تأمين النفوذ:

دوافع تغير موقف إيطاليا في الأزمة الليبية

28 January 2020


تحتل ليبيا أولوية قصوى بالنسبة لإيطاليا نظرًا لمصالحها الاستراتيجية فيها من ناحية، وقربها الجغرافي منها ومدى تأثير التطورات الداخلية الليبية على الأمن القومي الإيطالي من ناحية أخرى. وبرغم ما توصل إليه مؤتمر برلين من نتائج تؤكد أنه لا يوجد حل عسكري للنزاع في ليبيا، وتعهد جميع الأطراف بخفض التصعيد واحترام اتفاق وقف إطلاق النار، إلا  أنه لازال هناك جدل حول مدى احترام الأطراف المختلفة لنتائج هذا المؤتمر.

تغير الموقف الإيطالي:

اتسم موقف إيطاليا منذ البداية بحالة من الغموض نوعًا ما حيال الأزمة الليبية، لكن مع قدر من الانحياز إلى جانب حكومة الوفاق الوطني في ليبيا برئاسة "فائز السرَّاج" منذ تشكيلها في عام 2016، حيث يدعون قدرة هذا الرجل على تحقيق أمن واستقرار البلاد، فضلًا عن حماية مصالح إيطاليا الاستراتيجية في ليبيا، وهو الموقف الذي تعارض مع مواقف بعض الدول الأوروبية الأخرى مثل فرنسا التي تدعم بدورها قائد الجيش الوطني المشير "خليفة حفتر".

بيد أن هذا الموقف الإيطالي قد تغيَّر في أعقاب التطورات الأخيرة في ليبيا، وخاصة بعد الاتفاق الذي وقَّعته أنقرة وحكومة الوفاق حول مناطق النفوذ البحري في البحر المتوسط، والاتفاق الآخر بشأن التعاون الأمني والعسكري بين البلدين والذي يسمح لتركيا بنشر قواتها في ليبيا، بما يهدد بشكل مباشر أمن واستقرار المنطقة، وهو ما دفع الحكومة الإيطالية إلى إعلان رفضها لهذا الاتفاق، ورفضها لأي تدخل خارجي في الصراع الليبي وتمسكها بالحل السياسي.

وجدير بالذكر أن الحكومة الإيطالية أعلنت في 21 ديسمبر الماضي رفضها طلب رئيس حكومة الوفاق الليبية "فايز السراج" تفعيل الاتفاقية الأمنية لحماية طرابلس، مؤكدة أنها ستواصل عملية تعزيز الاستقرار الشامل في ليبيا عبر التدخل السياسي لا العسكري.

في هذا الإطار، يبدو من الواضح أن التدخل التركي أربك جميع الحسابات الإيطالية، وذلك من ناحيتين؛ الأولى أن إيطاليا ترفض من حيث المبدأ أي تدخل خارجي في ليبيا قد يضر بمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية هناك، ويخصم من سمعتها الدولية في ليبيا كإحدى مستعمراتها السابقة. لذا ترفض تدخل فرنسا وانخراطها في ليبيا من خلال شركة "توتال"، وهو ما يؤدي للتعارض في موقفي البلدين من الأزمة. 

وترتبط الناحية الثانية برفض إيطاليا عسكرة الصراع الليبي، ومحاولة احتوائه في إطار الحل السياسي السلمي. ومن ثم فإن التدخل العسكري لتركيا عبر ميليشياتها سيطيل من أمد الصراع بما يضر بشدة بالمصالح الإيطالية، وفي الوقت ذاته يُضعف الوجود الإيطالي في ليبيا، ويفتح الباب لتدفقات هجرة المرتزقة، ليس إلى إيطاليا فحسب بل إلى أوروبا كلها، بما يهدد الأمن القومي لإيطاليا وأوروبا على السواء.

