توسع مكاني وطبقي:

هجمات باريس وقضية الضواحي من جديد

01 December 2015


أعادت الهجمات الإرهابية التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس مساء الجمعة 13 نوفمبر الماضي، المتمثلة في تفجيرات واحتجاز رهائن وإطلاق رصاص، وما تبعها من إجراءات أمنية في الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبلجيكا، طرح قضية سكان الضواحي من جديد، كونها تهدد الجبهة الداخلية، على مستوى الوجود والمساواة والانتماء والتأقلم والمشاركة، وذلك بالنظر إلى أن معظم من خطّط وشارك ونفّذ العمليات الإرهابية في الماضي والحاضر من سكان تلك الضواحي.

في الوقت الرّاهن لم تعد مسألة سكان الضواحي، مُركَّزة على الحيِّز الجغرافي، لجهة تحصيل حقوق السكان المهمّشين في ضواحي العواصم والمدن الكبرى، كما ظهرت في الانتفاضة التي عاشتها باريس، وتابعنا تفاصيلها منذ عشر سنوات (تحديداً في 27 أكتوبر 2005)، وإنما تجاوزتها إلى تحديد الانتماء من حيث الأصول الأولى حتى لو كانت بعيدة أولاً، والهوية الدينية حتى لو حملت فهماً خاطئاً ثانياً.

وعلى خلاف ما ساد إلى وقت قريب، كشفت هجمات باريس الأخيرة، اعتماداً على تجربة عقلها المدبّر، أن العناصر المنضوية تحت الجماعات الإرهابية لم يعد دافعها الفقر أو الجهل كما كانت في الماضي، وإنما شعورها بوجود اختلاف على أساس أممي ـ ديني بالأساس، والحوار الذي أجرته مجلة" دابق" الصادرة عن تنظيم "داعش" الصيف الماضي مع العقل المدبر لهجمات باريس، المتشدد البلجيكي، المنحدر من أصول مغربية،  عبدالحميد أباعود، يؤكد ذلك، فهو يعتقد أنه يحارب الكفار في أرضهم.

إرهاب الطبقة المتوسطة

عملياَّ لا يُعتبر عبدالحميد أباعود، المولود عام 1987 في بلجيكا بمنطقة مولنبيك ببروكسل، من سكان الضواحي من الناحية الاقتصادية على الأقل، كما أنه لم يُعانِ من التهميش المجتمعي، أو من العداوة والتمييز الثقافي والإثني؛ فهو ابن تاجر نشأ في أسرة محسوبة على الطبقة المتوسطة، وهاجر إلى بلجيكا قبل أربعين عاماً، وتصريح والده عمر أباعود للصحافة البلجيكية في بداية عام 2015 يٌدعَّم الرأي السابق، فقد ذهب إلى القول:".. عبدالحميد كان يعيش حياة جيدة، ولم يكن عنيداً، وبعد الدراسة أصبح تاجراً ناجحاً، لكنه فجأة رحل إلى سوريا"، وتساءل، مثل الآخرين، عن الأسباب التي جعلت ابنه يتحول فجأة لمتشدد"، وبالتأكيد ليست الأسباب التي تدفع بسكان الضواحي إلى الانتفاضة لتغيير واقعهم المأسوي.. لقد سعى لتغيير العالم في محاولة يائسة للقضاء عليه من خلال تغييب الأمان في المجتمعات الغربية والمسلمة أيضاً.

هجمات باريس هي نتيجة لنشاط أباعود المتواصل، فقد سبق له أن خطَّط لشنِّ هجمات في مدن أوروبية، لكن تم إجهاضها بأكثر من طريقة، كما أن الشكوك تحوم حول مشاركته في مخطط لتفجير كنيسة بمنطقة فيلجويف، في منطقة إيل دو فرانس، في 19 أبريل 2015، كما كان أباعود طرفاً مدبراً أيضاً في مخطط لاستهداف قاعة حفلات في أغسطس الماضي، إضافة إلى المشاركة في استهداف قطار تاليس الفرنسي، في الشهر نفسه.

إلى ذلك، ظل أباعود على اتصال بالمتشدد مهدي نموش، الذي جرى اعتقاله وتسليمه إلى بلجيكا، إثر الاشتباه في مهاجمته المتحف اليهودي ببروكسيل، وهو مواطن بلجيكي، وعضو نشط في تنظيم "داعش"، يدعو نفسه أبو عمر السوسي، ويكنى بـ"أبو عمر البلجيكي".

