أزمة المقرات:

لماذا عادت التوترات في كركوك بالعراق؟

12 September 2023


قررت المحكمة الاتحادية في العراق، الأحد 3 سبتمبر 2023، تجميد أمر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، والذي يقضي بإخلاء مقر العمليات المشتركة للجيش العراقي في محافظة كركوك وتسليمه للحزب الديمقراطي الكردستاني، وأشارت المحكمة إلى أن هذا التجميد لحين حسم الدعوى المرفوعة في هذا الصدد. وجاء هذا القرار من جانب المحكمة بهدف تغليب المصلحة الوطنية والتعايش السلمي في المحافظة مُتعددة القوميات. 

سياقات مُحفّزة:

يمكن الإشارة إلى عدد من الأسباب والدوافع وراء تصاعد المشهد الأمني في محافظة كركوك على مدار الأيام الماضية، وذلك من خلال النقاط التالية:

1. رفض قوى سياسية لقرار السوداني: اندلعت الاشتباكات الأخيرة في محافظة كركوك، منذ 28 أغسطس 2023، على خلفية قرار السوداني بتسليم مقر العمليات المشتركة للقوات العراقية في المحافظة، إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني لاستئناف أنشطته السياسية لأول مرة منذ عام 2017، وهو ما أثار موجة احتجاجات واسعة داخل المدينة بين مُحتجين أكراد من جانب، وقوى سياسية وعربية وتركمانية من جانب آخر. 

وقد حشدت بعض القوى السياسية المحسوبة على الحشد الشعبي بجانب قوى أخرى عربية وتركمانية للتظاهر احتجاجاً على هذا القرار، وقاموا بقطع الطريق الرابط بين كركوك وأربيل، مما أدى إلى وقوع اشتباكات عنيفة بين عناصر أمن ومتظاهرين من المكون الكردي، سقط على إثرها نحو أربعة قتلى وأصيب نحو 16 شخصاً آخرين، مما دفع السلطات الأمنية إلى فرض حظر التجوال في المدينة. وفي سياق مُتصل، أصدر التحالف العربي في كركوك وجبهة تركمان العراق الموحد، بياناً، يطالبان فيه الحكومة الاتحادية بعدم تسليم المقر المُشار إليه إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني. 

2. عدم التزام ببنود الاتفاق السياسي: ترى قوى سياسية كردية أن حكومة السوداني لم تلتزم بتنفيذ بنود الاتفاق السياسي ضمن تحالف إدارة الدولة، وهو التحالف المكوّن لهذه الحكومة، حيث كان من بين بنود هذا الاتفاق ضمان حرية العمل السياسي في جميع المدن العراقية، ومن بينها كركوك، إذ أشار الاتفاق إلى عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني لاستئناف عمله في كركوك وتسليم مقره السابق، والذي كان يسيطر عليه منذ طردت القوات الكردية عناصر تنظيم داعش الإرهابي من المحافظة عام 2014، قبل أن يدخلها الجيش العراقي في 2017، ويصير مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني، مقراً لقيادة العمليات المشتركة العراقية. 

هذا إلى جانب عودة منصب المحافظ إلى القوى الكردية والذي كان أحد أهم شروط بعض القوى الكردية، مقابل تأييدها تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، خاصة وأن من يتولى كركوك هو راكان الجبوري، وهو محافظ عربى، فضلاً عن وجود قيادة أمنية مشتركة من مختلف القوميات بالمحافظة تحت إشراف الجيش العراقي. ويؤشر عدم الالتزام بتنفيذ هذه البنود على فتح المجال لعودة الخلافات السياسية داخل قوى تحالف إدارة الدولة، الأمر الذي يُهدد وجود الحكومة العراقية الحالية. 

3. تخوفات عربية وتركمانية: يُفسر رفض قوى عربية وتركمانية عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني لتسلم مقره في محافظة كركوك، تخوفهم من أن تكون تلك الخطوة بمثابة خطوة تمهيدية لعودة البيشمركة لمحافظة كركوك، في ضوء ما قالت تلك القوى إنه قمع وتهجير مارسته القوات الكردية بحق العرب والتركمان في المحافظة عندما سيطرت عليها بعد عام 2014. وجدير بالذكر أن كركوك تقع جغرافياً خارج عن حدود الإقليم وفقاً للمادة 343 من الدستور العراقي، والتي حددت الحدود الجغرافية للإقليم بأربيل والسليمانية ودهوك. 

مواقف مُختلفة: 

صاحب التصعيد الأخير الذي شهدته مدينة كركوك العديد من المواقف سواءً من قبل بعض القوى السياسية الداخلية أم من أطراف إقليمية، وهو ما يمكن استعراضه في الآتي: 

1. انتقاد كردي لقرار المحكمة العليا: علّق رئيس حكومة إقليم كردستان العراق مسرور بارزاني، على قرار المحكمة الاتحادية العليا في العراق بإيقاف أمر السوداني، بـ"المهزلة"، وذلك في إشارة إلى رفض القرار، واعتباره من أسرع القرارات التي تم اتخاذها من قبل المحكمة. وقد رفع الدعوى للمحكمة رئيس تحالف العروبة في محافظة كركوك، والذي يرى أن المقر المفترض تسليمه للحزب الديمقراطي هو ملكية لوزارة المالية وليس للحزب.  

