استيعاب الخلافات :

تحرك باريس لتجاوز الخلافات مع المغرب لحماية المصالح الفرنسية

10 November 2022


نشرت تقارير غربية ملامح المكالمة الهاتفية، غير المعلنة، التي أجراها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مع ملك المغرب، محمد السادس، في مطلع نوفمبر 2022، حيث لفتت هذه التقارير أن المكالمة تأتي في إطار التحركات الفرنسية الراهنة لتهدئة التوترات القائمة بين باريس والرباط في الآونة الأخيرة.

تحركات فرنسية لافتة: 

شهدت الأونة الأخيرة تحركات فرنسية ملحوظة لتقليص التوتر مع المغرب، والعمل على تعزيز التعاون المشترك، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- اتصال سري لاستيعاب الخلافات: نشرت مجلة "أفريكا أنتلجنس" الفرنسية تقريراً، في 3 نوفمبر الجاري، كشفت خلاله عن مضمون المكالمة السرية التي أجراها ماكرون مع محمد السادس مطلع الشهر ذاته، حيث لفت التقرير إلى أن المحادثات ارتكزت بالأساس على مساعي تهدئة التوترات بين الجانبن، في أول اتصال مباشر بين قائدي البلدين منذ بداية الخلافات بينهما قبل نحو عام.

وشهدت العلاقات بين باريس والرباط توترات متصاعدة، منذ سبتمبر 2021، بسبب تقليص باريس التأشيرات الممنوحة للمغاربة إلى النصف، فضلاً عن تطلعات المغرب للحصول على دعم فرنسي لموقفها بشأن الصحراء المغربية، في مواجهة الموقف الجزائري الداعم لاستقلالها، بينما تتمسك باريس بموقفها القائم على الالتزام بقرارات الأمم المتحدة القاضية بحق الصحراء المغربية في تقرير مصيرها، وهو موقف يتوافق بصورة أكبر مع السياسة الجزائرية حول هذا الملف. 

2- زيارة وفد برلماني فرنسي للمغرب: قام وفد من البرلمان الفرنسي، بقيادة نائب رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، فانسان دولاهاي، بزيارة إلى المغرب، في 6 نوفمبر الجاري، والتقى برئيس مجموعة الصداقة البرلمانية الفرنسية – المغربية بمجلس النواب المغربي، الحبيب المالكي، حيث تم بحث سبل تعزيز التعاون المشتركة، ودعا الوفد الفرنسي إلى ضرورة حلحلة أزمة التأشيرات عبر إيجاد طرق مقبولة تخدم مصالح الجميع.

3- دعم تمديد ولاية بعثة "مينورسو": صوتت فرنسا لصالح تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة إلى الصحراء "مينورسو" عاماً إضافياً حتى نهاية أكتوبر 2023، وذلك من خلال دعم قرار "2654" المقدم من قبل الولايات المتحدة لمجلس الأمن الدولي، حيث صوتت فرنسا لصالح القرار إلى جانب 12 دولة أخرى، بينما أمتنعت كل من روسيا وكينيا عن التصويت. 

ويعد تأييد فرنسا لتمديد ولاية البعثة الأممية دعماً دبلوماسياً ضمنياً لموقف المغرب وإقراراً بالوضع القائم، في ظل الدعوات المتكررة لجبهة البوليساريو بإنهاء مهام المينورسو، فضلاً عما تعكسه هذه الخطوة من اهتمام باريس بألا تتحول التوترات مع المغرب إلى قطيعة.

4- تنسيق عسكري وأمني مشترك: شهدت الفترة الأخيرة استمراراً للتعاون والتنسيق الأمني والعسكري بين المغرب وفرنسا، حيث شاركت عناصر من القوات المغربية، في أكتوبر 2022، في مناورة عسكرية مشتركة، في جبال "أوكايمدن" بإقليم الحوز، مع الكتيبة 13 بالجيش الفرنسي. كما شاركت القوات البحرية المغربية، والسنغالية، في مناورات أخرى بأحد القواعد الفرنسية.

