سياقات ضاغطة:

لماذا اندلعت الاحتجاجات المطلبية بالمنطقة العربية في ظل مخاطر "كورونا"؟

14 June 2020


شهدت عدة دول عربية اندلاع احتجاجات فئوية أو اعتصامات مطلبية أو تظاهرات مناطقية، على الرغم من استمرار انتشار جائحة "كورونا" فيها، لعدد من الاعتبارات، تتمثل في ضعف أو سوء الخدمات المقدمة من الحكومات المحلية، وتدهور الأوضاع المعيشية، وتوفير فرص عمل للفئات الشبابية، واستعادة زخم الحراك الشعبي الداعم لإجراء إصلاحات جوهرية في بنية الحكومات العربية، والحد من سلطوية بعض رموز التيارات السياسية الحاكمة، ونزع سلاح الفواعل المحلية وتسليمه للدولة. ومثلما تشابهت السياقات المُحفِّزة لاندلاع تلك الاحتجاجات، تشابهت أيضاً سياسات الاستجابة من جانب الحكومات، والتي تضمنت تشكيل لجنة لحل مشكلات قطاعات مجتمعية في أقاليم جغرافية، ومراجعة أداء القائمين على إدارة الحكومات المحلية، وإطلاق التحذيرات الأمنية بشأن المخاطر الصحية المحتملة من استمرار الاحتجاجات. 

عوامل مُفسِّرة:

تعددت مظاهر الاحتجاجات المطلبية التي شهدتها كل من تونس ولبنان وسوريا والعراق، في شهرى مايو ويونيو 2020، ما بين وقفات احتجاج وإضراب عام واعتصام أمام مباني حكومية وقطع طرق وإغلاق منافذ، ورفعت خلالها شعارات معبرة عن مطالبها، في كثير من الأحيان، سواء ذات أبعاد سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، داخلية أو خارجية، بل وصل الأمر في بعض الحالات إلى المطالبة بإسقاط النظام أو تغيير الحكومة أو إقالة حكومات محلية أو مساءلة شخصيات سياسية. 

وقد تعددت العوامل المُفسِّرة للموجة الحالية من الاحتجاجات الفئوية في المنطقة العربية، خلال الفترة القليلة الماضية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي: 

1- ضعف أو سوء الخدمات المقدمة من الحكومات المحلية: وهو ما ينطبق جلياً على التظاهرات التي شهدتها بعض المحافظات العراقية، مثل النجف والمثني والديوانية والناصرية، خلال الثُلث الأول من يونيو الجاري، والتي تركزت مطالبها على إقالة الجهات المحلية، لعدم قدرتها على الوفاء باحتياجات السكان القاطنين بتلك المحافظات، صحياً وخدمياً، لاسيما مع ضعف الموارد المالية. وقد نجحت تلك الاحتجاجات في إرغام نحو 7 دوائر حكومية على تقديم استقالتها، فيما أطلقت عليه وسائل إعلامية عراقية "عدوى" المطالبة باستقالة المسئولين العراقيين.

2- تدهور الأوضاع المعيشية: شهدت محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية جنوب سوريا، خلال الثُلث الأول من يونيو الحالي، تظاهرات مناهضة لنظام الرئيس بشار الأسد، حيث تم التنديد بتردي الأوضاع المعيشية وغلاء الأسعار وانحدار قيمة الليرة مقابل الدولار، ومن المتوقع أن تزداد الأوضاع قسوة على المواطنين بفعل اقتراب دخول قانون "قيصر" الخاص بالعقوبات الأمريكية والذي شرعه الكونجرس حيز التنفيذ. وكان لافتاً للنظر طرح شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام" و"سوريا حرة حرة.. إيران وروسيا برا". 

