تداعيات متباينة:

كيف أثر "كوفيد-19" على أوضاع الحدود في الشرق الأوسط؟

14 May 2020


فرض انتشار فيروس "كوفيد-19" تداعيات على أوضاع الحدود في الشرق الأوسط، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، على نحو ما انعكس في جملة من الشواهد، التي تتمثل في إجراء تحقيقات حول إدخال عالقين ليبيين قادمين من تركيا بدون فحوص مختبرية، والاقتتال بين الفصائل المسلحة الموالية لتركيا على عائدات المعابر وخاصة في حلب، وانتعاش تجارة عصابات التهريب عبر الحدود الرخوة بين سوريا ولبنان، وتصعيد تنظيم "داعش" هجماته على الحدود السورية- العراقية، ورفض العراق الضغوط الإيرانية لفتح الحدود المشتركة، وتوتر العلاقات الإيرانية- الأفغانية إثر توجيه اتهامات لطهران باستهداف المهاجرين الأفغان، ورفض روسيا والصين ضغوطاً غربية لفتح معبر بين سوريا والعراق لإدخال المساعدات الإنسانية.

توظيف مستمر:

على الرغم من أن هناك اتجاهاً رئيسياً في الأدبيات النظرية يشير إلى أن "كوفيد-19" أعاد الاعتبار لقدسية الحدود الجغرافية، خاصة بعد قرار العديد من الدول في العالم بإغلاق الحدود وتعليق حركة الطيران وتشديد الرقابة على المنافذ البحرية، إلا أن الممارسة العملية في منطقة الشرق الأوسط تشير إلى توظيف ملف الحدود، سواء داخل أو بين الدول، على النحو التالي:  

أزمة العالقين 

1- إجراء تحقيقات حول إدخال عالقين ليبيين قادمين من أنقرة بدون فحوص مختبرية: تصاعد الجدل في ليبيا، في الثُلث الأول من مايو الجاري، بعد إدخال مواطنين عالقين قادمين من تركيا على متن رحلة جوية حطت بمطار مصراتة، وكانت تقل 240 شخصاً، دون إخضاعهم لفحص "كوفيد-19". وفي هذا السياق، قال رئيس قسم التحقيقات في مكتب النائب العام الصديق الصور، في رسالة وجهها في 7 مايو الجاري، إلى رئيس اللجنة العليا لإدارة الأزمة والاستجابة لمجابهة جائحة "كورونا" ومسئولين آخرين: "إن النيابة العامة بدأت التحقيق في الواقعة التي تمت بالمخالفة لإجراءات إعادة العالقين من دول الجوار".

وطالب الصور من المسئولين بـ"موافاة النيابة العامة بأسماء المواطنين المستهدفين بالعودة مع بيان أسماء من استبعدوا من ضمن خطة الحجر الصحي"، كما طلب "موافاة النيابة العامة بأسماء الموظفين العموميين الذين أسند إليهم أمر تنظيم عودة المواطنين الموجودين على أراضي الجمهورية التركية"، داعياً إلى "ضرورة الالتزام بالإجراءات المقررة للوقاية من الجائحة وموافاة مكتب النائب العام عقب كل رحلة بقوائم تتضمن أسماء من منحت لهم شهادات المتابعة الصحية تقابلها قائمة تطابقها بأسماء من تم نقلهم على متن طائرات شركات الخطوط الجوية العائدة إلى ليبيا".

غير أن حكومة الوفاق التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع تركيا تحاول التمويه على هذه الواقعة، حيث قال وكيل وزارة الخارجية للشئون الفنية التابعة للوفاق: "إن الإجراءات المتخذة حيال عملية إعادة المواطنين من قبل اللجنة صارمة جداً ولا تستثنى أحداً"، مشيراً إلى أنه "يتم حالياً اعتماد كشوفات تضم أسماء الليبيين العالقين العائدين إلى أرض الوطن من قبل اللجنة الصحية المشرفة والسفارة أو القنصلية الليبية بالخارج". 

عائدات المعابر 

2- الاقتتال بين الفصائل المسلحة الموالية لتركيا على عائدات المعابر: وبشكل خاص في حلب، ففي أول مايو الجاري، طردت الشرطة العسكرية والفرقة التاسعة التابعة للجيش التركي فصيلى "أحرار الشرقية" و"جيش الشرقية" من مدينة جرابلس في ريف حلب ضمن ما يسمى بمنطقة درع الفرات الخاضعة لسيطرة تركيا والفصائل الموالية لها في شمال سوريا، بعد اشتباكات دامت عدة أيام، نظراً للخلاف حول توزيع عائدات المعابر التجارية والحدودية.

وعلى الرغم من أن تركيا تعد إحدى الدول الرئيسية الموبوءة بـ"كوفيد-19" في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن ذلك لم يدفعها إلى التراجع عن التدخل في بؤر الصراعات المسلحة، بل تزيد من تمددها بفعل انشغال دول العالم بمواجهة الجائحة. وفي هذا السياق، يعمل الجيش التركي على السيطرة على معبرى جرابلس وعون دادات مع مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد".      