وفي إطار التعاون الأمني بين البلدين، شهدت الفترة الأخيرة تنسيقاً مشتركاً بين باريس والرباط في عدة قضايا أمنية، أبرزها قضية الأمام المغربي، حسن إيكويسين، الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف أوروبية، حيث أعلن وزير الداخلية بأنه يجري التنسيق مع الرباط في هذا الأمر، كما أعلنت المغرب توقيف الجواز القنصلي الذي كان قد تم إصداره لإيكويسين، تمهيداً لطرده من فرنسا.

دوافع متعددة:

عكست المباحثات المطولة التي أجراها ماكرون مع محمد السادس، والتي تجاوزت النصف ساعة، وجود دوافع متعددة ربما تفسر أسباب التحركات الفرنسية الراهنة لحلحلة الخلافات مع الرباط، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- إنهاء التصعيد الدبلوماسي الراهن: شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعداً في وتيرة التوترات بين الرباط وباريس. وبدأ هذا التصعيد، في 24 أكتوبر، حينما نشر أحد المعارض التجارية في مدينة مونبولييه الفرنسية خريطة للعالم، تضمنت اقتطاع الصحراء المغربية من حدود المغرب، وهو ما أثار حفيظة الرباط.

وجاء هذا التصعيد بعد أيام قليلة من تعيين المغرب سفيرها في باريس، محمد بن شعبون، في منصب مدير عام صندوق "محمد السادس للاستثمار"، تاركةً منصب السفير المغربي لدى فرنسا شاغراً، وهو ما اعتبرته الأخيرة بمنزلة سحب الرباط سفيرها من باريس. وأتى هذا الإجراء رداً على تعيين باريس سفيرها في الرباط في منصب دبلوماسي جديد بالاتحاد الاوروبي، فيما لا يزال منصب السفير الفرنسي في المغرب شاغراً أيضاً حتى الآن.

2- تسوية الخلافات حول الطاقة: عمدت شركة "توتال إنرجيز" الفرنسية، في أكتوبر 2022، إلى نقل مخزون الوقود المخصص للمغرب إلى السوق الفرنسي لسد النقص الحاد في المحروقات التي تعانيه باريس حالياً، سواء بسبب الإضراب الذي استمر لعدة أيام في مصافي النفط الخاصة بشركتي "توتال انيرجيز" و"إيكسون موبيل"، أو بسبب الارتفاع الحاد في وتيرة الطلب على محطات الوقود الخاصة بشركة "توتال انيرجيز" خلال الفترة الأخيرة، بسبب الخصم الذي قدمته الشركة منذ مطلع سبتمبر الماضي، بنحو 50% لكل لتر من الوقود، مما دفع عدة محطات تابعة للشركة للإغلاق، بسبب نفاد مخزونها. وأفرزت هذه الخطوة من قبل الشركة الفرنسية أزمة وقود متفاقمة في الداخل المغربي، لا سيما في الدار البيضاء.

3- تنسيق التحركات في العمق الأفريقي: تصاعدت وتيرة الحضور المغربي في القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة، لاسيما غرب القارة، حيث باتت الاستثمارات المغربية في أفريقيا تصل إلى قرابة نصف إجمالي الاستثمارات المغربية في الخارج، وهو ما يتزامن مع تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، واتجاه باريس لتقليل الانخراط العسكري المباشر. ولذلك قد تسعى فرنسا لتنسيق تحركاتها في غرب أفريقيا مع المغرب، في ظل النفوذ المتنامي للأخيرة هناك.

4- قلق باريس على مصالحها في المغرب: هناك قلق فرنسي من احتمالية أن تؤثر التوترات في علاقة البلدين على مصالح باريس الاقتصادية في المغرب، خاصةً في ظل التقارب الملحوظ بين الرباط وواشنطن، وهو ما أثار قلق باريس، والتي تنظر للنفوذ الأمريكي والأوروبي، لاسيما الألماني، في الرباط باعتباره تهديداً لمصالحها هناك. 

وربما يدعم هذا الطرح تحول الولايات المتحدة في 2022 كأكبر مستثمر أجنبي في المغرب، متجاوزة فرنسا التي ظلت خلال العقد الماضي تحتل المركز الأول. ووفقاً لبيانات مكتب الرقابة على التجارة الخارجية في المغرب، استقبلت الرباط حوالي 578 مليون دولار كاستثمارات أجنبية من الولايات المتحدة خلال النصف الأول من 2022، مقابل 513.7 مليون دولار من فرنسا. كما أشارت بعض التقارير إلى أن الأسابيع الأخيرة شهدت خروج بعض الشركات الفرنسية من السوق المغربي، على غرار شركتي "ليديك" و"سنطرال دانون".