3- توفير فرص عمل للفئات الشبابية: نظمت عدة احتجاجات بمناطق مختلفة في مدينة قفصة التونسية، في مطلع يونيو الجاري، للمطالبة بتوفير فرص عمل، حيث نفذ أصحاب الشهادات العليا وقفة احتجاجية أمام مقر الولاية، فيما قام عدد من الشباب بغلق جزء من الطرق الرئيسية بمدينة القصر مع إجبار سائق شاحنة محملة بالفوسفات على سكب الحمولة على الطريق، كما قام عدد من العاطلين عن العمل في أم العرائس بمنع شاحنات نقل الفوسفات من الوصول إلى مواقع الإنتاج. 

وقد أعلن عدد من مواطني تطاوين إغلاق كافة منافذ الولاية أمام سيارات وشاحنات الشركات البترولية، بداية من 8 يونيو الجاري، مع تنظيم يوم غضب في 11 من الشهر نفسه، أمام مقر الاتحاد الجهوي للشغل، إضافة إلى مراسلة رئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب لتحميلها المسئولية عن عدم تنفيذ اتفاق "الكامور" الذي يتضمن عدداً من الوعود بتنمية المنطقة وتشغيل الشباب. كما شهدت الوقفة الاحتجاجية التي نظمها عدد من أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل في باردو، في 10 يونيو الجاري، بعض الصدامات بين المحتجين وقوات الأمن، وذلك بعد أن قام المتظاهرون بالتحرك إلى الساحة الرئيسية.

4- استعادة زخم الحراك الشعبي الداعم لإجراء إصلاحات جوهرية في بنية الحكومات العربية: هناك اتجاه في الأدبيات يشير إلى أن فعاليات الاعتصام التي تشهدها محافظات الوسط والجنوب العراقي، في يونيو الجاري، تعد تعبيراً عن استمرار الحراك الشعبي الذي انطلق قبل أكثر من 8 أشهر للمطالبة بإصلاحات شاملة، على الرغم من الوعود التي أطلقتها حكومات مختلفة بتلبية مطالب المتظاهرين، وتشكيل لجان لمحاسبة المتورطين في عمليات القتل والخطف التي رافقت الاحتجاجات.

كما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن وسائل إعلام محلية ومواقع التواصل الاجتماعي أن الجزائر شهدت يومى عيد الفطر، في 24 و25 مايو الماضي، مظاهرات متفرقة داعمة للحراك ومعتقليه، بالرغم من مخاطر وباء "كوفيد-19" وإجراءات منع كل المظاهرات. ورفع المتظاهرون لافتة كتب عليها "عيد سعيد لكل المعتقلين" على نحو يعكس تضامناً مع المعتقلين في سطيف، الولاية المجاورة لبجاية. كما شهدت ولايتا تيزي ووزو وبومرداس، شمال شرق العاصمة، مظاهرات مشابهة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين.

على صعيد متصل، تجددت التظاهرات في لبنان، في الثُلث الأول من يونيو الحالي، من قبل مجموعات للحراك المدني بسبب الاحتجاج على السلطة السياسية القائمة وازدياد حدة الأزمة الاقتصادية التي تعجز حكومة حسان دياب عن احتوائها، وارتفاع أسعار الدولار، والمطالبة باتخاذ إجراءات فعلية لمكافحة الفساد، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ويهدف الحراك إلى إحياء ما عرف بحراك 17 أكتوبر 2019، والذي خفت صوته بعد اندلاع جائحة "كورونا". وتجددت هذه المظاهرات بعدما قامت الحكومة بتخفيف الإجراءات التي فرضتها لمكافحة تفشي فيروس "كورونا" المستجد.

