هسبريس:

التنافس المرن .. هل تتجه التجارة العالمية إلى إعادة العولمة في عام 2023؟

11 June 2023


تواجه التجارة العالمية مخاطر وتحديات ناجمة عن الاضطرابات المتلاحقة سواءً الصراع الروسي الأوكراني أو التوترات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين ومن قبلهما جائحة “كوفيد19″، وأدت هذه الاضطرابات إلى تأزم الاقتصاد العالمي من خلال ارتفاع التضخم والأسعار والديون العالمية. وسط هذه الأجواء، اعتبر البعض أن العولمة في سبيلها إلى الاندثار أو الإزالة، لكن الشواهد الاقتصادية تشير إلى استمرارها لكن مع تغير طبيعتها، حيث باتت أكثر اعتماداً على الروابط الإقليمية وتشكيل التكتلات الاقتصادية في القطاعات العامة والاستراتيجية.

في هذا الإطار، تأتي أهمية ورقة السياسات التي قدمتها الباحثة ماريان شنايدر بيتسنجر لمنتدى تشاتام هاوس في يناير 2023، وحملت عنوان “التجارة العالمية في عام 2023: ما الذي يدفع لإعادة العولمة؟”. إذ تدرس القوى الهيكلية التي تشكل التجارة العالمية والعولمة على نطاق أوسع، وتحدد التوقعات المحتملة لاتجاهات التجارة العالمية. وتحاجج الورقة بأن مصطلح “إعادة العولمة” وليس إلغاءها هو أفضل وصف للمرحلة الحالية من الاقتصاد العالمي، خاصة مع حالة التنافس المرن بين القوى الاقتصادية الكبرى الذي يفصل بين التوجهات الاقتصادية والسياسية.

مخاطر وتحديات

ثمة العديد من التحديات المستمرة التي أثَّرت في النمو الاقتصادي العالمي، وحوّلت الكثير من اقتصاديات الدول إلى الركود خلال عام 2023، وهو الأمر الذي أثَّر بدوره أيضاً في التجارة العالمية، ويمكن توضيحها عبر الآتي:

– طرح الصراع الروسي الأوكراني ضغوطات مزدوجة، أثرت – من جهة – على سلاسل الإمداد والتوريد العالمية ومن جهة أخرى خلفت اضطرابات في أسواق الطاقة العالمية، حيث إن التكاليف المرتفعة للطاقة إثر تلك الحرب سوف تستمر وتؤثِّر بشكلٍ كبير في رفع التكاليف على الشركات.

– تبنت الولايات المتحدة في غمار صراعها مع الصين سياسات نقدية أكثر تشدداً أثرت في التجارة العالمية عبر قناتين؛ الأولى، أن ارتفاع أسعار الفائدة – وإن كان بوتيرة أبطأ مما كان عليه في عام 2022 – يؤدي إلى خفض الاقتراض والإنفاق المحلي، وبالتالي الطلب على الواردات، والثانية، أنه مع استمرار بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في تشديد السياسة النقدية، فمن المرجح أن يظل الدولار قوياً في عام 2023 ولكن سيتراجع عن ارتفاعه في 2022. ويرتب وجود الدولار بنحو 40% من صادرات البضائع العالمية آثاراً ضاغطة على البلدان المنخفضة والمتوسطة حيث ستتكبد تكاليف أعلى لواردات الأغذية والأسمدة وهو الأمر الذي يزيد من إجمالي الديون.

– قد تؤدي الإجراءات الصينية في معالجة جائحة “كوفيد19″، ومعالجة تفشي الأمراض المتكررة إلى آثار مضاعفة على شبكات الإنتاج على الصعيد الدولي.

– تواجه القدرة التنافسية الصناعية في العالم قيوداً، ولاسيما مع قانون خفض التضخم الأمريكي الذي ينص على استثمار مبلغ غير مسبوق قدره 369 مليار دولار في جهود المناخ الأمريكي والطاقة النظيفة، وهو ما أثار مخاوف في أوروبا بشأن قدرتها التنافسية الصناعية.

