم أن التوترات لا تتوقف عن التصاعد بقارة آسيا أيضاً، وبخاصة في الصين، وهو ما يعكس المشهد العالمي والاحتكاك الدائر بين البلدان المتجاورة والمنافسات المستمرة بين الدول الكبرى.

تحديات النظام العالمي

تواجه الركائز الأساسية للنظام العالمي الحالي تحديات غير مسبوقة ذات شقين: الشق الأول: يتمثل في أن لهذه التحديات مسعى مشروع لتحقيق إصلاحات ترمي إلى تعزيز العدالة بين الدول ودعم مُثُل التعددية. وأما الشق الثاني لهذه التحديات فهو ينبع من التوترات القائمة بين القوى الكبرى بالعالم، والتي تفاقمت بسبب الخطاب اللاذع والافتقار إلى حوار متوازن فيما بينها، لأن النظام غير العادل السائد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية (والذي خدم مصالح هذه القوى الكبرى لأكثر من نصف قرن) لم يعد صالحاً الآن أو قابلاً للتطبيق.

هناك نقاش وثيق الصلة يرتبط بالتوسع المحتمل لمجموعة "البريكس" (BRICS). تلك الكتلة التي تتألف في الأصل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، والتي ظهرت خلال فترة من النمو الاقتصادي القوي وكان لها تركيز اجتماعي واقتصادي عميق. فقد تأسست مجموعة "البريكس" في الأصل رغبة في تحقيق التوازن الجزئي في ساحة التنافس بين قوى السوق الرأسمالي. ولذلك فإن الأنباء التي ظهرت مؤخراً حول توسيع عضوية مجموعة "البريكس" بضم كلٍ من: الإمارات العربية المتحدة، ومصر، والمملكة العربية السعودية، والأرجنتين، وإثيوبيا، وإيران، قد أثارت مجموعة كبيرة من الأسئلة والآراء، منها: هل ستصبح مجموعة "البريكس" نواة لنظام عالمي جديد لتصحيح السياسات وتدارك الهيمنة الاقتصادية الغربية؟ وهل من الممكن أن يوفر هذا التكتل عملة بديلة للدولار الأمريكي؟

وعلى الرغم من أنني أؤيد بقوة مجموعة "البريكس" وفكرة توسعها، فإنني أعتقد أن بعض التوقعات الخاصة بها مبالغ فيها، حيث إنها تميل إلى التغاضي عن القيود الاقتصادية التي تفرضها هذه المجموعة مقارنة بمثيلاتها، كالتي تفرضها الدول الصناعية الغربية المتضامنة فيما بينها. علاوة على ذلك فإن هذه التوقعات تميل أيضاً إلى الاستخفاف بالاختلافات السياسية بين الدول الأعضاء داخل التكتل أو تتجاهلها تماماً. ومن الجدير بالذكر أن عدداً من القادة من الأعضاء الأصليين في مجموعة "البريكس" قد انتقد علناً مبادرة توسيع الكتلة، أو تقويض هيكلها الحالي. وإلى جانب ذلك، ففي حين أن زيادة التبادلات أو الاتفاقيات التجارية الثنائية بين أعضاء مجموعة "البريكس" قد يتطور في المستقبل القريب، إلا أن التبني الفوري لعملة جديدة تحل محل الدولار ليس على جدول أعمال المجموعة حالياً، ولا يُعد حتى قيد النظر في المستقبل القريب.

أجندة أممية متعددة

لقد كان جدول الأعمال متعدد الجوانب في الجمعية العامة هو النقطة المحورية في هذا التجمع رفيع المستوى. فحالياً يمر المجتمع الدولي بمرحلة تحول حادة، حيث يستجيب بشكل غير مناسب لتطلعات الكثيرين. وما يثير القلق ويزعزع الاستقرار بنفس القدر هو عدم كفاءة النظام الحالي، والذي يكافح من أجل الارتقاء إلى مستوى تحديات العصر. كانت هاتان السمتان واضحتين خلال محادثات الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي حاجة إلى العلاج على وجه السرعة. وكما هو معتاد فإن حضور القادة الحكوميين لاجتماعات الخريف السنوية يوفر لهم فرصة عظيمة للتشاور بشأن القضايا العالمية المعقدة والصعبة.

