زلزال سياسي:

نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية.. هل اقترب تصدع "الجمهورية"؟

21 June 2022


على الرغم من أن حملة الانتخابات التشريعية في فرنسا شهدت مبارزة حادة بين مشروعين متناقضين، أحدهما المشروع المُلتف حول الرئيس إيمانويل ماكرون لتأمين أغلبية نيابية له تحت تحالف عنوان "معاً" Ensemble، والآخر مشروع قوى اليسار المُلتف حول جان لوك ميلنشون تحت عنوان Nupes؛ بيد أن نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية التي جرت في 19 يونيو 2022 أفرزت وبشكل واضح قوة أساسية ثالثة تُضاف إلى هاتين القوتين، وهي حزب التجمع الوطني RN الذي يُصنف تحت خانة أقصى اليمين، ويترأسه مارين لوبان.


تحليل النتائج:

أفضت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية إلى عدم حصول القوى الداعمة لرئيس الجمهورية، ماكرون، على "الأغلبية المُطلقة"، وأيضاً عدم تمكن المعارضة من فرض "المساكنة" التي كانت تطمح لها. ويمكن الوقوف على أبرز ما كشفت عنه هذه النتائج في النقاط التالية:

1- خسارة الرئيس ماكرون لـ "الأغلبية المُطلقة": أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية خسارة الرئيس الفرنسي، ماكرون، لـ "الأغلبية المُطلقة" داخل البرلمان والمُحددة بـ 289 مقعداً (كان يمتلك أغلبية من 354 مقعداً في انتخابات عام 2017)، حيث حاز تحالف "معاً" Ensemble المُدعوم من ماكرون في انتخابات يونيو 2022 على 245 مقعداً فقط، ويكون بذلك قد خسر هدفه الأساسي من هذه الانتخابات، وهو امتلاك القدرة على تمرير مشاريع القوانين التي تمثل الإصلاحات التي أوردها ماكرون في برنامجه الانتخابي والتي كان يعتزم القيام بها خلال ولايته الرئاسية الثانية. 

وعلى الرغم من تصدر تحالف "معاً" وحيازته الأغلبية النسبية، فإنه بحاجة إلى 44 صوتاً إضافياً لتخطي عتبة "الأغلبية المُطلقة"؛ مما يعني حاجته للاستعانة بقوى سياسية أخرى داخل البرلمان الفرنسي (كجزء من نواب حزب الجمهوريين المُحافظ مثلاً)، مع ما يصاحب ذلك من تقديم تنازلات أو عقد تسويات مع هذه الأطراف.

وكانت فرنسا قد شهدت مثل هذه الحالة في عام 1988 إبان حكم الرئيس الأسبق، فرنسوا ميتران، حين حصل حينها الحزب الاشتراكي PS على "الأغلبية النسبية"، وكان بحاجة إلى حوالي 14 مقعداً للوصول إلى "الأغلبية المطلقة"؛ مما اضطر رئيس الوزراء آنذاك، ميشار روكار، إلى الاستعانة بكتلة الحزب الشيوعي أو بعض النواب الوسطيين لتمرير القوانين. ولكن حالة انتخابات 2022 تبدو أكثر تعقيداً، لأن العدد المطلوب لـ "الأغلبية المُطلقة" أكبر بكثير، وهو ربما يتطلب تكوين ائتلاف حكومي على الطريقة الألمانية مع "بيان وزاري" أو "ورقة تفاهم" تُرضي أطراف هذا التحالف.

وتجدر الإشارة إلى أنها المرة الأولى منذ تحديد مدة ولاية رئاسة الجمهورية في فرنسا بـ 5 سنوات (أي منذ عام 2002)، لا يحصل فيها الرئيس المُنتخب على "الأغلبية المُطلقة"، مما يُعد إخفاقاً كبيراً للرئيس ماكرون.

2- "ميلنشون" المُعارض الأول: على الرغم من عدم نجاح جان لوك ميلنشون في فرض "المساكنة" على الرئيس ماكرون، وعدم حصوله على منصب رئيس الوزراء؛ فإنه في المقابل نجح في أن يكون قائد المُعارضة الأول مع حصول تحالفه الاتحاد الشعبي البيئي الاجتماعي الجديد "Nupes" على 131 مقعداً (يُضاف إليها 22 مقعداً لليسار غير المنضوي في هذا التحالف)، ونجح كذلك في تخطي عدد مقاعد منافسة ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مارين لوبان.

