التطرف الهجين:

مخاطر تداخل بوكو حرام والجريمة المنظمة في شمال الكاميرون

26 January 2023


عرض: دينا محمود 

قبل امتداد جماعة "بوكو حرام" الإرهابية من شمال شرق نيجيريا إلى أقصى شمال الكاميرون في العام 2013، عانت المنطقة من مشكلات أمنية عديدة، لاسيما الصراعات القبلية وانتشار الجرائم المحلية. مع بروز هذه الجماعة الإرهابية في المنطقة، تداخلت الخطوط الفاصلة بين الإرهاب والجريمة المنظمة، بل إن الجرائم المحلية زادت في المدن، خاصة مع تركيز قوات الأمن الكاميرونية على مكافحة بوكو حرام، وبالتالي بات التطرف كظاهرة ذا طبيعة هجينة، مما يعقد مواجهتها.

في هذا السياق، تسعى دراسة صادرة مؤخراً عن "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" (IFRI) للباحث "موسى بوبو" إلى تحليل التداعيات الأمنية لانتشار جماعة "بوكو حرام" في شمال الكاميرون، من خلال إظهار كيف أدت التفاعلات المعقدة بين هذه الجماعة وبيئة الجريمة المنظمة إلى إخفاء المشكلات الأمنية الأخرى التي تتعمق بصمت في هذه المنطقة، وتستند الدراسة إلى بحث ميداني تم إجراؤه لأربع سنوات في أقصى شمال الكاميرون.

تحديات ما قبل الإرهاب:

تشهد منطقة شمال الكاميرون تصاعداً ملحوظاً في وتيرة الصراعات العنيفة منذ عام 2013، وهو ما يُعزى بشكلٍ أساسي إلى جماعة "بوكو حرام"، والتي يعود أصلها ومركزها في شمال شرق نيجيريا، ولاية بورنو، المتاخمة لأربع دول هي: نيجيريا، الكاميرون، تشاد، النيجر. إذ تعد هذه المنطقة الحدودية تاريخياً مفترق طرق للشعوب ومنطقة تجارة مكثفة في حوض بحيرة تشاد. نتيجة لذلك، أصبحت المنطقة واحدة من مناطق الإرهاب مع تسلل بوكو حرام إليها. لكن تجدر الإشارة إلى أنه قبل بدء النزاع مع هذه الجماعة الإرهابية، كان أقصى شمال الكاميرون يواجه العديد من التحديات الأمنية، التي يمكن طرحها على النحو التالي:

1) قطع الطرق: كان من المعتاد في المجتمعات الريفية في حوض بحيرة تشاد أن تنظم القبائل هجمات للتعويض عن سوء إنتاجية المحاصيل، وألهمت هذه الممارسات العديد من المراهقين الذين يبحثون عن وسائل للبقاء في بيئة صعبة، كما غذَّت أعمال اللصوصية الريفية التي انفجرت مع قطاع الطرق الذين يطلق عليهم محلياً الزاراغويناس Zaraguinas، مع مطلع القرنين العشرين والحادي والعشرين، أصبح النشاط الإجرامي الذي تقوم به العصابات أكثر احترافاً وشارك فيه أشخاص من جنسيات مختلفة يعملون على حدود ولايات حوض بحيرة تشاد، كما ساعد تداول الأسلحة غير المراقب وغير القانوني في تسليح قطاع الطرق الذين كانوا يعملون في السابق بالأسلحة التقليدية.

2) التجارة غير المشروعة: تعبر التدفقات الاقتصادية الإقليمية غير المشروعة من خلال منطقة شمال الكاميرون، حيث تنتشر تجارة العظام البشرية تحت أسماء منتجات مختلفة، كـ"الزئبق الأحمر"، و"الخشب الأبيض" بأسعار تصل إلى ملايين الفرنكات الأفريقية. كما تعد منطقة حوض بحيرة تشاد من أسهل الأماكن في العالم لشراء السلاح، فقد وصلت الأسلحة التي تستخدمها حركة "تحرير دلتا النيجر"(MEND) ، والجماعات المتحالفة معها إلى نيجيريا عبر محور تشاد والكاميرون. بالإضافة إلى ذلك، تعد المنطقة نقطة تهريب للمستحضرات الصيدلانية المقلدة، إذ تعتبر نيجيريا البوابة الرئيسية للأدوية المقلدة في أفريقيا، فضلاً عن انتشار الإتجار بالمخدرات في المنطقة، حيث مر ما بين 5 و10 أطنان من الكوكايين ومئات الكيلوجرامات من الهيروين عبر الشمال الكاميروني خلال الفترة من 2006 إلى 2013.

