تهديد النفوذ:

لماذا تتبنى طهران سردية المؤامرة تجاه احتجاجات العراق؟

28 November 2019


تبنّى الداخل الإيراني موقفًا موحدًا على مستوى الجانب الرسمي وغير الرسمي بعد نشوب احتجاجات العراق، إذ سرعان ما تم تداول "سردية المؤامرة" بين جميع الأطراف المعنية في إيران، وهو الأمر الذي كان متوقعًا في ظل رفع التظاهرات شعارات معارضة لإيران وحلفائها والمطالبة بإنهاء نفوذهم في بغداد، وهو الأمر الذي إن تحقق فإنه يعني حرمان طهران من منفذ اقتصادي كانت تعتمد عليه لتجاوز العقوبات الأمريكية، وتضاؤل نفوذها في دولة كانت تستخدمها كورقة ضغط مهمة في مواجهة الفاعلين الإقليميين والدوليين.

معارضة طهران:

تُعد إيران من أكثر الدول اهتمامًا بما تشهده الساحة العراقية من احتجاجات انطلقت في أكتوبر 2019، نظرًا لما تمثله نتائج هذه الاحتجاجات من تداعيات على إيران داخليًّا وخارجيًّا، وما تشكله من تأثير على مصالحها في العراق، خاصة وأن مطالب هذه الاحتجاجات تتضمن إنهاء النفوذ الإيراني في العراق، وهو مطلب صريح جسده شعار "إيران بره بره" الذي رفعه المحتجون العراقيون، إذ يرى هؤلاء المحتجون أن إيران مسئولة عن التدهور في العراق من عدة جوانب، تتمثل في دعمها للأحزاب السياسية والسياسيين المتهمين بملفات فساد كبرى وهم حلفاء إيران في العراق. 

ويستثمر العديد من المتهمين بالفساد أموالهم في القطاع الاقتصادي الإيراني ويودعونها في المصارف الإيرانية، ولهذا يرى العديد من المحتجين أن أموال العراق المنهوبة تذهب لصالح إيران. ومن جانب آخر، تعد السوق العراقية أكبر منفذ لتصريف المنتجات الزراعية والصناعية الإيرانية. ويرى بعض المحتجين أنها المسئولة عن تعطيل قطاعي الزراعة والصناعة في العراق حتى تبقى السوق العراقية بحاجة إليها. 

ولم يقتصر الأمر على مجرد شعار أو مطلب لدى المحتجين العراقيين، بل تجسد فعليًّا بحرق مبنى القنصلية الإيرانية من قبل المحتجين في كربلاء، ورفع العلم العراقي على أسوارها، وحرق صور الساسة الإيرانيين، ورفع شعارات عدة مناوئة لإيران في العراق ووكلائها.

سردية المؤامرة:

ادّعى المسؤولون ووسائل الإعلام والوكالات الإخبارية، وجود مخططات ومؤامرات خلف الاحتجاجات العراقية، وأن التظاهرات ليست عفوية، وأن هنالك جهات تتآمر ضد "عادل عبدالمهدي" منذ وصوله إلى رئاسة مجلس الوزراء ورفضه الانصياع للرغبات والضغوط الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بالعقوبات على إيران، ولهذا فإن هناك جهات تعمل على إسقاط حكومته، أطلقت عليهم "وكالة مهر للأنباء" في مقال نشره موقعها في 7 أكتوبر 2019 بـ"سنة السلطة وشيعة السفارة" للدلالة على السياسيين الشيعة الذين لهم علاقات بقوى خارجية.

وتذهب الرواية الإيرانية إلى أن الجهات التي تقف خلف الاحتجاجات هي الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتتآمر هذه الدول من أجل إسقاط الحكومة العراقية وتشكيل حكومة جديدة تخضع للسيطرة وللإملاءات الأمريكية.

وعلى الرغم من اعتراف إيران بأن الاحتجاجات تتضمن مطالب مشروعة، مثل: تحسين مستوى المعيشة، ومحاربة الفساد، وتوفير فرص العمل؛ إلا أنها ترى أن وراء ذلك جهات تخطط للاحتجاجات تتبنى أجندات تآمرية لتقويض النظام السياسي في العراق، وأن هذه المخططات هي صهيوأمريكية ممولة من قبل جهات خارجية، ناهيك عن الرواية الإيرانية التي تذهب إلى أن الاحتجاجات هي مؤامرة اتضحت معالمها تهدف إلى إحداث فوضى خلاقة في العراق، وأن هنالك أيادي خفية أطلقت الشرارة الأولى للاحتجاجات بهدف ترسيخ الفوضى.