كما يُسجل لميلنشون أنه استطاع توحيد قوى اليسار المُفككة حول مشروعه، بالإضافة إلى توسيع كتلة حزبه بما يقارب الأربعة أضعاف (76 مقعداً لحزب "فرنسا غير الخاضعة" في انتخابات 2022 مقابل 17 مقعداً فقط في انتخابات 2017). وبالتالي فإن هذه الكتلة الوازنة من نواب اليسار ستسمح لميلنشون بلعب دور المُعرقل والمُراقب داخل الجمعية الوطنية (البرلمان)، مع نشر جو من الندية والتحدي عند مناقشة القوانين، علاوة على نقل أجواء احتجاجات الشارع إلى داخل البرلمان. كذلك سيُسجل لميلنشون، غداة إخفاقه للمرة الثالثة في انتخابات الرئاسة ومع بلوغه سن السبعين، أنه كان له الفضل في إدخال مجموعة واسعة من الشباب الناشطين إلى البرلمان، والذين من البديهي أن يتبنوا مشروعه السياسي.

3- اختراق تاريخي لليمين المتطرف: تمثلت المفاجأة في نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية، في حصول حزب التجمع الوطني RN، برئاسة مارين لوبان، على 89 مقعداً. ووفقاً لمعظم استطلاعات الرأي التي جرت قبل هذه الانتخابات، كانت حصة التجمع الوطني تتراوح بين 25 و50 مقعداً. وهذا العدد من المقاعد يعتبر الأهم في تاريخ حزب اليمين المتطرف، ويتخطى رقمه التاريخي السابق المُتحقق في انتخابات عام 1986، حيث حصل حينها حزب الجبهة الوطنية FN (حسب التسمية السابقة) على 32 مقعداً (وفق نظام انتخاب نسبي وليس أكثرياً على جولتين كما هو معمول به الآن)، وهو ما سمح له وقتها بتشكيل كتلة برلمانية (حسب القوانين حينها كانت يتوجب الحصول على 30 مقعداً لتشكيل كتلة برلمانية). كذلك فإن العدد الحالي من المقاعد لحزب التجمع الوطني، يُظهر التقدم الكبير له مقارنةً بانتخابات عام 2017 والتي حصد فيها الحزب 7 مقاعد فقط.

4- كتلة وازنة رابعة لحزب الجمهوريين: على الرغم من التراجع الكبير لحزب اليمين المحافظ التقليدي "الجمهوريين" LR في الانتخابات الحالية مقارنةً بنتائج الانتخابات السابقة (74 مقعداً في 2022 مقابل 112 مقعداً في 2017)، فإن الحزب تمكن من تجاوز الإخفاق الذي أصابه في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعام 2022 والتي لم يتخط فيها الحزب عتبة الـ 5% من الأصوات على الصعيد الوطني والتي تسمح له باسترداد تكاليف حملته الانتخابية (حصل تحديداً على 4.7% فقط)؛ مما اضطر مرشحته للرئاسة، فاليري بيكريس، إلى جمع تبرعات من المُناصرين لتسديد الديون على الحزب. ويُفسر امتلاك حزب الجمهوريين لكتل ناخبة ثابتة من كبار السن والمُتمركزة في المدن، حصوله على هذا العدد من النواب، بالإضافة إلى تحالفاته مع بعض أحزاب الوسط التاريخية.


استراتيجيتان مُختلفتان: 

فضلت بعض القوى السياسية، مثل الجمهوريين والتجمع الوطني، ترك ساحة المقارعة العلنية في الانتخابات التشريعية الفرنسية، لتيار الرئيس ماكرون وتيار اليسار؛ واللذين اعتمدا استراتيجيتين مُختلفتين في فترة بين جولتي الانتخابات، لتحقيق أهدافهما. ويمكن توضيح الاستراتيجيتين في التالي:

1- استراتيجية معسكر "ماكرون": تدخل الرئيس ماكرون بنفسه وبشكل مُلفت وغير مسبوق في الفترة الفاصلة بين الجولتين الأولى والثانية للانتخابات التشريعية، حيث قام بتوجيه رسالة من خلال إطلالة مُتلفزة مباشرة إلى الشعب الفرنسي يوم 14 يونيو 2022 من على أرضية المطار وأمام طائرته الرئاسية قبل توجهه في جولة قادته إلى رومانيا ومولدافيا وأوكرانيا. وطالب ماكرون، في هذه الرسالة، من الشعب الفرنسي إعطاءه أغلبية واضحة وقوية "حتى لا يُضاف إلى الفوضى العالمية، فوضى أخرى داخلية فرنسية"، مُعتبراً أن عدم حصوله على هذه الأغلبية سيؤدي إلى عدم تمرير الإصلاحات التي ينوي القيام بها.