5- تعزيز التعاون في الطاقة الخضراء: يبذل المغرب جهوداً حثيثة للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة الخضراء، وتعول باريس عليها كثيراً في هذا المجال، ولعل هذا ما انعكس في المؤتمر الذي كان عقده "البنك الاستثماري الوطني الفرنسي" (بي بي آي فرانس) و"الغرفة الفرنسية للتجارة والصناعة" و"الوكالة الفرنسية للتحول البيئي" بالمغرب في نهاية فبراير الماضي، والذي تضمن بحث سبل تعزيز التعاون المشترك بين باريس والرباط في الطاقة الخضراء، والتمهيد لانخراط نحو 16 شركة فرنسية للاستثمار في هذا المجال.

6- تشكيل تكتل مشترك في الملف الليبي: تسعى باريس لتشكيل تكتل إقليمي داعم لحكومة باشاغا وقوى الشرق الليبي، لموازنة دعم أنقرة لحكومة الدبيبة، وتقوم باريس بالتنسيق مع المغرب حول هذا الملف، خاصة بعد استضافة الرباط اجتماع رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة، خالد المشري، والذي تمخضت عنه توافقات مهمة بين الطرفين. وتتسق مع هذا الطرح التقارير التي ألمحت إلى وجود ترتيبات يجري التشاور بشأنها بين الفواعل الإقليمية والدولية تتعلق بمسارات المشهد الليبي.

ارتدادات محتملة:

هناك جملة من الانعكاسات المحتملة التي قد تتمخض عن التحركات الفرنسية الراهنة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:

1- زيارة مرتقبة لماكرون: ألمحت تقديرات إلى أن ماكرون عبّر عن رغبته في زيارة الرباط خلال الاتصال الهاتفي الأخير مع الملك محمد السادس. ويمكن أن تشكل هذه الزيارة خطوة مهمة نحو تسوية الخلافات بين البلدين، خاصةً بعدما ألغى ماكرون زيارته السابقة إلى المغرب، والتي كانت مقررة في أكتوبر 2022، في ظل تصاعد التوترات بين البلدين.

2- تمسك فرنسي بحيادها: ألتزمت فرنسا سياسة الحياد الإيجابي إزاء ملف الصحراء المغربية، وهو الموقف ذاته الذي لا تزال باريس تتمسك به، بيد أن هذا الحياد بات غير كافٍ بالنسبة للرباط، حيث أعلن ملك المغرب، محمد السادس، مؤخراً أن قضية الصحراء تشكل المعيار الحاسم الذي يحدد علاقات وشراكات المغرب الخارجية، في تحول لافت للموقف والخطاب المغربي، الذي بات يتسم بدرجة ملحوظة من الحسم والحدة في هذه القضية، وذلك منذ اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء المغربية. لذا، بينما تسعى الرباط للضغط من أجل تغيير موقف باريس في هذا الملف، على غرار الموقف الإسباني، بيد أنه من المستبعد أن تلجأ باريس إلى العدول عن حيادها في هذا الملف.

3-  تحركات فرنسية لتسوية أزمة التأشيرات: يرجح أن تشهد الفترة المقبلة تحركات فرنسية لحلحلة ملف التأشيرات مع المغرب، وهو ما انعكس في تصريحات الوفد البرلماني الفرنسي أثناء زيارته الأخيرة للرباط، فضلاً عن تلويح وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين، إلى أنه يجري حالياً العمل على تسوية هذا الملف.

وفي الختام، تأتي التحركات الفرنسية الراهنة لتسوية التوترات مع المغرب في إطار استراتيجية ماكرون، والتي تستند إلى محاولة تعزيز نفوذ باريس إقليمياً ودولياً، بما يتجاوز الملفات الخلافية القائمة، والدفع نحو تغليب المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لفرنسا. ويبدو أن باريس تسعى لمواءمة علاقاتها بالمغرب والجزائر بما يعظم من مكتسباتها ويزيد من نفوذها في شمال وغرب أفريقيا، بيد أن نجاح هذه المواءمة لا يزال محل شك.