– بالرغم من أن هناك تحليلات تعزو تراجع اضطرابات سلاسل التوريد العالمية في الفترة بين عامي 2020 وحتى الآن إلى معالجة مشكلة ازدحام الموانئ وانخفاض تكاليف الشحن إلى مستويات ما قبل جائحة “كوفيد19″، إلا أن هذه السلاسل – خاصة بالنسبة للسلع الحرجة – عُرضة لاضطرابات محتملة ناجمة عن كوارث طبيعية وإنسانية، وربما تكون أحداث الطقس المتطرفة أكبر تهديد لسلاسل التوريد في عام 2023 والسنوات المقبلة.

تحولات العولمة

مع تحديات الاقتصاد العالمي، تنامى استخدام مصطلحات عامة تُعبِّر عن مسار التحول في التجارة العالمية مثل “إزالة العولمة” و”الانفصال” و”التجزئة الاقتصادية”، وعزز من ذلك الضربات المتلاحقة للعولمة بداية من الأزمة المالية العالمية في عام 2008 مروراً بصعود الشعبوية في الولايات المتحدة وأوروبا وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي عام 2016، وانتهاءً بجائحة “كورونا”، والصراع الروسي الأوكراني. مع ذلك، هنالك العديد من الشواهد التي تؤكد استمرارية العولمة والترابط الاقتصادي العالمي، من أبرزها ما يلي:

– استمرار تدفق الاستثمار والتجارة العابرة للحدود: فعلى الرغم من اضطراب سلاسل الإمداد والتوريد على ضوء الأزمات المختلفة للعولمة، إلا أن هناك مرونة في شبكات الإنتاج والتجارة العالمية، خاصة أن الأخيرة لا تقتصر على تجارة السلع فقط بل تشمل أيضاً التجارة في الخدمات. وبرغم تفوق الأولى على الثانية من حيث القيمة، إلا أن نسبة التجارة في الخدمات كقيمة مضافة للناتج الاقتصادي العالمي استمرت في الارتفاع.

– التطورات التكنولوجية ودعم التجارة العابرة للحدود: حيث ساعدت الوتيرة السريعة للتطورات التكنولوجية على خفض تكاليف النقل والاتصالات، وبالتالي سهَّلت نمو التجارة منذ التسعينيات وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث تشير المقاييس المتعددة للعولمة إلى تدفق الاستثمار والأشخاص والبيانات عبر الحدود.

– التحول من الأطر المتعددة الأطراف إلى الإقليمية/ القطاعية: هناك تحرك لتعميق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة عبر آسيا والمحيط الهادئ الأمر الذي يدعم النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، خاصة أن تلك المنطقة تعد الأسرع نمواً في العالم. من ناحية أخرى، هناك مساعٍ لتعزيز التكامل الإقليمي في إفريقيا عبر بدء إنفاذ منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، مما يفسح المجال لمزيد من التجارة والاستثمار من قِبل أوروبا والولايات المتحدة خاصة في مجال الطاقة الخضراء والتقنيات الرقمية.

– التنافس الأوروبي المرن إزاء الصين: فمن أبرز سمات التجارة والاستثمار الدوليين على مدار العشرين عاماً الماضية، استمرار الصعود الاقتصادي للصين وتكاملها مع الاقتصاد العالمي. وقد تفوقت الصين على الولايات المتحدة، باعتبارها الشريك التجاري الأكثر أهمية للاتحاد الأوروبي في عام 2020، وهو العامل الذي يُعزز استمرارية تفاعل أوروبا معها. فبرغم الانحياز السياسي الأوروبي للولايات المتحدة في صراعها مع الصين، إلا أنها حافظت على استمرار التجارة مع الصين في مسعى للتوازن بين توجهاتها السياسية والاقتصادية.

يعكس هذا النهج الأوربي نوعاً من التنافس العالمي المرن إزاء الصين، على الرغم من المخاوف بشأن تكتيكات بكين للإكراه العسكري والاقتصادي. ومثل هذا النهج سواءً للولايات المتحدة أو أوروبا أو الشركاء الآخرين هو أفضل طريقة للانخراط مع الصين في التجارة العالمية، على الرغم من الاختلاف الجيوسياسي معها، ذلك أن مستقبل نظام التجارة العالمي لا يتعلق بالتقارب بل بالتعايش.