2. قرارات السوداني: مع تزايد مظاهر الاحتكاك الأمني في المحافظة فرضت السلطات الأمنية حظر تجوال في المحافظة، ومع تزايد الهدوء النسبي، أصدر رئيس الوزراء العراقي السوداني عدة قرارات تتعلق بالأزمة الراهنة، من بينها رفع قوات الأمن العراقية حظر التجول الذي كان مفروضاً في مدينة كركوك مع الإبقاء على حالة الانتشار الأمني خشية تجدد التصعيد، فضلاً عن إصدار أمر بتأجيل تسليم المقر التابع للجيش العراقي إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، كما دعا السوداني إلى تشكيل لجنة تحقيق بشأن أحداث محافظة كركوك لمحاسبة المقصرين الذين تثبت إدانتهم في هذه الأحداث وتقديمهم إلى العدالة.

3. زيارة وفد عسكري لكركوك: أجرى وفد أمني برئاسة رئيس أركان الجيش العراقي عبد الأمير رشيد يار الله زيارة إلى محافظة كركوك، ويرافقه معاونه للعمليات وقائد القوات البرية للاطلاع على مجمل الأوضاع الأمنية وانتشار القطعات العسكرية، وذلك من أجل تأكيد جاهزية القوات الأمنية لمواجهة أي أعمال عنف قد تشهدها المحافظة خلال الفترة المقبلة.

4. تحذيرات تركية: حذّر أردوغان، من أي ممارسات من شأنها تغيير التركيبة الديمغرافية لمدينة كركوك العراقية، مؤكداً أن كركوك هي مدينة الثقافات المختلفة التي تعيش بسلام، محذراً من زعزعة أمنها ووحدة أراضيها. وقد دعا وزير خارجيته هاكان فيدان ورئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن إلى ضرورة متابعة ملف كركوك عن كثب. وقد أعلن فيدان عن قلق بلاده من التوتر في كركوك، مُحذراً من المساس بحقوق التركمان. 

5. رفض بعض قوى "التنسيقي" التصريحات التركية: لم يعلق على تصريحات أردوغان أي من مسؤولي الحكومة العراقية أو أية جهة رسمية باستثناء الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، الذي يعتبر حالياً شريكاً أساسياً في حكومة السوداني وأحد المدافعين عنها. إذ رفض الخزعلي تدخل أية دولة في قضية كركوك، في إشارة إلى تركيا التي تحدثت عن ضرورة حماية التركمان بعد أحداث كركوك الأخيرة، وقد أكد الخزعلي أن "كركوك عراقية، والتركمان عراقيون، ولا يحق لأية دولة التدخل في شؤوننا الداخلية". بحسب تعبيره.

انعكاسات مُحتملة:

قد توؤل تطورات الأوضاع في محافظة كركوك ذات الخليط العرقي والإثني المتعدد إلى عدد من المسارات والانعكاسات المُستقبلية المُحتملة، وهو ما يمكن إيجازه في النقاط التالية:

1. عودة التوتر والتصعيد: إن استمرار الأوضاع على حالها في محافظة كركوك من دون وجود توافق سياسي ومجتمعي على حل الملفات الخلافية والعالقة في المحافظة، يهيئ الأجواء لعودة التصعيد الأمني والمجتمعي خلال الفترة المُقبلة في المحافظة، ولاسيما وأن التوتر ليس قائماً فقط بين المكون الكردي من جهة والمكون العربي والتركماني من جهة أخرى، فالتوتر كذلك موجود ومتزايد بين الحزبين الكرديين الرئيسيين - الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني - في المحافظة.

2. ورقة انتخابية: مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات المحلية في نهاية العام الجاري، قد تعمل بعض الأحزاب السياسية إلى استغلال الوضع الراهن في المحافظة لأغراض سياسية انتخابية، ولاسيما في إطار استعداد كركوك للمشاركة في الانتخابات المحلية المقرر إجراؤها في 18 ديسمبر 2023، أي أن ما شهدته المحافظة من خلافات واحتكاكات بين مختلف الأطراف السياسية يعد بمثابة تمهيد للتنافس المبكر حول مقاعد المجالس المحلية.

3. تزايد التدخلات الأجنبية: بخلاف التصريحات التركية بشأن أزمة كركوك، فإنه من المرجح أن تتزايد تلك التدخلات، إذا ما استمر التصعيد في المحافظة، والتي يقطنها أربعة مكونات أساسية؛ العرب والأكراد والتركمان والمسيحيون، وما لذلك من امتدادات خارجية، وقد دعت واشنطن إلى تفعيل المادة 140 من الدستور العراقي، الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، وإجراء استفتاء في المحافظة، لتقرير مصيرها، سواءً استمرار الارتباط الإداري مع بغداد، أم التبعية لأربيل. وهو ما يمكن اعتباره تدخلاً في الشأن الداخلي للعراق.

وفي التقدير، يمكن القول إن استمرار الأزمة المتعلقة بمنع تسلم الحزب الديمقراطي الكردستاني لمقراته في كركوك قد يضر بالعملية السياسية برمتها وبالاتفاقات المبرمة بين حكومتي الإقليم والمركز من جهة، وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني وائتلاف إدارة الدولة من جهة أخرى، وهو ما سيلقي بظلاله على مصداقية ومدى قدرة رئيس الوزراء العراقي على الوفاء بالتزاماته ووعوده السابقة، وعلى مجمل سير عملية الانتخابات المحلية في المحافظة من جهة أخرى، وهو ما لا ترغب به العديد من القوى السياسية على مختلف مكوناتها، ولذلك من المتوقع أن يتم الالتفاف على الأزمة الراهنة من خلال المماطلة في تسليم المقرات أو بالبحث عن مقرات بديلة من أجل تهدئة التوترات.