5- الحد من سلطوية بعض رموز التيارات السياسية الحاكمة: وينطبق ذلك حرفياً على زعيم حركة النهضة رئيس مجلس نواب الشعب التونسي راشد الغنوشي، بعد تصاعد موجة احتجاجات عنيفة ضده من قبل تيارات وقوى مختلفة، إذ قام عدد من العاملين بوزارة الصحة وأطباء محافظة صفاقس جنوب تونس بتنفيذ إضراب عام تلبية لدعوة الاتحاد الجهوي للشغل، في أول يونيو الجاري، وذلك على خلفية توقيف نقابيين من قطاع الصحة في صفاقس اتهما بالاعتداء على نائب ائتلاف الكرامة بالبرلمان محمد العفاس في مارس الماضي. 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأمين العام المساعد للاتحاد التونسي للشغل سامي الطاهري قد اعتبر أن "قضية إيقاف نقابيين بصفاقس خضعت لضغوطات وتعليمات سياسية جاءت من رئيس البرلمان راشد الغنوشي، ولهذا قام النقابيون بتنظيم مسيرة ضخمة منددة بسياسات الأخير. كما قام أنصار الحزب الدستوري الحر بتنفيذ وقفة احتجاجية أمام المبنى الفرعي لمجلس نواب الشعب بباردو تزامناً مع الجلسة المنعقدة لمساءلة الغنوشي في 3 يونيو الحالي، حيث طالبوا بتنحيته من منصبه ونددوا بما اعتبروه تجاوزاً لمهامه وصلاحياته، مؤكدين أن سحب الثقة منه واجب وطني بحسب شعاراتهم.

وطالبت الهيئة السياسية لجبهة الإنقاذ في تونس، في 8 يونيو الجاري، بحل البرلمان واللجان والهيئات المنبثقة عنه، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وتشكيل حكومة مصغرة لتصريف الأعمال، والدعوة للاستفتاء على النظام السياسي واعتماد نظام رئاسي ديمقراطي، وتنقيح قانون الأحزاب، وتشكيل لجنة للتدقيق في مصادر تمويل الأحزاب السياسية وقياداتها وتجميد أرصدتها، وفي هذا السياق صرح المتحدث الرسمي باسم الهيئة فتحي الورفلي قائلاً: "نحن سننزل إلى ساحة باردو، ونعتصم بها، ولن نعود إلى منازلنا قبل حل البرلمان".

6- نزع سلاح الفواعل المحلية (الميليشيات المسلحة): على نحو يبدو جلياً في مطالبة قوى الحراك اللبناني، في الثُلث الأول من يونيو الجاري، بنزع السلاح "غير الشرعي" لحزب الله وتسليمه للدولة، ولم يكن نزع سلاح الحزب جديداً؛ بل كان مطلباً أساسياً لقطاع ليس بقليل من اللبنانيين، لاسيما بعد أن فقد سلاح الحزب مبررات وجوده بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب في منتصف 2000؛ وبعد أن زاد نفوذه وتغلغله في مفاصل الحكم؛ بل أصبح متحكماً في القرار السياسي الداخلي والخارجي؛ فمعاناة لبنان على المستوى الداخلي أحد أسبابها سعى الحزب للسيطرة على الحكومة، بخلاف علاقاته الوثيقة بإيران، على المستوى الخارجي، التي غلبت على المصالح الوطنية للدولة اللبنانية وأضعفت من الدعم الاقتصادي الإقليمي والدولي لها.

سياسات مختلفة:

تباينت السياسات التي اتخذتها السلطات الرسمية في تونس ولبنان وسوريا والعراق، للحد من تأثير الاحتجاجات الفئوية، ويتمثل أبرزها فيما يلي: 

1- تشكيل لجنة لحل مشكلات قطاعات مجتمعية في أقاليم جغرافية: وهو ما لجأت إليه الحكومة التونسية لاحتواء مشكلات بعض الفئات المجتمعية وخاصة في إقليم تطاوين، حيث تبرز بشكل واضح مظاهر التنمية غير المتوازنة، مع الوعد بتنفيذ اتفاق "الكامور" المتعلق بتنمية المنطقة وتشغيل الشباب. وكذلك الحال في لبنان، إذ أشارت بعض وسائل الإعلام إلى تشكيل لجان للنظر في المطالب التي رفعها المتظاهرون أمام وزارتى الطاقة والاتصالات.