مصالح استراتيجية:

تواجه الحكومة الإيطالية موقفًا سياسيًّا حرجًا في الأزمة الليبية؛ إذ إن مصالحها مُعرضة للضرر في غالبية السيناريوهات، فكل خيار ستكون له تداعياته السلبية؛ فانضمامها لجبهة قائد الجيش الوطني الليبي المشير "خليفة حفتر" يؤثر بالسلب على مصالحها النفطية في ليبيا "شركة إيني" لصالح فرنسا "شركة توتال". وعلى جانب آخر فإن استمرار دعمها للسرَّاج سيتيح المجال لتركيا للتدخل العسكري وتوتير الأوضاع الداخلية، وأيضًا الإضرار بمصادر الطاقة واستكشافات الغاز.

من ناحية أخرى، مثَّل اجتماع برلين الذي عُقد في 20 يناير 2020، فرصة هامة لإيطاليا لمحاولة إيجاد موطئ قدم جديد في ليبيا. فبالرغم من أن الاجتماع لم يقدم حلًّا جذريًّا للأزمة، لكنه ساعد في إعادة وضع إيطاليا وأوروبا عمومًا في مركز إدارة الأزمات، وهو ما يمثل قيمة خاصة لروما، خاصة في ظل النشاط الدبلوماسي الأخير بين موسكو وأنقرة، والذي كان يمكن أن يؤدي إلى قرار روسي تركي يهمش المصالح الأوروبية.

لذا قبلت روما دورها كشريك صغير لبرلين وحاولت تهدئة باريس، وهو ما ترك إيطاليا في موقف متناقض إلى حد ما، وذلك لكون مصالحها في الأزمة الليبية -بدءًا من تدفقات الهجرة إلى أسواق الطاقة- أكبر بكثير من مصالح ألمانيا أو فرنسا.

بالإضافة إلى ذلك، أدركت روما أن مؤتمر برلين قد يكون، في أحسن الأحوال، نقطة الانطلاق لخريطة طريق جديدة للسلام في ليبيا. ومع ذلك، بدت الحكومة الإيطالية حريصة على تقديم نفسها كلاعب فاعل في المشهد الدبلوماسي لما بعد برلين، وهو ما اتضح في جدلها المتزايد حول نشر الجنود الإيطاليين كجزء من قوة حفظ سلام ومراقبة محتملة في ليبيا، والذي يلحق قرارها السابق بشأن إرسالها قوات عسكرية إضافية إلى ليبيا، من أجل ما أسمته "المساعدة في مكافحة الهجرة غير الشرعية والتهديدات الإرهابية".

من هذا المنطلق، تحاول إيطاليا إمساك العصا من المنتصف؛ إذ تبحث حاليًّا إمكانية تعزيز دعمها لقائد الجيش الوطني الليبي المشير "حفتر" أكثر حتى تتمكن من صد التدخل التركي العسكري في ليبيا، لكنها في الوقت ذاته لم تسحب اعترافها بشرعية حكومة الوفاق الوطني، وينبع ذلك التغير الملحوظ في الموقف من الأزمة الليبية من عدة أسباب، كالتالي: 

1- تأمين صادرات الطاقة والنفط:  حيث تعد شركة إيني الإيطالية أكبر منتج أجنبي للمحروقات في ليبيا، فضلًا عن أنه يتم استيراد النفط الخام والغاز الطبيعي من ليبيا إلى إيطاليا، بالإضافة إلى أن شركة إيني لها نصيب الأسد في استكشاف الغاز والنفط في شرق المتوسط، وستجني إيطاليا مبالغ طائلة من وراء هذه الاستكشافات نتيجة لمرور أنابيب النفط في أراضيها، ومن ثم فإن أي زعزعة لأمن واستقرار منطقة شرق المتوسط ستؤثر سلبًا على المصالح الإيطالية.

2- الهجرة غير الشرعية: وما تحمله معها من احتمالات دخول عناصر إرهابية لإيطاليا ومن ثم لأوروبا، وهو ما يُضيف أعباء اقتصادية وأمنية جديدة على إيطاليا هي في غنى عنها في المرحلة الحالية الصعبة التي تمر بها داخليًّا.