وشكلت هذه الإطلالة مفاجأة للعديد من المراقبين، سواء من حيث الشكل أو المضمون. فمن حيث الشكل، كانت هذه المرة الأولى التي يوجه فيها رئيس فرنسي خطاباً من على مدرج المطار. ومن حيث المضمون، خرجت تساؤلات حول الهدف من هذه الإطلالة وإذا كان مخططاً لها منذ البداية أي عبر انتظار اللحظات الأخيرة من السباق الانتخابي للدخول بقوة وبشكل غير مسبوق لحسم الأمور أم أن هذه الخطوة كانت ارتجالية ووليدة الظروف المحيطة بالمعركة الانتخابية، حيث أدرك الرئيس ماكرون فداحة الموقف الذي يمر به.

وهذه المرة الأولى التي تجد أغلبية رئاسية نفسها متساوية مع تحالف منافس في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي جرت في 12 يونيو 2022 (25% لكل من "معاً"، و"تحالف اليسار"). كما أن النتيجة التي سجلها "معاً" في الجولة الأولى لهذه الانتخابات أقل من التي حصل عليها ماكرون نفسه في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في أبريل الماضي بحوالي 3%، وأقل بـ 7 درجات من تلك التي حققها حزب ماكرون ذاته في الجولة الأولى من تشريعيات عام 2017. وكل هذا دفع ماكرون إلى التدخل بشكل مباشر، خصوصاً بعد أن لمس أن إطلالات رئيسة وزرائه، إليزابيث بورن، لم تنجح في الحصول على نسبة التحفيز المطلوبة لحسم النتائج لصالحه.

ويمكن الاستنتاج من مضمون الخطاب الذي استخدمه ماكرون، أنه حاول التأثير على ناخبيه الذين تخلفوا عن المشاركة في الجولة الأولى للانتخابات التشريعية، بالإضافة إلى محاولة جذب ناخبي اليمين لصفه عبر تخويفهم من الفوضى التي يمكن أن تحدث في حالة فوز أقصى اليسار في الانتخابات وسيطرته على الحكومة المُقبلة. 

ويُظهر هذا الخيار مدى برجماتية ماكرون الذي لجأ إلى توجيه عدة خطابات لاستمالة شريحة معينة من الناخبين الفرنسيين حسب الحاجة والمصلحة. فمع بداية حملة رئاسيات 2022، حاول ماكرون استمالة جمهور اليمين عبر تبني مطلب رفع سن التقاعد إلى 65 عاماً. وقبل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، عمل ماكرون على استمالة مؤيدي ميلنشون، الحائز على نحو 22% من الأصوات، عبر فكرة ضرورة قطع الطريق على مرشحة أقصى اليمين، مارين لوبان. ومن ثم فإنه قبل الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، حاول ماكرون استمالة جزء من ناخبي اليسار عبر تعيين اشتراكية سابقة كرئيسة لحكومته، وإعلانه عزمه تبني أفكار أيكولوجية، وها هو بين الجولتين التشريعيتين أقلم خطابه بشكل يجذب جمهور اليمين.

2- استراتيجية معسكر ميلنشون: اعتمدت استراتيجية ميلنشون في فترة ما بين جولتي الانتخابات التشريعية على 5 نقاط مترابطة فيما بينها، وهي كالتالي:

أ- محاولة الاعتماد على خزان الأصوات المُتمثل في الممتنعين عن التصويت في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، والعمل على إقناع أكبر قدر منهم للتصويت لصالح تحالف اليسار؛ وذلك عبر صياغة خطاب تحفيزي لتحميس هؤلاء من فئات الشباب وشرائح اليسار، وإظهار أن الأمور ليست محسومة لصالح ماكرون، وأن هزيمته مُمكنة، وأن ميلنشون لم يفقد الأمل في الحصول على أغلبية برلمانية تجعل منه رئيساً للحكومة المُقبلة تقف في وجه تفرد ماكرون بالسلطة.

ب- التركيز على أخطاء الوزراء المُقربين من ماكرون وتضخيمها، ومنهم وزير الداخلية جيرالد دارمانان عبر اتهامه بعدم ذكر الحقيقة فيما يخص نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية، حيث أكدت النتائج الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية تصدر تحالف ماكرون، وهو الأمر الذي يرفضه ميلنشون، مُعتبراً أن تحالفه هو الحائز على المرتبة الأولى، وأن وزير الداخلية يخفي الأرقام الحقيقية. ويعتبر هذا الانتقاد لأداء وزير الداخلية هو الثاني في فترة قصيرة، خاصةً بعد الأحداث المؤسفة التي شهدتها مباراة نهائي دوري الأبطال الأوروبي لكرة القدم بين فريقي ريال مدريد الإسباني وليفربول الإنجليزي، والتي جرت في إحدى ضواحي باريس، ولم تتمكن الشرطة الفرنسية من ضبطها من الناحية التنظيمية. 