شبكات التهريب 

3- انتعاش تجارة عصابات التهريب عبر الحدود السورية- اللبنانية الرخوة: فعلى الرغم من أن شبكات الظل كانت قائمة بل ومزدهرة في غالبية حدود دول الإقليم خاصة بعد تحولات 2011، إلا أن انتشار "كورونا" أدى إلى التشديد على مراقبة المنافذ البرية والبحرية منعاً لانتقال العدوى، بحيث اتخذ قرار بإغلاق الحدود السورية- اللبنانية لتقويض حركة التهريب. غير أن ذلك لم يستمر لفترة طويلة، وهو ما يستنزف قدرة الدولة اللبنانية على توفير السلع الأساسية للسوق المحلية.

وفي هذا السياق، تشير بعض الكتابات إلى استئناف عصابات تهريب المازوت أنشطتها من لبنان، عبر المنافذ غير الشرعية، إلى سوريا، ويتم إضافة مادة الطحين إليها، وهما مادتان يدعم مصرف لبنان استيرادهما من الخارج، عبر تأمين العملة الصعبة، على نحو يؤثر بشكل سلبي على المالية العامة اللبنانية لدرجة أن أحد التقديرات يشير إلى أن خسائر لبنان السنوية من تهريب المازوت إلى سوريا تبلغ 400 مليون دولار.

وأكد على صحة هذا التقدير تصريح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، نشرته صحيفة "الشرق الأوسط"، في 9 مايو الجاري، قال فيه أن "التقرير الذي بثته قناة تلفزيونية أظهر أن الطحين المدعوم المهرب إلى سوريا يظهر الأثر السلبي للمعابر غير الشرعية على مالية الدولة ككل"، حيث يتم أيضاً تهريب مليونى لتر يومياً إلى سوريا عن طريق الهرمل والحدود البقاعية، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء المركزية اللبنانية.

وتبرز ممارسات التهريب أيضاً على الحدود السودانية مع دول الجوار الجغرافي (مصر، وليبيا، وتشاد، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وأثيوبيا، وإريتريا)، التي تمتد لآلاف الكيلومترات، في مرحلة ما بعد انتشار "كوفيد-19"، وهو ما يمكن إرجاعه إلى اتساع الرقعة الجغرافية الممتدة بلا موانع بين السودان وجيرانها، ما جعل من إدارة عمليات السيطرة والضبط مسألة بالغة التعقيد، فضلاً عن صعوبة مراقبة كامل الشريط الحدودي، على نحو يشير إلى أن هذه الحدود بشكلها الحالي ستفرز جملة مهددات.

هجمات الإرهاب

4- تصعيد تنظيم "داعش" هجماته على الحدود السورية- العراقية: واصل تنظيم "داعش"، خلال الثُلث الأول من مايو الجاري، هجماته غرب العراق وشمال شرق سوريا، نظراً للانشغال العالمي والإقليمي بمواجهة جائحة "كوفيد-19"، وذلك بعد مرور أكثر من سنة على فقدانه جميع مناطق سيطرته. واستهدف "داعش" في آخر هجماته الإرهابية عناصر تابعة لقوات النظام السوري والميلشيات الموالية له بين السخنة في ريف حمص وسط سوريا والشولا في ريف دير الزور الجنوبي شمال شرقى البلاد، وهو ما أسفر عن مقتل 11 من القوات الموالية لنظام الأسد. 

هذا فضلاً عن هجمات "داعش" التي تبناها مؤخراً ضد منشآت للنفط والغاز تابعة للنظام السوري، وكذلك هجمات ضد "قوات سوريا الديمقراطية". كما قامت مجموعة من العناصر التابعة للتنظيم بتفجير أربعة أبراج لنقل الطاقة الكهربائية وقتل جنديين جنوب الموصل، علاوة على هجمات متفرقة في غرب العراق. ومن ثم، يبدو أن "داعش" يستغل الانشغال بمواجهة "كوفيد-19" لتحريك عناصره في المناطق التي طرد منها، وهو مسار من المرجح أن يتواصل خلال عام 2020.

استقلالية بغداد

5- رفض العراق الضغوط الإيرانية لفتح الحدود المشتركة: أغلقت العراق حدودها مع إيران للحد من انتشار الفيروس بعد أن أصبحت الأخيرة بؤرة للوباء في الإقليم، وفي حين تريد إيران إعادة فتح حدودها مع العراق فوراً، للمساعدة باستقرار اقتصادها، تبدي الأخيرة مخاوف من فتح الحدود مع إحدى أكثر دول المنطقة إصابة بالفيروس. وعلى الرغم من النفوذ الإيراني في الداخل العراقي، إلا أن الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في الربع الأخير من عام 2019، فضلاً عن انتشار جائحة "كوفيد-19"، وتعرض صحة العراقيين للخطر، فرض ضغوطاً مجتمعية بدت جلية في الدعوات المتكررة لإبعاد العراق عن نفوذ إيران. 