3- استعادة الدور المفقود: وإعادة ملء الفراغ السياسي المتروك لأطراف عديدة أوروبية "فرنسا وبريطانيا" وغير أوروبية "تركيا"، والحفاظ على نفوذها الاستراتيجي في المنطقة.

مسارات غامضة:

شهدت الأسابيع القليلة الماضية تحركات إيطالية نشطة على مختلف المستويات لتكثيف الجهود الرامية لاستعادة الاستقرار في ليبيا. ففي منتصف ديسمبر الماضي قام وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو بأول زيارة له إلى العاصمة الليبية طرابلس؛ اجتمع خلالها مع عدد من الوزراء في حكومة السراج، ثم اتجه نحو الشرق ليلتقي المشير خليفة حفتر في بنغازي ورئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح في طبرق.

كذلك حضر وزير الخارجية الإيطالي اجتماعًا وزاريًّا لوزراء الخارجية دعت إليه مصر في 8 يناير الجاري، وحضره وزراء خارجية فرنسا واليونان وإيطاليا وقبرص لبحث آخر تطورات الأزمة في ليبيا. بالإضافة إلى ذلك، حاول رئيس الوزراء جوزيبي كونتي عقد اجتماع غير مخطط له بين حفتر والسرَّاج في روما في 7 يناير، لكنه فشل لرفض السرَّاج لقاء حفتر ووصفه بأنه مجرم حرب.

وبرغم تلك التحركات الإيطالية النشطة، إلا أنها لم تساهم في تغيير الأوضاع على أرض الواقع في الوقت الحالي، حيث يسيطر الطابع التشاؤمي على معظم المسارات المحتملة، خاصة في ظل عدم وجود ضمانات لالتزام جميع الأطراف المنخرطة في الأزمة الليبية بما يتم الاتفاق عليه. 

فإذا تدخلت تركيا عسكريًّا في ليبيا، ستضطر إيطاليا إلى دعم الجيش الوطني الليبي لمواجهة هذا التدخل التركي، بما يُفقدها علاقتها مع حكومة الوفاق الوطني من ناحية، ويؤثر على علاقاتها السياسية مع تركيا من ناحية أخرى، وستتحمل في جميع الأحوال تداعيات مثل هذه المواجهة المباشرة على مصالحها الاقتصادية والنفطية في ليبيا.

ومن ثم لم يبقَ أمام إيطاليا إلا بديل واحد هو منع وصول النزاع إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين القوات العسكرية التركية والجيش الوطني الليبي، ولكي يتم ذلك تجد إيطاليا نفسها مضطرة لتنسيق موقفها مع الموقف الأوروبي بما فيه الفرنسي، لذا تم تفعيل التنسيق الاستخباراتي المشترك بين إيطاليا وفرنسا وألمانيا في الملف الليبي على أعلى مستوى لتوحيد الموقف الأوروبي في الأزمة.

من ناحية أخرى، قد تسعى إيطاليا، بالتعاون مع أوروبا، إلى اتباع سيناريو "فرض حظر طيران في ليبيا" وهو ما تجسَّد في تصريحات وزير الدفاع الإيطالي لورينزو جويريني في 25 ديسمبر الماضي، والتي اعتبرها البعض بمثابة جس نبض، خاصة أن إيطاليا لا يمكنها أن تقوم بذلك وحدها، لكنها بالتعاون مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا يمكنها ذلك.

وتظل هذه السيناريوهات مرهونة بمدى تسارع التطورات على أرض الواقع، وكذا مدى التزام جميع الأطراف بما تم الاتفاق عليه في مؤتمر برلين، وحدود قدرة إيطاليا على الاستجابة لها للحفاظ على مصالحها، وتجنب نشوب صراع مسلح آخر في ليبيا.