الاقتصاديات الخضراء والرقمية

يُعد السعي لتعزيز التجارة الرقمية من أبرز متغيرات الاقتصاد العالمي في عام 2023، خاصة في ضوء التوترات التي اندلعت عبر الأطلسي، بشأن قانون خفض التضخم الأمريكي الذي وقَّعه الرئيس جو بايدن في أغسطس 2022، حيث تتركز هذه التوترات على مخاوف (الاتحاد الأوروبي، المملكة المتحدة، اليابان، كوريا الجنوبية) بشأن الإعفاءات الضريبية الأمريكية التي تُعد من وجهة نظر تلك الدول غير عادلة وتمييزية. وأنتج هذا المسار تصدعاً بين الولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية التي هددت بعرض النزاع على منظمة التجارة العالمية، وأعلنت عن خطة صناعية للصفقة الخضراء تتضمن تكييفاً مؤقتاً واستجابة للإعانات الأمريكية.

مع ذلك، يبقي ملف المناخ حيزاً للتعاون بين الدول المتقدمة والنامية، في إطار تدشين “نادي المناخ” الذي اكتسب زخماً عام 2022، عندما وظّفت ألمانيا رئاستها لمجموعة السبع الصناعية لاقتراح إنشاء تحالف من البلدان الملتزمة باتخاذ إجراءات أقوى بشأن تغير المناخ. وعلى الرغم من تفاوت الاهتمام بهذا الملف، فإن دعم أمن الطاقة يُعد النقطة المحورية لمعالجة مخاطر البيئة عبر التكامل الدولي والمؤسساتي.

وفي هذا الشأن، تُعد منظمة التجارة العالمية منتدى رئيسياً للمضي قدماً في المناقشات حول الصِلة بين التجارة والاستدامة، حيث أطلقت ثلاث مبادرات بيئية منفصلة في عام 2021 لإحراز تقدم بشأن التلوث البلاستيكي، وإصلاح دعم الوقود الأحفوري، والاستدامة البيئية.

إلا أن التعاون المناخي بات هو الآخر يستخدم في الحرب التجارية الأمريكية الصينية، فبرغم التعهد الأوروبي والأمريكي بإنشاء سلاسل توريد آمنة لأشباه الموصلات، إلا أن ثمة خلافات تتعلق بجهود إدارة بايدن لجعل الحكومات الأوروبية تتماشى مع الضوابط الأمريكية على صادرات تكنولوجيا أشباه الموصلات إلى الصين.

من جانب آخر، ثمة تطورات أساسية في الأسواق الرقمية الأوروبية، منها دخول قوانين الخدمات الرقمية والأسواق الرقمية الأوروبية حيز التنفيذ في نوفمبر 2022، إضافة إلى المقترحات المتعلقة بقانون الذكاء الاصطناعي. وستؤدي هذه القوانين إلى تعزيز السيادة الرقمية الأوروبية وتعزيز النمو الشامل والمستدام للاقتصاد الرقمي مع منع المزيد من تجزئة السياسة الرقمية. لذا، من المتوقع أن يشهد عام 2023 وما بعده تقدماً في تحديث قواعد التجارة لمعالجة التغيير التكنولوجي خارج الهياكل التقليدية لمنظمة التجارة العالمية.

ويظل أن التعاون الدولي لبناء نظام تجاري أكثر شمولاً واستدامة ومرونة هو السبيل لدفع نمو الاقتصاد العالمي، في وقت تكون فيه العديد من البلدان في حالة ركود اقتصادي. ولعل العامل الرئيسي المحدد لمستقبل التجارة الدولية والاقتصاد العالمي سيرتبط بمدى نجاح الصين في تجاوز سياسة الإجراءات والتدابير الاحترازية الناجمة عن جائحة “كورونا” والتوجه نحو إعادة الانفتاح الاقتصادي للبلاد.

ختاماً، فمع تعددية تحديات الاقتصاد العالمي، فمن المرجح أن يشهد عام 2023 استمراراً لعدة تحولات رئيسية في التجارة العالمية، أولها، الارتباط بين الأمن القومي والاقتصاد، وثانيها، الجهود المبذولة لإعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية عبر إعطاء الأولوية لتحويلها من التبعية إلى التنويع. وثالثها، عدم تراجع العولمة وإنما تغير طبيعتها من خلال تأكيد روابط إقليمية أكبر وتشكيل تكتلات لقطاعات اقتصادية حساسة، ورابعاً وأخيراً أن الانفصال الكامل عن الصين ليس قابلاً للتحقيق ولا مرغوباً فيه لمجموعة الدول السبع والدول ذات التفكير المماثل.

*رابط المقال في هسبريس*