اتهامات رسمية:

صدرت تصريحات عديدة من مسئولين إيرانيين تؤكد أن "أعداء إيران" يقفون وراء هذه الاحتجاجات والاضطرابات في العراق، وقد نشر في الحساب الرسمي في تويتر للمرشد الأعلى "علي خامنئي" تغريدة نصت على "أن الأعداء يسعون للتفرقة بين العراق وإيران لكنهم عجزوا ولن يكون لمؤامراتهم أي تأثير". كما أطلق المرشد الأعلى على المشاركين في الاحتجاجات اسم "شيعة الإنجليز"، في إِشارة إلى أن "شيعة العراق" المحتجين يتبعون سياسة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية على حد زعمه.

وصرح رئيس مجلس الشورى الإيراني "علي لاريجاني" في أكتوبر 2019: "إن الأحداث الأخيرة في العراق مثيرة للقلق، ولكن نحن على ثقة بأن الشعب العراقي الحكيم سيحل هذه المشكلة"، وأضاف قائلًا: "إن تطوير العراق وأمنه لهما فائدة كبيرة لإيران، وبعض الدول لا تقبل الهدوء والأمن في العراق، ومنذ بداية السياسات العراقية الجديدة عارضها البعض وقاموا بأنشطة إرهابية ضدها".

وذهب مساعد رئيس مجلس الشورى الإيراني "حسين أمير عبداللهيان" في تغريدة له في تويتر إلى "أن هنالك أيادي خارجية خبيثة وراء زعزعة الاستقرار في العراق". وذكر أيضًا: "مع الأخذ في الاعتبار مطالب الشعب المدنية فإن حماة الإرهاب التكفيري وراء الأحداث الأخيرة في العراق، وهذه المؤامرة سيتم إحباطها أيضًا". كما قال "عبد اللهيان": "تسعى أمريكا وإسرائيل لاستغلال مطالب الشعب العراقي واستخدام البعثيين والمتسللين من أجل خلق حالة من عدم الاستقرار للإطاحة بالحكومة المنتخبة للتمهيد للتدخل الأجنبي" وذلك على حد تعبيره.

وأشار المتحدث باسم الحكومة الإيرانية "علي ربيعي" في مؤتمر صحفي يوم 7 أكتوبر 2019 إلى أن "مضمري السوء يريدون تخريب أي انفتاح بيننا وبين دول مجاورة". وأكد أن "الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما هو الحال دومًا، مستعدة للوقوف مع الإخوة والأخوات العراقيين وتقديم أي مساعدة لهم" كما ذكر نصاً.

يُضاف إلى هذا موقف وزارة الخارجية الإيرانية الذي جاء على لسان المتحدث الرسمي "عباس موسوي" في بيان له في 26 أكتوبر 2019 الذي ذكر فيه: "أن بلاده تعرب عن الأسف العميق عن سقوط عشرات القتلى والجرحى في الاضطرابات في العراق". وأضاف قائلًا: "طهران تتابع الوضع في العراق بحساسية ودقة عالية، وتدعم العراق، وجاهزة لوضع كل إمكانياتها في متناول يد البلد الشقيق والصديق والجار".

إدعاءات إعلامية:

لم يختلف موقف وسائل الإعلام الإيرانية، لا سيما المقربة من رموز ومؤسسات النظام الإيراني، كثيرًا عن الموقف الرسمي الإيراني تجاه احتجاجات العراق، من حيث اعتبار هذه الاحتجاجات مؤامرة إسرائيلية-أمريكية بتمويل جهات خارجية. فقد ذهبت وكالة أنباء فارس في مقال لها بعنوان: "ماذا وراء إثارة الفوضى في العراق"، إلى اعتبار ما يحدث في العراق من احتجاجات -بحسب هذه الوكالة- فوضى خلاقة تم التمهيد لها، والمؤامرة على العراق لإحداث فوضى خلّاقة فيه بدأت تتضح معالمها رويدًا رويدًا، وأن المخابرات البريطانية والأمريكية تقوم بإدارة الاحتجاجات. 