ولعل إيران تراهن على فتح الحدود مع العراق بعد تشكيل الحكومة الجديدة. فقد أفاد المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي مصطفي الكاظمي، في 11 مايو الجاري، بتلقي الأخير اتصالاً هاتفياً من الرئيس الإيراني حسن روحاني، هنأه خلاله بتوليه رئاسة الحكومة، وذكر البيان أن "الرئيس الإيراني أكد أن بلاده تسعى دوماً لتطوير العلاقات بين البلدين الجارين في جميع المجالات، وأنها تتطلع لفتح المنافذ الحدودية للحركة التجارية، وفق ما تسمح به الإجراءات الوقائية"، وأضاف البيان أن "الجانبين بحثا أيضاً ملف التعاون الاقتصادي بشكل عام، وموضوع المناطق الصناعية المشتركة على وجه الخصوص".

استهداف المهاجرين

6- توتر العلاقات الإيرانية- الأفغانية: وذلك على خلفية توجيه اتهامات لطهران باستهداف المهاجرين الأفغان، حيث قال مسئولون محليون في أفغانستان أن قوات حرس الحدود الإيرانية قامت بقتل عشرات المهاجرين، غرقاً، حيث ألقت بهم في نهر هريرود (الذي يمر بإيران وأفغانستان وتركمانستان)، لدى محاولتهم دخول البلاد من إقليم هرات المجاور، في 2 مايو الجاري. وقال سيد وحيد قاتلي، حاكم إقليم هيرات، عبر تغريدة، أن القوات الأمنية الإيرانية مسئولة عن موت المواطنين الأفغان، إذ كتب في هذا الصدد: "مواطنونا، الذين وضعتموهم في النهر، لم يكونوا أسامة بن لادن. يوماً ما سوف نسوي هذا الأمر". 

وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية الإيرانية لاتزال تحقق في الحادثة، نفت القنصلية الإيرانية في هرات اتهامات بقيام قوات حراس الحدود بتعذيب العشرات من العمال المهاجرين الأفغان، وإغراقهم. وفي هذا الصدد، قالت القنصلية في بيان لها: "لم يقبض حرس الحدود الإيراني على أي مواطنين أفغان"، ووافقت إيران على إجراء تحقيق مشترك للوقوف على الحقائق وتحديد الجناة. وتبعاً لاتجاه سائد في الكتابات، يمكن لتلك الواقعة أن تتسبب في أزمة دبلوماسية بين إيران وأفغانستان، لاسيما بعد أن تسببت جائحة "كورونا" في خروج جماعي لمهاجرين أفغان من إيران تبين إصابة العديد منهم بـ"كوفيد-19".

تسييس المساعدات

7- رفض روسيا والصين ضغوطاً غربية لفتح معبر بين سوريا والعراق: لم تستجب موسكو وبكين للضغوط التي مارسها دبلوماسيون غربيون في مجلس الأمن من أجل إعادة السماح بإيصال المساعدات الإنسانية والطبية الضرورية باستخدام معبر اليعربية عبر الحدود إلى سوريا للتخوف من تفشي وباء "كوفيد-19"، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وهنا، قالت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت، في 30 إبريل الماضي: "إن بلادها تشعر بقلق عميق من انتشار كوفيد-19 في سوريا، لأن الفيروس يضاعف الدمار الناجم عن الأزمة الإنسانية".

وأضافت أن "عجز هذا المجلس عن إبقاء معبر اليعربية مفتوحاً إلى سوريا بموجب القرار 2504 أدى إلى فقدان 40 في المائة من المعدات واللوازم الطبية في شمال غرب سوريا وشمال شرقها. ولذا طالبت المجلس بالنظر الفوري في كيفية تسهيل المساعدة عبر الحدود إلى كل سوريا، بغض النظر عما يسيطر على المنطقة". ولعل ذلك يعكس الضغوط التي تمارسها الصين أيضاً على نظام الرئيس السوري بشار الأسد لمنع ترجمة تصريحات الدبلوماسيين الأمريكيين إلى سياسات، خاصة بعد إيقاف ترامب التمويل الأمريكي للمنظمة بدعوى أنها تركز أكثر من اللازم على الصين.

ارتدادات مباشرة:

خلاصة القول، إن انتشار جائحة "كوفيد-19" أثر على أوضاع الحدود في الشرق الأوسط بمستويات مختلفة، حيث مس أوضاع العالقين، وعزز أنشطة عصابات التهريب على الحدود السائبة، ووظفته التنظيمات الإرهابية لاستعادة نشاطها في مناطق نفوذها الرئيسية بسوريا والعراق، وفرض توتراً في العلاقات الثنائية الإيرانية- الأفغانية، وعكس صراع نفوذ القوى الدولية ممثلة في واشنطن وموسكو وبكين على إدخال المساعدات الطبية في سوريا. فـ"كورونا" لم تترك بعداً إلا ومسته في الإقليم، مهما كان البعض يتصور أنه بعيد.