تسييس محتمل:

لماذا تجري العراق مفاوضات مع روسيا؟

28 November 2018


تسعى العراق إلى إجراء مباحثات مع روسيا، في ديسمبر المقبل، حول استيراد القمح الروسي، وذلك في خطوة تستهدف، على ما يبدو، تنويع مصادر واردات القمح، بدلاً من الاعتماد بشكل شبه كلي على أنواع القمح الأمريكي والكندي والأسترالي. وتأتي هذه الخطوة في ظل تراجع الإنتاج المحلي من القمح مؤخرًا، على ضوء شح مياه الأنهار والأمطار، في الوقت الذي تحاول الحكومة أيضًا توسيع نطاق الشراكة الاقتصادية مع روسيا في مجالات مختلفة أبرزها الطاقة. وربما توفر هذه الخطوة للحكومة مساحة كبيرة للمناورة لاستيراد القمح من الأسواق العالمية بأسعار أكثر تنافسية.

فجوة متزايدة:

اضطرت وزارة الزراعة العراقية، في المواسم الزراعية الثلاث الماضية، إلى تقليص المساحة المتاحة لزراعة محاصيل مثل الأرز وغيرها من المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه بسبب موجات الجفاف، كنتيجة لانخفاض هطول الأمطار وتناقص تدفقات المياه في نهرى دجلة والفرات بسبب بناء السدود في كل من إيران وتركيا، وهو ما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير في الفترة الماضية.

وبالنسبة لمحصول القمح، فقد فرض شح المياه أيضًا ضغوطًا متزايدة على إنتاج المحصول مؤخرًا، في الوقت الذي من المتوقع أن تتقلص المساحة المزروعة بالقمح بنصف مليون هكتار في الموسم الحالي (2018/2019).

فضلاً عن ذلك، ترك تنظيم "داعش"- رغم طرده من المحافظات الشمالية- آثارًا سلبية طويلة الأمد على القطاع الزراعي. ووفقًا لتقييم منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، تسبب التنظيم في تدمير ما بين 70-80% من الأراضي الصالحة للزراعة في محافظة صلاح الدين، وتسبب في تدمير الأراضي المخصصة لإنتاج القمح بنسبة 32% في المحافظة نفسها، ونحو 68% في محافظة نينوى.

وعلى ضوء ذلك، تشير بعض التقديرات إلى أن إنتاج العراق من القمح سوف يتراجع بأكثر من الربع، أى أنه سوف يقل بكميات تصل إلى نحو 800 ألف طن عن مستوى الموسم الماضي ليبلغ 3.2 مليون طن في الموسم الحالي، وهو ما ينبغي تعويضه من خلال زيادة الواردات من الخارج.

إمكانيات روسية:

تعد روسيا إحدى القوى الرئيسية في سوق القمح العالمي، حيث تأتي ضمن أكبر خمس منتجين أو مصدرين للقمح على مستوى العالم مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وأوكرانيا، وبإمكانها، بلا شك، تلبية بعض احتياجات العراق من القمح في الأجل القصير طالما أنها تستطيع التجاوب مع معايير الجودة العراقية.

ويتمتع القمح الروسي بجاذبية أسعاره بالنسبة للمستهلكين حول العالم، حيث تقل أسعاره بما يتجاوز 20 دولارًا للطن الواحد عن الأنواع العالمية الأخرى. وفي أكتوبر الماضي، على سبيل المثال، سجل الطن الواحد من القمح الروسي نحو 228 دولار (دون احتساب تكلفة الشحن)، ويقل بذلك بـ7 دولارات عن القمح الأمريكي، ونحو 37 دولار عن القمح الكندي، وهما المصدران الأساسيان لواردات القمح العراقية.

لكن هذه الأسعار تتفاوت وفقًا لعوامل أخرى مثل جودة القمح ذاته وتكلفة الشحن ومستويات العرض والطلب العالمي على المحصول. وإلى جانب ذلك، يعطي القرب الجغرافي لموانئ شحن القمح الروسي على البحر الأسود من منطقة الشرق الأوسط ميزة أخرى لاستيراده من قبل دول المنطقة بما فيها العراق.

وفيما يبدو، فإن المزايا السابقة كانت ضمن أسباب اتجاه العراق إلى إجراء مباحثات مع روسيا لاستيراد القمح الروسي، وهو ما أشار إليه وزير التجارة العراقي محمد هاشم العاني بقوله، في 14 نوفمبر الجاري، أنه سيتم إرسال وفد إلى روسيا في ديسمبر المقبل لتقييم جودة وملائمة القمح الروسي للاستخدام العراقي. ويتزامن ذلك مع استعداد هيئة الرقابة الزراعية الروسية لتلبية احتياجات العراق من الحبوب.