ج- إبراز قوة وحدة تحالف اليسار، وعدم قبول خطاب مناصري ماكرون الذي كان يحاول اللعب على التناقضات عبر إظهار أن هناك يساراً جمهورياً ويساراً غير جمهوري أو متطرف، خصوصاً أن معسكر ماكرون استغل تصريح ميلنشون بأن البوليس يقتل الفرنسيين عبر حادثة في باريس في مطلع يونيو 2022 أدت إلى مقتل سيدة مُلاحقة من قِبل الأمن، للتجييش ضد القيم التي يخفيها ميلنشون.

د- منع مرشحي تحالف ماكرون من الاستفادة من تأييد أصوات حزب الجمهوريين في الدوائر التي تنحصر فيها المواجهة بين تحالف "معاً" وتحالف اليسار.

ه- الرد بمهنية على اتهامات تحالف ماكرون بأن البرنامج الاقتصادي لتحالف Nupes غير قابل للتطبيق وأنه سيؤدي إلى إفلاس فرنسا؛ وذلك عبر نشر رسالة مُوقعة من عشرات المُفكرين الاقتصاديين الفرنسيين المرموقين وعلى رأسهم توماس بيكيتي Thomas Piketty، تدعم هذا البرنامج وتُظهر أنه يمكن تطبيقه بكل مصداقية، وهو القائم على خفض سن التقاعد إلى 60 عاماً، وجعل الحد الأدنى للأجور 1500 يورو، بالإضافة إلى مواجهة التضخم.

تداعيات الانتخابات: 

يمكن الإشارة إلى أبرز التداعيات التي أظهرتها نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة، فيما يلي:


1- طرح تساؤلات حول كيفية تشكيل "أغلبية مُطلقة": فور إعلان نتائج هذه الانتخابات، خرجت الكثير من التحليلات وعناوين الصحف في فرنسا تضع ما حدث في الانتخابات تحت خانة "الزلزال السياسي" seisme. وتُثار تساؤلات من قِبيل إذا كانت فرنسا مازالت قابلة للحكم في ظل انتقال التنافس من "الثنائية القطبية التقليدية" التي عرفتها الجمهورية الخامسة بين اليمين واليسار، إلى "ثلاثية قطبية تنافسية" مؤلفة من الوسط وأقصى اليمين وتحالف قوى اليسار. 

وتتعدد التأويلات في كيفية الخروج من هذا المأزق، حيث تجنح بعض الآراء مثل التي طرحتها رئيسة الوزراء الفرنسية، إليزابيث بورن، في خطابها بعد ظهور النتائج، إلى البحث عن "أغلبية على القطعة" في كل موضوع يتم طرحه من دون تشكيل ائتلاف ثابت. وثمة طرح آخر يرى أن هذا الأمر لن يُكتب له النجاح، بل يجب الذهاب إلى تكوين ائتلاف حكومي ثابت ودائم بين أحزاب سياسية كالتحالف بين "معاً" والجمهوريين أو بين "معاً" واليسار، عبر استنساخ النموذج الألماني الذي شهد في بعض الأحيان ائتلافاً حكومياً بين المحافظين والاشتراكيين.

فيما ترى مجموعة ثالثة أن نتائج هذه الانتخابات كشفت عن نفاذ صلاحية القواعد التي بُنيت عليها الجمهورية الخامسة، خصوصاً أن نسبة عدم المشاركة في الانتخابات بلغت مستويات غير مسبوقة تخطت الـ 50%، فضلاً عن زيادة شعبية قوى أقصى اليمين من 14% في عام 1988 إلى 30% في عام 2022. وبالتالي فإنه من الأفضل التفكير في أُسس لنظام سياسي جديد يُحاكي التطورات على أرض الواقع.

