تهدئة أم تصعيد؟

مآلات الاشتباك الروسي- التركي في معركة إدلب

01 March 2020


رغم التقارب المعلن بين روسيا وتركيا منذ منتصف عام 2016 عندما قرر الرئيسان الروسي "بوتين" والتركي "أردوغان" إنهاء أزمة إسقاط تركيا طائرةً عسكريةً روسية من طراز (سو- 24)؛ إلا أن الدولتين تقفان على طرفي نقيض في الملف السوري، إذ تدعم موسكو قوات النظام السوري، بينما تدعم تركيا فصائل معارضة بعضها معتدل وبعضها متشدد. ومن ثمّ فمن الطبيعي أن تتصاعد الاختلافات بينهما مع التطورات الميدانية التي تشهدها الأزمة السورية، لا سيما في محافظة إدلب، التي كانت قد شهدت توافقات سابقة بين مختلف الأطراف المعنية لخفض التوتر فيما بينها.

تطورات معركة إدلب:

تشهد خارطة الأزمة السورية تطورات ميدانية متلاحقة بمشاركة الطرفين الروسي والتركي منذ أواخر 2019، حيث تدعم روسيا عملية يقودها النظام السوري للسيطرة عليها باعتبارها آخر وأكبر معاقل الفصائل المسلحة المعارضة لحكومة دمشق، لا سيما "جبهة النصرة" و"أنصار التوحيد" و"حراس الدين"، فضلًا عن ميليشيات مسلحة مدعومة من تركيا.

وكان من أكبر النجاحات التي حقّقتها القوات السورية المدعومة روسيًّا استعادة السيطرة على طريق إم-5 السريع الذي يربط بين دمشق وحلب. وفي الرد على ذلك، عززت تركيا من وجودها العسكري بنشر حوالي 9.000 جندي مدعومين بأسلحة ثقيلة في مناطق شمال غرب سوريا (إدلب، وحلب الغربية). كما صعّدت تركيا من نبرتها التهديدية عندما منح "أردوغان" "الأسدَ" مهلة حتى نهاية شهر فبراير 2020 للتراجع إلى الحدود التي حددها هو "وبوتين" في عام 2018 من أجل "منطقة خفض التصعيد" حول إدلب. وفي 19 من الشهر ذاته، حذّر "أردوغان" من أن الهجوم على الجيش العربي السوري قد صار وشيكًا، وهو ما يتسق مع الأهمية الاستراتيجية لإدلب في الحسابات التركية بسبب الموقع الجغرافي الاستراتيجي والتركيبة السكانية لإدلب التي تجعلها خاصرة رخوة لأمن تركيا القومي.

بيد أن الأمور بدت وكأنها تنحو للخروج عن السيطرة مع تصاعد التوترات في شمال غرب سوريا، في أعقاب مقتل 33 جنديًّا تركيًّا في هجوم لقوات النظام السوري المدعومة بالطيران الروسي يوم 25 فبراير 2020، ليرتفع قتلى الجيش التركي في إدلب إلى 54 على الأقل في فبراير وحده. فيما ردت القوات التركية بهجمات ضد مواقع لقوات النظام السوري، وأعلن وزير الدفاع التركي "خلوصي" أن بلاده قصفت أكثر من 200 هدف للنظام السوري عبر مقاتلات وطائرات مسيرة مسلحة، ما أسفر عن تحييد 309 عناصر من قوات النظام السوري، وتدمير 5 مروحيات، و23 دبابة، و23 مدفعية، ومنظومتين للدفاع الجوي طراز SA-17  وSA-22.