3) النزاعات القبلية: تشهد منطقة شمال الكاميرون، لا سيما مقاطعات (مايو - تساناغا- كاني ولوجون وشاري) سلسلة من الاشتباكات بين المجتمعات المحلية منذ بداية التسعينيات، وقد ساهم انعدام الأمن في المناطق الريفية في تسليح الجماعات العرقية تدريجياً. وكانت الخلافات المتعلقة بالأراضي على رأس ملفات النزاعات، منذ موجة الجفاف في السبعينيات. وبينما كان يُنظر لحوض بحيرة تشاد على أنه منطقة غنية بالموارد، لكنه أصبح منطقة صراعات مفتوحة بين المجتمعات المحلية بسبب الندرة التدريجية للأراضي المفيدة، مما فاقم التوترات بين المجموعات العرقية، لا سيما في الأراضي الرطبة ذات الإمكانات الزراعية العالية، على خلفية الكثافة الديموغرافية المتزايدة.

بزوغ إرهابيي بوكو حرام:

ظهرت "بوكو حرام"، في البداية، كجماعة اجتماعية دينية في نيجيريا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم تحولت إلى العمل السري، وممارسة العنف منذ عام 2009، إذ امتدت المواجهة بين نيجيريا وهذه الجماعة في النهاية إلى أقصى شمال الكاميرون، الذي يجاور ولاية "بورنو" النيجيرية. وتشترك منطقة شمال الكاميرون مع سكان شمال شرق نيجيريا في السمات الثقافية (اللغة، الدين) والأنشطة الاقتصادية، كما أنها واحدة من أفقر مناطق الكاميرون، إذ يوجد بها أدنى معدل للالتحاق بالمدارس (20,53٪) وأعلى معدل للخصوبة (5,9 أطفال لكل امرأة)، وقد استغلت بوكو حرام حالة التكامل الوطني الضعيف والإهمال التنموي والتاريخي في أقصى الشمال الكاميروني لجعل هذه المنطقة قاعدة لوجستية ومخزن تجنيد وإمداد للحركة.

 وبدأت العمليات الهجومية الأولى لبوكو حرام في أقصى الشمال الكاميروني في عام 2013، ومنذ ذلك الحين، مرَّت أعمال هذه الجماعة الإرهابية بثلاث مراحل. أولها في الفترة ما بين مايو 2013 ويونيو 2015، حيث اتسمت بعمليات الاختطاف للسكان كما هاجمت الجماعة مواقع القوات الكاميرونية في المنطقة. فيما تضمنت المرحلة الثانية، من يونيو 2015 إلى أبريل 2016، أساليب قتالية هجينة وغير متماثلة للإرهابيين، حيث تعرضت بوكو حرام -التي صدتها جهود جيوش الكاميرون ونيجيريا وتشاد والنيجر- لخسائر فادحة حرمتها من بعض الأراضي التي تسيطر عليها وكذلك من القدرة على شن هجمات منسقة وتقليدية كما فعلت في البداية، ثم اختارت الجماعة أساليب قتالية غير متماثلة، كالهجمات الانتحارية والمذابح ضد السكان واستخدام العبوات الناسفة، حيث تعرضت مدينة ماروا، العاصمة الإقليمية لأقصى الشمال الكاميروني لهجمات انتحارية في يوليو 2015، إلا أن هجمات الجماعة انخفضت حِدتها في هذه الفترة مقارنة بهجماتها الأولى التي حشدت فيها مئات المقاتلين مجهزين بمدرعات وقذائف هاون.

أخيراً، تتسم المرحلة الثالثة الراهنة منذ عام 2016 وحتى الآن بممارسات متفرقة، فلم يعد بإمكان بوكو حرام، التي ضعفت إلى حدٍ كبير، تنفيذ هجمات منسقة واسعة النطاق لاسيما مع انقسام الجماعة إلى فصيلين متنافسين الأول هو الأكثر تطرفاً، ويقوده "أبو بكر شيكاو" حتى مقتله في يونيو 2021 والآن بقيادة "باكورا مودو"، فيما يقود الفصيل الآخر "أبو مصعب البرناوي"، والذي تمكن من حشد دعم محلي واسع.

انعكاسات خطرة: 

أدى نزاع بوكو حرام إلى تضخيم وإخفاء الأنشطة الإجرامية الموجودة مسبقاً في شمال الكاميرون، ناهيك عن الصراعات العرقية القائمة بالفعل في هذه المنطقة. تنطوي فكرة "التضخيم" على تطوير التبادلات بين الجماعة الإرهابية والأوساط الإجرامية المحلية، فيما يشير "الإخفاء" إلى تشتيت اهتمام السلطات الكاميرونية، ودفعها للتركيز على محاربة بوكو حرام على حساب المشاكل الأمنية الأخرى التي تزداد تفاقماً، ومن أبرز انعكاسات تداخل الإرهاب والجريمة في شمال الكاميرون ما يلي:

1) إعادة تنشيط التجارة غير المشروعة: فمن أجل الحصول على الإمدادات وتمويل نفسها، تتفاعل بوكو حرام مع قُطاع الطرق والتجار المحليين المنخرطين في أنشطة غير مشروعة، وقد مكنت العديد من الجماعات الإجرامية من إعادة تشكيل وتكثيف أنشطتها، ومن هنا، أصبحت سرقة الماشية أحد مصادر تمويل أنشطة بوكو حرام، إذ سُرق ما يقرب من 30 ألف ثور في المنطقة منذ عام 2014 حتى اليوم. 