2- ميل ميزان القوى للبرلمان على حساب رئيس الجمهورية: كان واضحاً من خلال العديد من استطلاعات الرأي وسياق الأحداث الذي أدى إلى وصول ماكرون لولايته الرئاسية الثانية، أن أغلبية الفرنسيين اختارت ماكرون فقط من أجل قطع الطريق على نجاح مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، وأن هذه الأغلبية كانت تنتظر الانتخابات التشريعية لجعلها بمنزلة الجولة الثالثة من الرئاسيات، وإيصال رسالة إلى ماكرون بأنها غير راضية عن أدائه في ولايته الرئاسية الأولى وعن تفرده بالسلطة. 

لذلك جاءت نتائج الانتخابات التشريعية وكأنها "تصويت عقابي" لماكرون عبر عدم منحه، وهو رئيس الجمهورية الفائز بولاية ثانية، أغلبيته المُطلقة المعهودة. وبالتالي فإن رئيس الجمهورية سيجد نفسه "مكبل الحركة" ومرتهناً إلى توازنات القوى التي تحكم البرلمان، على الرغم من انقسامه فعلياً إلى ثلاثية قطبية وأربعة بلوكات كبيرة. 

3- تصدع "الجبهة الجمهورية": هذه الجبهة معروفة باسم Front Republicain؛ وهي اتفاق ضمني بين القوى السياسية الفرنسية التي تُصنف نفسها معتدلة وتؤمن بقيم الجمهورية، لمنع وصول قوى أقصى اليمين إلى السلطة. وكثيراً ما تم استخدام هذه الاستراتيجية لقطع الطريق على وصول نواب حزب الجبهة الوطنية والتجمع الوطني إلى البرلمان الفرنسي.

وتظهر خريطة الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية أنه في الدوائر التي جمعت المنافسة فيها بين تحالف اليسار واليمين المتطرف وجهاً لوجهاً، فإن 72% من ناخبي "معاً" امتنعوا عن المشاركة في التصويت، و16% صوتوا لصالح تحالف اليسار Nupes، و12% لصالح التجمع الوطني RN. بينما امتنع 52% من ناخبي حزب الجمهوريين LR عن التصويت، وأعطى 30% منهم أصواتهم للتجمع الوطني، و12% صوتوا لتحالف اليسار. 

ويُظهر ذلك أمرين مهمين؛ الأول أنه لم يعد هناك حاجز نفسي يمنع ناخبي أحزاب اليمين والوسط من إعطاء أصواتهم لمرشح من أقصى اليمين. وتُحمل أحزاب اليسار المسؤولية في ذلك للخطاب المُتبع من قِبل "الماكينة الإعلامية" لتحالف ماكرون، والتي حاولت تصوير معركة الانتخابات التشريعية على أنها ضد المتطرفين من كلا الطرفين، وفي النهاية ساوت في وضع جميع تكوينات اليسار من اشتراكيين وشيوعيين وأقصى اليسار ضمن هذا التصنيف مع أقصى اليمين. والأمر الثاني، أن عمليات "انتقال الأصوات" لم تعد تعمل ضمن الآليات السابقة المُتمثلة في انتظار الناخبين لتعليمات قيادة الحزب، حيث إن بعض رؤساء الأحزاب أصبحوا يمتنعون عن التشدد في ضرورة انتخاب المرشح الذي يكون في مواجهة أقصى اليمين مهما كان انتماؤه.

في الختام، يمكن القول إن حكم فرنسا من قِبل "أغلبية نسبية" ليس عملاً مُستحيلاً، حيث تظهر السوابق التاريخية حدوث ذلك في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق، فرنسوا ميتران، ولكن الظروف التي تمر بها فرنسا حالياً مُعقدة أكثر من السابق، مما سيجعل مهمة الرئيس ماكرون في إدارة "الأغلبية النسبية" أصعب بكثير، حيث يتعين عليه مواجهة معارضة متعددة وأكثر راديكالية، وهي مُمثلة يساراً في الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد Nupes، ويميناً في التجمع الوطني RN.

ويُضاف إلى ذلك، حاجة ماكرون إلى عدد أكبر من النواب المُنتمين لأحزاب أخرى للوصول إلى "الأغلبية المُطلقة"، فضلاً عن احتمال بروز الخيارات المُستقبلية لحلفائه ضمن تحالف "معاً" نفسه، كوزير المالية برونو لومير، ورئيس وزرائه السابق إدوار فيليب، والذين ربما بدأوا في رسم حساباتهم الشخصية لخلافة ماكرون، خصوصاً أنه لا يمكنه التجديد لنفسه لولاية ثالثة. وكل هذه العوامل مُجتمعة قد تؤدي إما إلى شلل في منظومة الحكم الفرنسية، أو السير في سياسة التسويات والتي ستعني غض النظر عن نقاط أساسية في مشروع ماكرون الرئاسي.