فيما اتّجهت موسكو إلى إظهار مزيدٍ من الحزم، إذ نقلت وكالة "إنترفاكس" للأنباء عن الأسطول الروسي في البحر الأسود قوله، إنه سيرسل سفينتين مزوّدتين بصواريخ من طراز كاليبر إلى المياه قبالة الساحل السوري، فيما يُعد مؤشرًا على رغبة موسكو في أنها لن تسمح لنظام "الأسد" بأن يتراجع إلى حدود سوتشي كما تطالب أنقرة، وأنها مستعدة لجميع الخيارات بما فيها التدابير العسكرية، وهو ما يتسق مع أهداف تحركات موسكو في المنطقة لزيادة مكتسبات القوات النظامية السورية، أو على أقل تقدير دفع القوات التركية والفصائل الموالية لها إلى الخطوط الخلفية، وتأمين أكبر قدر من مساحة محافظة إدلب التي يُفترض أنها مشمولة باتفاق روسي تركي لخفض التصعيد.

ملفات إقليمية متشابكة:

تتشابك التأثيرات المحتملة للتصعيد الذي تشهده إدلب لتطال عددًا من القضايا الإقليمية والدولية التي تتقاطع وتتباين فيها مصالح الدول والفاعلون المعنيون على نحو لافت. ويمكن -في هذا السياق- تحديد 3 ملفات بارزة، هي: 

1- اللاجئون السوريون: مع الاعتراف بأن أنقرة تستضيف بالفعل نحو 3.7 ملايين لاجئ سوري؛ غير أنه من المعروف كذلك أن تركيا توظّف ملف اللاجئين السوريين بشكل سياسي في إدارة علاقاتها الإقليمية، لا سيما مع الاتحاد الأوروبي، رغم ارتباط الجانبين باتفاقية للاجئين في 2016. إذ استخدمت  أنقرة ورقة اللاجئين لتدفع العواصم الأوروبية للضغط سياسيًّا على موسكو لتغيير سياستها في إدلب. فبعد أن هددت مرارًا وتكرارًا بفتح الحدود أمام اللاجئين للعبور إلى أوروبا، يبدو أن تركيا بدأت بتنفيذ هذه التهديدات من خلال السماح للاجئين بالتوجه صوب الحدود الأوروبية بالفعل، حيث توجّه مئات المهاجرين إلى حدود اليونان وبلغاريا، وسط أنباء تشير إلى أن تركيا توفّر حافلات مجانية لنقل اللاجئين للحدود، حيث تم تجميعهم في نقاط قريبة من الحدود مع كل من اليونان وبلغاريا، في مسعى منهم للوصول إلى العمق الأوروبي.

2- الأزمة الليبية: تؤكد تحليلات عدة أن توجّه روسيا للتصعيد مؤخرًا في إدلب إنما يأتي ردًّا على دخول أنقرة على خريطة الصراع في ليبيا، ودعمها لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا في مواجهة قوات اللواء المتقاعد "خليفة حفتر" المدعوم من موسكو، ومساهمتها في صد العدوان على العاصمة طرابلس ومحاولات السيطرة عليها، لا سيما في ظل ما يثار عن وصول سفن تركية تحمل شحنات أسلحة دعمًا للميليشيات الليبية في ميناء مصراتة، فضلًا عن نقل عددٍ كبيرٍ من المقاتلين والمرتزقة الموالين لتلك الميليشيات إلى الداخل الليبي، إلى جانب قيام تركيا بتركيب أنظمة دفاع مضادة للطائرات في مطار معيتيقة على بعد نحو 10 كيلومترات شرق طرابلس.