2- مراجعة أداء القائمين على إدارة الحكومات المحلية: تم تشكيل فريق وزاري بالعراق برئاسة وزير الداخلية عثمان الغانمي، وعضوية عدد من الوزراء والمختصين، في 6 يونيو الجاري، وتحددت مهامه بالوقوف على أسباب التقصير في تقديم الخدمات للمواطنين، ومراجعة أداء المحافظين والدوائر الخدمية في المحافظات، واتخاذ إجراءات حازمة لتشخيص مكامن الفساد ومعالجة حالاته. كما أن الفريق سيقوم بالتنسيق مع اللجان البرلمانية المعنية، ويُنسق كذلك بشكل وثيق مع الفعاليات المحلية الشعبية والنقابية في المحافظات.

3- إطلاق التحذيرات بشأن المخاطر الصحية المحتملة من استمرار الاحتجاجات: على نحو ما عبرت عنه تصريحات عدد من المسئولين المدنيين والأمنيين العراقيين، إذ قالت رئيس لجنة التعليم العالي النيابية غيداء كمبش، في 10 يونيو الحالي، أن "أعداداً ليست قليلة يتظاهرون أمام بوابات المنطقة الخضراء قدموا من أغلب المحافظات للمطالبة بإنهاء مأساتهم سواء بالتعيين أو تحويلهم إلى عقود وزارية"، وأضافت أن "وجودهم تحت آشعة الشمس اللاهبة في ظل تفشي كورونا قد يؤدي إلى فاجعة إنسانية على أبواب الخضراء ويمكن أن يُصاب أغلبهم بالفيروس أو الأمراض الأخرى". كما دعت قيادة شرطة النجف، في اليوم نفسه، جميع الشخصيات والمتظاهرين إلى إيقاف الفعاليات والتظاهرات بعد تحول الإصابات بفيروس "كورونا" في محافظة النجف إلى أرقام مخيفة.

4- حرص التيارات السياسية في الحكم على إعادة النظر في تحالفاتها الداخلية: على غرار حركة النهضة وخاصة بعد حدوث تشظي نسبي في الائتلاف الحكومي الذي يجمعها بالتيار الديمقراطي وحركة الشعب ومحاولة ضم حزب "قلب تونس" لتشكيل حكومة وحدة وطنية. في مقابل ذلك من المرجح تشكيل جبهة موسعة مناوئة تضم منظمات كبرى مثل الاتحاد العام التونسي للشغل ونقابة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، فضلاً عن الحزب الدستوري الحر وغيره من الأحزاب المدنية التي ترفض الهيمنة الإخوانية على مفاصل الحكم في تونس. 

5- التعويل على نظرية المؤامرة الخارجية: وهو ما يردده نظام الأسد في تعامله مع الاحتجاجات التي نظمت في السويداء، مع ترويج وسائل الإعلام التابعة له لرواية أن قانون "قيصر" الذي شرعه الكونجرس يهدف إلى تشديد الحصار على سوريا وضرب اقتصادها وحرمانها من الاحتياجات الأساسية، ويستهدف إخراج سوريا من ما تطلق عليه "دائرة المقاومة" وفكّ تحالفها مع أصدقائها. 

أدوات تسكين:

خلاصة القول، إن هناك قوة للمجتمعات في مواجهة الحكومات بالمنطقة العربية، وهو ما عكسته الموجة الراهنة من الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات، على نحو يفرض تحديات ضاغطة على تلك الحكومات، في ظل استمرار الأزمات الاقتصادية وانتشار جائحة "كورونا" وانخفاض أسعار النفط، ومن غير المرجح أن تنتهي تلك الاحتجاجات نظراً لوجود عوامل هيكلية تعزز من استمرارها، فضلاً عن أن ما تتخذه الحكومات من إجراءات وسياسات هو مجرد أدوات تسكين، حيث تتم تهدئة الشارع بأساليب مختلفة دون الاستجابة لمطالبه، وهو ما يفسر تجدد الحراك الاحتجاجي بين الحين والآخر.