2) تنامي وتيرة عمليات التهريب: بسبب انعدام الأمن الذي تسببت فيه جماعة بوكو حرام، استعاد التهريب حيويته في شمال الكاميرون، حيث مهَّد الصراع بين قوات الأمن والجماعة الطريق أمام المهربين في هذه المنطقة، والذين أعادوا هيكلة شبكاتهم الاجرامية. كذلك، تصاعد تهريب الكوكايين والترامادول، فوفقاً لإحصاءات قوات الأمن والدفاع الكاميرونية، فقد مر أكثر من طنين من الكوكايين عبر المنطقة بين عامي 2014 و2017، فيما تمكنت قوات الأمن الوطني، منذ عام 2016، من ضبط ما يقرب من 1200 كيلوجرام من القنب، و5000 قرص من الترامادول، واعتقال حوالي عشرين مهرباً.

3) توظيف بوكو حرام للجريمة المنظمة: تعد العلاقة بين بوكو حرام والجريمة المنظمة في أقصى الشمال الكاميروني معقدة. فمن ناحية، ولأغراض لوجستية لا علاقة لها بأيديولوجيتهم الدينية، يسهم مقاتلو الجماعة في أعمال اللصوصية المحلية من خلال الانغماس في سرقة الماشية ونهبها. من ناحية أخرى، يحافظ مقاتلو بوكو حرام على علاقات مع خبراء الجريمة المحليين، على غرار سارقي الماشية والمهربين، ويقومون بتدريب الفاعلين المحليين في نظامهم اللوجستي. واعتمدت بوكو حرام على الجماعات الإجرامية الموجودة بالفعل في أقصى شمال الكاميرون لتعزيز نفوذها في الإقليم، ومن ثم تحويل بعض قادة هذه الجماعات الإجرامية إلى مساعدين لها في مناطق معينة على طول الحدود بين الكاميرون ونيجيريا.

4) طمس الخط الفاصل بين الإرهاب والإجرام: تؤدي التفاعلات بين بوكو حرام والدوائر الإجرامية المحلية إلى طمس الخط الفاصل بين الجريمة المنظمة والإرهاب، إذ يتم استيعاب مجموعات قُطاع الطرق الريفيين المستقلين في القرى الحدودية في ميليشيات بوكو حرام في شمال الكاميرون. ومن ثم، تظهر هذه الجماعة الإرهابية على أنها مظلة تتضمن ثلاث مجموعات على الأقل: المقاتلون الحقيقيون للحركة، وشركاؤها الظرفيون (المقاولون من الباطن الإجراميون)، وقُطاع الطرق المستقلون الذين تم استيعابهم.

5) انتشار الجريمة في المدن: أدى صراع بوكو حرام إلى عودة ظهور الجريمة الحضرية في شمال الكاميرون، لاسيما مع تركيز قوات الأمن على محاربة الإرهاب على حساب المهمة العادية لمكافحة انعدام الأمن. فعلى سبيل المثال، أصبحت سرقة الدراجات النارية، المصحوبة أحياناً بقتل السائقين، جريمة متكررة في أحياء ماروا في شمال الكاميرون، فوفقاً لإحصاءات الشرطة، من 2015 إلى 2021، كان هناك أكثر من 50 جريمة قتل مرتبطة بسرقة الدراجات النارية في مروى.

6) تجدد الصراعات القبلية: منذ صراع بوكو حرام، باتت مقاطعة لوغون وشاري في منطقة أقصى الشمال الكاميرون مسرحاً للاشتباكات بين المجتمعات المحلية خاصة بين عرب "تشوا" و"كوتوكو" من ناحية، و"موسجوم/ ماسا" من ناحية أخرى. تعود جذور الاشتباكات إلى صراعات على السلطة المحلية والتي لم تتوقف أبداً وإن كان يتم احتوائها من قبل قوات الدفاع والأمن الكاميرونية. مع ذلك، فنظراً لتركيز الاهتمام الأمني على بوكو حرام، فإن هذا النوع من الصراعات يكون مخفياً بشكل عام ولا يجد سوى صدى محلياً.

ختاماً، تستنج الدراسة انعكاسات خطرة لتمدد بوكو حرام في شمال الكاميرون، فمن ناحية، أدى هذا الصراع إلى تهيئة بيئة مواتية لشبكات الإجرام التي أعادت هيكلة وتنظيم أنشطتها تحت راية بوكو حرام و/أو في ظلها، من ناحية أخرى، يشكل الهيكل الغامض لـ"بوكو حرام"، والذي تندمج فيها الجماعات الإجرامية مشكلة خطيرة للبرنامج الكاميروني لمكافحة التطرف.

المصدر:

Moussa Bobbo, Boko Haram dans la région de l’extrême-Nord du Cameroun: L’arbre qui cache la forêt, Ifri, 2022.