وأشارت "وكالة مهر للأنباء" في مقال لها بعنوان: "المظاهرات في العراق تم إعدادها وتنظيمها والدعوة لها منذ وقت طويل"، إلى أن هناك بعض الجهات الخارجية التي تتآمر لإسقاط حكومة "عبدالمهدي" بعد رفضه الاستجابة للضغوط الأمريكية فيما يتعلق بفرض العقوبات على طهران.

أما وكالة أنباء الطلبة الإيرانية فقد نشرت مقالًا بعنوان: "دور مربع الشر في افتعال اضطرابات العراق"، في 6 أكتوبر 2019، يُشير إلى "أن البعثيين والولايات المتحددة الأمريكية والكيان الصهيوني وجهات خارجية أخرى والجماعات المتطرفة التكفيرية الإرهابية، يشكلون أضلاع مربع الشر وعدم التنمية في العراق".

وذكرت صحيفة "كيهان" التابعة للمرشد الأعلى للثورة في إيران "أن الشعب العراقي سيقوم بإجهاض الفتنة الخارجية". وادعت الصحيفة حصولها على وثائق تثبت تورط الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في مظاهرات العراق.

وأشارت قناة "العالم" الإخبارية إلى وجود أيادٍ خفية تدفع الشارع العراقي نحو العنف والتخريب، وأن ثمة مجموعات تشبه "الخلايا النائمة" تحرض المتظاهرين على استفزاز الأجهزة الأمنية وتستدرجها للمواجهة المباشرة. أما موقع "مشرق نيوز" الإخباري المقرب من جهاز استخبارات الحرس الثوري الإيراني فقد قسم المحتجين في العراق إلى: بعثيين، وسنة دواعش، وشيعة منحرفين حسب زعمهم.

تداعيات متعددة:

تُعتبر الاحتجاجات الأخيرة تحديًا جديدًا لإيران في الساحة العراقية لما لها من تداعيات مختلفة تتمثل في مطالباتها بإنهاء التدخل الإيراني في العراق، وهو النفوذ الذي سعت إيران إلى ترسيخه في العراق بعد عام 2003 لما يشكله من أهمية لها ويمنحها أوراقًا للضغط في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، وقد ترسخ هذا النفوذ من خلال علاقات طهران الوطيدة مع العديد من القوى والأحزاب السياسية الرئيسية في العملية السياسية، ومن خلال علاقاتها بالفصائل والميليشيات العراقية المسلحة، بالإضافة إلى أنها تمثل أحد أهم مصادر الطاقة الكهربائية والغاز الطبيعي والسلع والبضائع بالنسبة للعراق. 

وجاءت الاحتجاجات لتهدد مصالح إيران في العراق، حيث طالبت بإنهاء نفوذ القوى والأحزاب الموالية لإيران في العراق، إذ نادي المحتجون بمحاسبة هذه الأحزاب، ناهيك عن المطالبة بإبعاد إيران عن العراق، وفي حال حدوث هذا الأمر فإنه سيؤدي إلى إضعاف دور حلفاء طهران في العراق عند إيجاد معادلة سياسية جديدة يكون الطرف الموالي لإيران فيها هو الأضعف.

من جانبٍ آخر، فإن طهران تتعرض لعقوبات أمريكية مشددة، ويمثل العراق بالنسبة لها المخرج الاقتصادي الأساسي والمتنفس الذي تمكنت خلاله من مقاومة هذه العقوبات لما يوفره لها من حصول على العملة الصعبة والتحايل على العقوبات من خلاله، كما أن إيران كانت تتخوف منذ بدء الاحتجاجات العراقية من انتقال عدوى الاحتجاجات إليها نظرًا لزيادة السخط الشعبي في الشارع الإيراني تجاه النظام وما يتعرض له المجتمع الإيراني من اضطهاد وتداعيات للعقوبات، ولكن هذا التخوف كان في محله، إذ انطلقت شرارة الاحتجاجات في إيران في نوفمبر 2019 على إثر رفع السلطات الإيرانية أسعار الوقود.

ختامًا، يمكن القول إن إيران اعتمدت على سردية المؤامرة في التعامل مع هذه الاحتجاجات، وتبنت موقفًا معارضًا لها على أساس أنها مخطط خارجي يستهدف العراق وإيران معًا. وفي حال استمرار الاحتجاجات فإنها ستكون بداية إنهاء النفوذ الإيراني في العراق بعدما فقدت طهران مؤيديها في الشارع العراقي، وربما تحرم إيران من متنفسها الاقتصادي الأبرز في حال نجاح الاحتجاجات.