وبخلاف الأسباب الفنية البحتة، تدرك العراق مدى أهمية تعزيز الشراكة مع روسيا في مختلف جوانبها، لما لها من مردود سياسي واقتصادي عليها. ففضلاً عن حجم استثمارات الشركات الروسية، مثل "غازبروم نفط" و"لوك أويل"، في مجال الطاقة بالعراق والبالغة نحو 10 مليار دولار، والتي يتركز معظمها في إنتاج النفط، فقد أبدت الشركات الروسية مؤخرًا استعدادًا غير مسبوق للمشاركة في التنقيب عن الغاز في الأراضي العراقية.

وقد اتفقت الدولتان على تعزيز مشاركة الشركات الروسية في إنتاج الغاز وتصديره في المستقبل، وذلك على هامش استقبال فؤاد حسين وزير المالية العراقي في بغداد ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي والمبعوث الخاص للرئيس فلاديمير بوتين، في 21 نوفمبر الجاري. كما تبدي الشركات الروسية استعدادًا غير مسبوق للمشاركة في إعادة إعمار العراق خاصة في مشروعات البنية التحتية.

ولأسباب سياسية، تحاول الحكومة العراقية رفع مستوى التعاون مع روسيا خاصة مع تنامي دور الشركات الروسية في عمليات التنقيب واستكشاف وإنتاج النفط والغاز الطبيعي بإقليم كردستان، ويتمثل أبرزها في شركة "روسنفت"، التي وقعت في العامين الماضي والجاري، عقودًا مع إقليم كردستان، لاستثمار ما يصل إلى 4 مليار دولار في قطاع الطاقة، وهو ما تعتبره العراق غير قانوني في ظل عدم الحصول على موافقة الحكومة المركزية. ومن ثم يمثل توسيع نطاق التعاون بين البلدين فرصة للتنسيق بشأن استثماراتها بقطاع الطاقة في إقليم كردستان.

وعلى الجانب الآخر، فإن الوصول لاتفاق مع العراق بشأن توريد القمح سوف يمثل مكسبًا تجاريًا كبيرًا لروسيا التي تسعى إلى الحصول على حصة بسوق استهلاكية واسعة مثل العراق قد تتزايد وارداتها السنوية من القمح أكثر من القيمة البالغة حاليًا 700 مليون دولار، وهو ما يأتي في وقت مهم تراجع فيه حجم الصادرات الروسية للسوق العراقية في عام 2017 إلى 255.5 مليون دولار مقابل 916.8 مليون دولار في عام 2016.

مساحة للمناورة:

يفرض توصل العراق إلى اتفاق مع روسيا لاستيراد القمح مكاسب عديدة يتمثل أهمها في منح العراق مساحة للمناورة حول أسعار توريد القمح من الأسواق العالمية المختلفة، وخاصة في ظل صعوبات جذب شركات تجارة القمح العالمية للمناقصات التي تجريها شركة تجارة الحبوب العامة العراقية، وبما اضطر الحكومة للسماح للشركة، منذ مايو 2017، بشراء القمح والأرز بنظام صفقات التفاوض المباشرة، إلى جانب المناقصات.

واللافت للانتباه في هذا السياق، أن العراق تستورد قسمًا كبيرًا من احتياجاتها في ظل نظام الصفقات المباشرة، مثلما فعلت في أغسطس من العام الجاري، عندما تعاقدت مع شركة "كارجيل" الأمريكية لشراء نحو 200 ألف طن من القمح الأمريكي المنشأ ليتم تسليمه في غضون 75 يومًا، و100 ألف طن قمح من كندا تسلم خلال 105 أيام، على نحو قد يجعل الموردين يحددون أسعارًا غير تنافسية أو فوق مستوى أسعار السوق بعلاوات سعرية كبيرة.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن دخول مُورِّد آخر إلى سوق القمح سوف يعطي الحكومة العراقية فرصة لتزويدها بالقمح بأسعار أكثر تنافسية، كما سيجعلها أكثر قدرة على مواجهة الظروف الطارئة التي يتعرض لها الإنتاج الزراعي بالسرعة وبالشكل المطلوب. ورغم ذلك، تظل الجودة إحدى الانتقادات العراقية الموجهة للقمح الروسي، نظراً لاحتوائه على نسبة عالية من الجلوتين الذي قد لا يتناسب مع إنتاج دقيق صالح لبرنامج دعم الغذاء العراقي.