كان موضوع الاجتماع لهذا العام معبراً عن الاهتمامات العالمية بصورة كبيرة، حيث كان عنوانه "إعادة بناء الثقة وتحفيز التضامن العالمي: تسريع العمل بشأن خطة عام 2030 وأهدافها الخاصة بالتنمية المستدامة نحو السلام والازدهار والتقدم للجميع". وجاء تحت هذا العنوان حوارات رفيعة المستوى حول "تمويل التنمية"، و"الوقاية من الأوبئة والتأهب لها والقضاء عليها"، وكذلك حول "التغطية الصحية الشاملة". وكان هناك أيضاً اجتماع تحضيري لقمة المستقبل، وقمة الطموح المتعلق بالمناخ، واجتماع بشأن مكافحة السُل، بالإضافة إلى اجتماع للاحتفال باليوم الدولي للإزالة الكاملة للأسلحة النووية والترويج له.

وهكذا فلا ينبغي إغفال هذه الموضوعات المحورية والاجتماعات ذات الأولوية. وقد تتضمن جدول أعمال المجلس ولجانه العديد من القضايا الأخرى والتي ربما كان عددها كبيراً جداً بالنسبة لجمعية مدتها أسبوعين أو حتى لجلسات الدورة السنوية الكاملة للمجلس. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل بشكل كبير على خطورة الوضع الذي نعيشه، ولهذا كانت أولويات وموضوعات محادثات المجلس إما الموضوعات العامة والواسعة النطاق، أو تلك التي لها طبيعة اجتماعية واقتصادية بالأساس. ويلاحظ غياب الموضوعات المتعلقة بمخاوف الأمن السياسي عن جدول أعمال المجلس، باستثناء جلسة للاحتفال باليوم الدولي لتعزيز إزالة الأسلحة النووية.

ومع ذلك، لا يسع المرء إلا أن يتساءل كيف لا يستطيع العالم إعطاء الأولوية لمناقشة: كيفية تهدئة التوترات بين الدول، ووقف الحرب المستمرة، وإنهاء الاحتلال الإقليمي، وإعطاء الحق في تقرير المصير، والحد من ارتفاع مستوى التسلح المستمر والتخفيف من آثاره، وكبح الاتجاهات الجيوسياسية التي تهدد بزعزعة الاستقرار. ومن الأمور الملحة بنفس القدر الحاجة إلى تهدئة المواقف النووية وتعزيز نزع السلاح النووي. في الواقع، أنا مندهش وقلق للغاية من الوضع الحالي.

غاب الحوار وحضر الصمت

قام رئيس الولايات المتحدة، جوزيف بايدن، في اليوم الأول لانعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إدانة شديدة، مكرراً أن التقاعس عن اتخاذ إجراء رادع ضد موسكو إنما يمثل تهديداً للمبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة. وبدلاً من إشعال المناقشات وردود الأفعال المتوقعة من زعماء العالم المختلفين من الحضور، فقد قوبل هذا الخطاب بصمت مثير للقلق، وهو رد فعل يعود تاريخه إلى الحرب الباردة.

ذات مرة عبر نيكيتا خروتشوف، السكرتير الأول للحزب الشيوعي بالاتحاد السوفيتي، عن استيائه من خلال الخبط بحذائه على الطاولة أثناء اجتماع للجمعية. وكذلك قام العدو اللدود لأمريكا الرئيس السابق لكوبا، فيدل كاسترو، بزيارة الأمم المتحدة أربع مرات وإلقاء أطول خطاب مسجل في الجمعية العامة والذي دام لأكثر من أربع ساعات، وقد تزامن ذلك مع احتلال الولايات المتحدة لغوانتانامو. ومثال آخر هو للزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، الذي صعد إلى المنصة بحافظة فارغة وهو يحمل غصن زيتون، وحذر من أنه لا ينبغي للحضور أن يتركوه يسقط. وذهب الرئيس الفنزويلي السابق، هوغو تشافيز، إلى حد أن وصف في خطابه الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2006 رئيس الولايات المتحدة بأنه "الشيطان". وبالطبع فمن المؤكد أن هناك العديد من الأحداث الأخرى الغريبة أوالمعيبة التي حدثت بين قادة الدول ممن ينتمون إلى مختلف جوانب الطيف السياسي.