3- العلاقات بين واشنطن وأنقرة: تسبب إعلان أنقرة شراء منظومة "إس-400" في خلافات كبيرة بينها وبين واشنطن التي هددت بفرض عقوبات على تركيا وإلغاء صفقة بيع طائرات "إف-35"، كما ألغت أمريكا مشاركة تركيا في برنامج مشترك لإنتاج مكونات طائرات "إف-35"، وأوقفت تدريب الطيارين الأتراك عليها. ومن ثمّ لم يكن مفاجِئًا أن تستغل واشنطن التصعيد في إدلب لمغازلة أنقرة للتخلي عن أنظمة "إس-400" الصاروخية الدفاعية الروسية، معربةً عن أملها في أن تجبر الضربة السورية الموجعة للقوات التركية في إدلب أنقرة "على إعادة النظر في علاقاتها مع روسيا، والتخلي عن أنظمة إس-400". ومما يجدر ذكره أن واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) أعلنا دعمًا محسوبًا لتركيا في هذا السياق؛ إذ عقد الحلف اجتماعًا طارئًا بناءً على طلب تركيا، كما فعّل الحلف المادة الرابعة من ميثاقه، وتنص على أنه يمكن لأي عضو من الحلف أن يطلب التشاور مع الحلفاء كافة، عند شعوره بتهديد حيال وحدة ترابه أو استقلاله السياسي أو أمنه، وتشمل الإجراءات في حال اتفاق دول الحلف، تسيير دوريات لطائرات أواكس للإنذار المبكر في المنطقة، وزيادة العناصر العسكرية شرق المتوسط، وتعزيز التعاون في مجال الاستخبارات والاستطلاع والمراقبة.

سيناريوهات التصعيد والتهدئة:

تؤشر التفاعلات الإقليمية والدولية بخصوص التصعيد في إدلب إلى أن الطرفين غالبًا سيتجهان نحو التهدئة، إذ يرى مراقبون أن العلاقات بين أنقرة وموسكو أكبر من أن تنكسر في "إدلب" أو الملف السوري، ولا سيما في ضوء العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية بينهما في مجالات متنوعة كالطاقة والغاز والسياحة، إذ وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى أكثر من 35 مليار دولار، كما أن أنقرة تُمثّل لموسكو -المحاصرة جيوسياسيًّا- بوابةً لأوروبا والعالم. وهنا لا بد من التذكير بأن البلدين يتشاركان في مشروع "تورك ستريم"، الأنبوب الذي يمر عبر البحر الأسود من روسيا إلى تركيا لإيصال الغاز الروسي إلى أوروبا. كما تشارك روسيا أيضًا في مشروع ضخم آخر للطاقة في تركيا، هو مفاعل "أكويو" للطاقة النووية، المقرر أن يدخل مرحلة التشغيل في وقت لاحق من العام الجاري.

ومن ثمّ يمكن القول، إن التصعيد الحالي بين أنقرة وموسكو يُعد جزءًا من لعبة جس النبض وتسجيل نقاط بين الرئيسين "بوتين" و"أردوغان"، ولا يجب اعتباره نقطة تحول حقيقية في العلاقات قد تؤدي إلى صدام محتمل، نظرًا لطبيعة العلاقة الاستراتيجية بين موسكو وأنقرة على أكثر من صعيد. ولعل هذا ما يتأكد مع الانفراجة المحدودة التي شهدها الملف، والتي أعلنت عنها الخارجية الروسية، مؤكدة أن الجانبين التركي والروسي ناقشا الخطوات الملموسة من أجل خلق توازن دائم في منطقة خفض التصعيد بإدلب، بهدف التطبيق الكامل لمذكرتي 2017 و2018، واتفقا من ثمّ على خفض التوتر ميدانيًّا، وحماية المدنيين داخل وخارج منطقة خفض التصعيد في إدلب، وذلك إثر مباحثات عُقدت في العاصمة التركية أنقرة، على مدار 3 أيام، بين الوفدين التركي والروسي بخصوص الأوضاع في إدلب.

فيما أعلن الكرملين أن الرئيسين الروسي "فلاديمير بوتين" والتركي "رجب طيب أردوغان" قد يلتقيان الأسبوع المقبل في موسكو على خلفية تصاعد التوتر في سوريا. وقال المتحدث باسم الكرملين "ديمتري بيسكوف"، إنه يجري حاليًّا الإعداد على أعلى مستوى للقاء محتمل في موسكو في 5 أو 6 مارس، فيما يُرجَّح أن تكون القمة رباعية تضم كلًّا من تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا.