الصدام القادم:

مستقبل التنافس الروسي - التركي على منطقة القوقاز

13 February 2019


عرض: أحمد عبدالعليم - باحث دكتوراه في العلوم السياسية

تُعتبر منطقة القوقاز إحدى أهم المناطق التي تشهد تنافسًا بين روسيا وتركيا في ظل اختلاف المصالح الاستراتيجية للبلدين في تلك المنطقة التي تُعتبر موطئ قدم لعددٍ من القوى الدولية (مثل: الولايات المتحدة، وروسيا)، وكذلك القوى الإقليمية (مثل: تركيا، وإيران، وإسرائيل)، وذلك في ظل موقع المنطقة الجغرافي الهام بين آسيا وأوروبا، وكذلك في ظل تمتّعها باحتياطات كبيرة من النفط والغاز والموارد الطبيعية، مما يجعلها منطقة جذب لتلك القوى.

وفي هذا الإطار، يأتي تقرير "ماذا لو؟ استكشاف الأفق: ١٢ سيناريو لعام 2021"، الذي نشره معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية (EUISS) في يناير 2019، وقد شارك في إعداده نخبة من المتخصصين والخبراء لبحث مستقبل أكثر من قضيّة، ومنها مقال بعنوان: "ماذا لو حدث صراع بين تركيا وروسيا في منطقة القوقاز؟"، والذي أعدّه الباحث "روديريك باركيز" وهو خبير في المعهد.

القوقاز كمجال للتنافس

يركز المقال على بحث التنافس الروسي التركي في منطقة القوقاز، وبالتحديد في الدول الثلاث التي استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق (وهي: جورجيا، وأرمينيا، وأذربيجان)، حيث مثلت المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إحدى مناطق التنافس بين موسكو وأنقرة؛ إلا أن القيادة السياسية في البلدين، وبالتحديد منذ عام 2000 مع وصول الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" إلى ولايته الرئاسية الأولى، ثم بعد ذلك بعامين مع تولّي "رجب طيب أردوغان" رئاسة الحكومة التركية في عام 2002؛ بدأتا في اتّباع سياسة تعاونية بدلًا من التنافس الذي قد يصل بهما إلى حدّ الصراع، وتم التوافق على بناء شراكة متعددة الأبعاد بينهما في تلك المنطقة الحيوية.

وتتمتع الدولتان بعلاقات متفاوتة مع الدول سالفة الذكر، حيث تعتبر العلاقات التركية متميزة مع كل من أذربيجان وجورجيا، ولكنها متوترة للغاية مع أرمينيا في ظل العداء التاريخي مع الأتراك. وفي المقابل فإن علاقة روسيا بأرمينيا متميزة، في مقابل علاقات متفاوتة مع أذربيجان وجورجيا.

صراع الممرات الخفيّ

يُشير الباحث إلى أن تركيا قد نجحت في تحقيق تعاون اقتصادي مع بعض دول جنوب القوقاز، وبالتحديد أذربيجان وجورجيا، حيث تمّ افتتاح خط سكك حديدية في أواخر عام 2017، وهو خط (باكو - تبليسي - قارص)، وهو الخط الذي يمتد مسافة (846 كم) عبر الدول الثلاث، ويربط بين أوروبا والصين، ويُعتبر جزءًا من طريق الحرير الجديد.

وقد تعرّض خط السكك الحديدية لأربعة انفجارات ضخمة، وقد نتج عنها تدمير بعض قطارات الشحن على الحدود الجورجية، علاوةً على فقدان 17 شخصًا، وتلف 16 ألف طن من الشحنات الفاخرة. وبالرغم من أن الانفجارات كانت على الحدود الجورجية، إلا أن معظم القتلى كانوا من أذربيجان وتركيا في ظل وجود عطلة للأرثوذوكس في هذا التوقيت، بما يشير إلى أن تلك التفجيرات كان لها بُعد ديني في ظل كون أغلب القتلى والضحايا من المسلمين.

ويُشير الباحث إلى أن ظهور البُعد الديني في ذلك الحادث يعود إلى أن هناك رفضًا من بعض الجورجيين للتنازلات التي قدمتها تبليسي إلى باكو، وكذلك فإن هناك دورًا خفيًّا لروسيا من وراء هذه التفجيرات لخط السكك الحديدية الذي يُعتبر جزءًا من طريق الحرير الجديد الذي ترعاه الصين، وهو الطريق الذي يُعد منافسًا لممر النقل الدولي بين الشمال الجنوب الذي ترعاه موسكو، وبالتالي فإن مثل تلك التفجيرات قد تقلل من ثقة المسافرين وكذلك العملاء في توفير عامل الأمان بخط (باكو - تبليسي - قارص).

وبالتالي فإن ظهور البُعد الديني يؤكد أن الدين يتم توظيفه من أجل الصراع على النفوذ والمصالح في منطقة القوقاز، وهو توظيف يتم من أجل تعزيز المصالح الاستراتيجية والاقتصادية، حيث تقوم تركيا بتوظيف الدين في توطيد علاقتها بدولة أذربيجان التي تقطنها غالبية مسلمة، في حين أن هناك غالبية من الأرثوذوكس في كلٍّ من أرمينيا وجورجيا تحاول روسيا توظيفهم بشكل معلن وكذلك بشكل خفي من أجل تحقيق مصالحها في منطقة القوقاز.

توتر العلاقات

في نوفمبر عام 2015، قامت قوات الدفاع الجوية التركية بإطلاق النار على مقاتلة روسية، مما أدى إلى سقوطها قرب الحدود السورية التركية، وقد وصف الرئيس الروسي "بوتين" ذلك الحادث بأنه بمثابة "طعنة في الظهر"، في إشارة إلى رفض الرواية التركية التي زعمت أن المقاتلة الروسية كانت قد اخترقت المجال الجوي التركي، وأن رد فعل الجيش التركي بإسقاطها هو واجب وطني ضد من يخترق المجال الجوي أو الحدود التركية.

ويُشير الباحث إلى أن ذلك الحادث قد أدى إلى انسحاب مجلس شورى المفتين الروسي من اجتماع المجلس الإسلامي الأوراسي الذي عُقد في مدينة إسطنبول بعد ذلك الحادث، كما توقفت السياحة الروسية إلى تركيا في ظل التوتر القائم بين البلدين، وأعلنت موسكو عن إجراءات عقابية أخرى، منها حظر استيراد بعض السلع التركية وبالتحديد المنتجات الزراعية، وذلك قبل أن يقوم "أردوغان" في منتصف عام 2016 بتقديم اعتذار رسمي لروسيا عن إسقاط المقاتلة الروسية، كما طالب "أردوغان" بضرورة الاهتمام بتسوية الوضع المتعلق بإسقاط المقاتلة، وإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين من جديد.

المحدد الأرميني

تُعتبر أرمينيا إحدى دول منطقة جنوب القوقاز، وهي دول هامة في تحديد مستقبل العلاقات الروسية التركية في منطقة القوقاز في ظل وجود علاقات قوية لأرمينيا مع موسكو في مقابل علاقات متوترة للغاية مع أنقرة.

فالعلاقات الأرمينية الروسية تتسم بأنها علاقات متميزة منذ أن حصلت يريفان على استقلالها من الاتحاد السوفيتي عام 1991. وتمتلك موسكو قاعدة عسكرية في أرمينيا جرى تمديد وجودها حتى عام 2044، وهو ما يعكس حجم التعاون بين البلدين.

ويصف الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" العلاقات بين البلدين بأنها "تحالف كامل"، وذلك في مارس من عام 2017 على هامش الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما. وبعد الاحتجاجات التي شهدتها يريفان في أبريل عام 2018، تحدث البعض عن التخوف من تأثير ذلك على العلاقات الأرمينية الروسية، إلا أن وصول رئيس جديد للبلاد بعد انتهاء فترة الحليف التقليدي لروسيا "سيرج سيركيسيان" لم يؤثر على طبيعة تلك العلاقات.

وفيما يتعلق بتركيا فإن علاقتها عدائية مع أرمينيا، وهي تعود لأسباب تاريخية تتعلق باتهام القوات العثمانية بالقتل الجماعي للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى. وبالرغم من توقيع الدولتين اتفاق سلام تاريخيًّا في عام 2009؛ إلا أن يريفان قامت بإلغاء هذا الاتفاق في مارس 2018، ولا توجد علاقات دبلوماسية بين البلدين.

وتدعم تركيا دولة أذربيجان التي لديها علاقات سيئة للغاية مع أرمينيا بسبب إقليم "ناجورنو كاراباخ"؛ وهي منطقة انفصالية تعيش فيها غالبية أرمينية ترفض سلطة أذربيجان، حيث تساند يريفان العرقية الأرمينية في الإقليم في نزاعهم ضد الحكومة الأذرية، وهو ما يدفع بمواجهات عسكرية مستمرة بين البلدين.

استشراف المستقبل

يُبرز الباحث وجود توترات قائمة بين الجانب الروسي والتركي في ظل محاولة أنقرة تعزيز محور إسلامي في القوقاز، وكذلك في ظل التداخل بين الجغرافيا السياسية والعامل الديني من جهة، والمنافسة الجيواستراتيجية على طرق التجارة والممرات التي لها عوائد اقتصادية هامة على الدول المشتركة بها من جهة أخرى.

ويطرح الباحث إمكانية تعزيز التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا فيما يتعلق بالطموح الجيواستراتيجي حول العالم، بما في ذلك منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، إذ إن التعاون الروسي الأمريكي من شأنه أن يجعل الدولتين تسيطران على طرق التجارة العالمية، وتهمّشان أي دول أخرى ومنها تركيا التي تسعى لتعزيز مصالحها الاستراتيجية مع دول القوقاز، بما يمكن أن يحدث صراعات بين روسيا وتركيا في منطقة القوقاز.

بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن هناك مناطق جغرافية أخرى حول العالم تتشابك فيها المصالح الروسية التركية، ومنها منطقة الشرق الأوسط، ووجود درجة كبيرة من التنسيق بين الدولتين في ملفات متعددة فيها، وهي مصالح تؤثر في بعضها بعضًا، حيث إن القيادة الروسية والتركية تدركان أهمية تجنب الخلافات من أجل تحقيق قدر أكبر من التعاون بينهما.

وبالتالي فإن هذا المقال يطرح الملمح الصراعي في العلاقات الروسية التركية في منطقة القوقاز دون تفنيد الأسباب الكافية لحدوث ذلك في المستقبل القريب، أو حتى من خلال استعراض تغيُّر جوهري في علاقات الدولتين في منطقة القوقاز بشكل يمكن أن يُفهم من خلاله مصداقية حدوث صراع بين الدولتين في تلك المنطقة.

ويُمكن إدراك عدم جنوح الدولتين إلى الصراع من خلال مبادرة تركيا إلى تقديم الاعتذار لروسيا، بعد مماطلة قصيرة المدى، عن حادث إسقاط الطائرة الروسية، وقبول موسكو لذلك الاعتذار، ورفع درجة التنسيق بينهما في الملف السوري، بالرغم من اختلاف الرؤى حول مسار الحل السياسيّ، وتعارضها حول مستقبل المسألة السورية.

وقياسًا على ذلك فإنه من الصعب التسليم بإمكانية حدوث صراع بين الدولتين في المستقبل القريب في منطقة القوقاز، مع التأكيد على وجود تنافس بين الدولتين يتم فيه توظيف كافة أدوات النفوذ المتاحة، بما في ذلك العامل الديني، دون أن يعني ذلك تحول التنافس بين الدولتين إلى حد الصراع أو الصدام فيما بينهما، على الأقل في المدى القريب.

المصدر:

Roderick Parke, “What If…Turkey And Russia Clash In The Caucasus?”,  in in Florence Gaub (Editor), “What If…? Scanning The Horizon: 12 Scenarios For 2021” (Paris: European Union Institute for Security Studies (EUISS), January 2019), p.39-43.