وبالتالي فالنقطة الأساسية التي تجدر الإشارة إليها هنا هي أن كافة الأصوات، بغض النظر عن علاقاتها بالولايات المتحدة، قد حظيت بفرصة الحضور إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة والتحدث من خلالها. واستناداً إلى تجربتي الشخصية، أستطيع أن أشهد أن اجتماع جمعية الأمم المتحدة كان دائماً بمثابة فرصة ملائمة لعقد اجتماعات جانبية مهمة ومشاورات خاصة بين الأصدقاء والأعداء على حد سواء.

ولكن للأسف فهذه الفرصة الخاصة لإجراء حوار بين الخصوم لم يتم استغلالها كما ينبغي في الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة. ففي الوقت الذي سجل فيه العديد من زعماء العالم حضورهم للدورة، إلا أنه للأسف كان ملحوظاً غياب الحوار في أثناء وجودهم، أو كما قيل فإن "صوت الصمت" كان عالياً بشكل ملحوظ. وكان رئيس الولايات المتحدة هو رئيس الدولة الوحيد الذي حضر من بين رؤساء الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.

وهذه الصورة للأحداث ما هي إلا انعكاس صارخ ومنذر بالسوء للنموذج الدولي الحالي، فهي تشير إلى الدور غير الفعال للأمم المتحدة. لقد عاد أربعة من الخمسة أعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن إلى لغة الحرب الباردة، بل وتوقعوا احتمالية استخدام أسلحة الدمار الشامل. لقد شهد مجلس الأمن، المنوط به مسؤولية الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، غياب معظم زعماء الدول الخمس دائمة العضوية، مما يشير إلى تضاؤل اعتمادهم على الأمم المتحدة باعتبارها مركز مشاركتهم الدولية. صحيح أن الصين والولايات المتحدة انخرطتا مؤخراً في محادثات ثنائية بناءة بين كبار المسؤولين في مالطا، ولكن هذه المحادثات تعكس وتؤكد أولويات البلدين وتفضيلاتهم.

إن حل الصراعات السياسية يتطلب التعاون بين الدول، ولا تستطيع الأمم المتحدة وحدها حل هذه الصراعات بالاعتماد فقط على وسائلها. إن الوقت قد حان للدبلوماسية المدعومة رفيعة المستوى لتُفعّل وتقدم دورها!

لقد انتقدت في السابق الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش علناً لعدم اتخاذه مواقف أكثر استباقية وعدم مشاركته بشكل كافٍ في جهود حل النزاعات، ولايزال عدم رضاي عن مواقفه مستمراً. ومع ذلك، فقد حذر غوتيريش بقوة في كلمته الافتتاحية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة من أن "عملًا عظيماً" من المنتظر تقديمه من قبل دول العالم، وأكد أن هناك حاجة ماسة للإصلاح في ضوء الوقائع العالمية المعاصرة المختلفة. وتُعد هذه دعوة واضحة للتعددية، وآمل أن يكملها الأمين العام للأمم المتحدة بمقترحات ملموسة لتشجيع الدول أو حتى إجبارها على المشاركة الدبلوماسية الأكثر حزماً. ومن الضروري أن يتم تنشيط منظومة الأمم المتحدة بأصولها ومبادئها التوجيهية وإعادة صياغة معاييرها لتكون مرة أخرى الضوء المرشد للدبلوماسية، سواءً داخل هذا الكيان الموقر أم خارجه.

إنني أدعو الأمين العام للأمم المتحدة لإتخاذ ثلاث خطوات:

1. التعامل شخصياً مع جميع قادة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن فيما يتعلق بالتوترات والصراعات السياسية طويلة الأمد فيما بينهم.

2. إنشاء مجموعة محدودة، ممثلة جغرافياً لمختلف الدول، تتكون من رجال الدولة على أعلى مستوى ممكن، مهمتها إشراك الأطراف المتنازعة بهدف حل النزاعات دبلوماسياً.

3. إشراك كافة أعضاء مجلس الأمن ورؤساء المجموعات الإقليمية شخصياً في مناقشة أفضل السبل لتنشيط وتفعيل دور الأمم المتحدة في عملية الإصلاح.

ومن خلال هذه الإجراءات المدروسة والمركزة فقط يمكننا أن نأمل في اجتياز التيارات المحفوفة بالمخاطر في المشهد الدولي الحالي والتوجه نحو مستقبل عالمي أكثر استقراراً وأمناً.