وفي بداية عام 2014، شكّل نموش مادة رئيسية لعناوين الصحف البلجيكية عندما رحل إلى سوريا واصطحب معه أخاه الأصغر يونس (13 عاماً)، الذي بات يعرف حسب تلك الصحف بـ "أصغر جهادي في العالم"، وظهر بعدها في شريط فيديو بلحية ولباس أفغاني يقود سيارة محملة بجثث مقيدة ومشوهة، ويفتخر فيه بالقتل، ومع هذا كلّه أثار العديد من التساؤلات بعد هجمات باريس الدامية، منها: كيف نجح في مراوغة المخابرات البلجيكية والفرنسية؟!

إخفاق المخابرات الأوروبية

لم تُقَدِّم وسائل الإعلام الأوروبية إجابة عن السؤال السابق، غير أن جريدة لوموند الفرنسية اعتبرت مسار أباعود دليلا على إخفاق المخابرات الأوروبية أمام ظاهرة الإرهاب، ذلك أنه استطاع أن يغادر إلى سوريا في مطلع عام 2013، قبل أن يعود إلى بلجيكا في نهاية العام نفسه عبر اليونان، ويعود بعدها إلى سوريا مرة أخرى"، لكن المخابرات الفرنسية صنَّفتْه ضمن قائمة العناصر الخطيرة، بدليل أن اسمه رشّح بقوة في قائمة مستهدفي الغارات الفرنسية على "داعش" في سوريا.

ومهما يكن مسار وحركة أباعود، فالواضح هو التغير في مفهوم سكان الضواحي عملياً، وإن كان من السابق على أوانه اعتباره تغيراً كلياً، ذلك لأن إعلان النائب العام الفرنسي، فرانسوا مولينس، بتاريخ 16 نوفمبر الماضي، بَيَّن تَفجٌّر أوضاع سكان الضواحي، لكن هذه المرة على نطاق واسع ودموي، فقد ذكر أنه تمّ تحديد هوية خمسة من منفذي الهجمات، اثنان منهم سكنا بلجيكا على الرغم من أنهما من حاملي الجنسية الفرنسية، ويبلغ أحدهما، وهو من المهاجمين الثلاثة الذين فجروا أنفسهم أمام ملعب "ستاد دي فرانس"، من العمر 20 عاماً، أما الثاني البالغ من العمر 31 عاماً، فهو الذي فجَّر حزامه الناسف في بولفار فولتير.

وهناك مهاجم آخر، حُدَّدت هويته، هو عمر إسماعيل مصطفائي (29 عاماً)، وقد كان ضمن مجموعة قاعة "باتكلان"، وهو فرنسي مولود في ضواحي باريس. كما أعلنت النيابة العامة البلجيكية أن فرنسيين اثنين أقاما في حي مولينبيك، هما ضمن المهاجمين الذين نفذوا اعتداءات 13 نوفمبر.

كما تحدثت وسائل إعلام فرنسية في 16 نوفمبر عن تحديد هوية مهاجم رابع، إذ اتضح أنه كان من سكان ضواحي العاصمة، ويدعى سامي عميمور، وتسكن أسرته في مدينة في سان ديني بضواحي باريس.

استطلاع " سوديسكا"

كل تلك المعلومات تشير إلى مشاركة سكان الضواحي الفرنسية، من حيث الانتماء الجغرافي والاجتماعي المباشر، في العمليات الإرهابية، ما يعني استمرار عدم تغيُّر الأوضاع نحو الأحسن بعد مرور عشر سنوات على اندلاع المواجهات بين شبانها والشرطة الفرنسية.

وقد كشف استطلاع للرأي أجراه معهد "سوديكسا" ونشرته جريدة "لوباريزيان" بتاريخ 16 أكتوبر الماضي، "أن نظرة الفرنسيين للضواحي لاتزال سلبية، وأن سكان هذه الأحياء الفقيرة لم يخرجوا بعد من النفق الاجتماعي والاقتصادي.. كما أن صورة الضواحي لم تتغيّر كثيراُ في عيون الفرنسيين، الذين لايزالون يملكون بعض الأفكار النمطيَّة، أبرزها: أن الضواحي مناطق فقيرة وخطيرة ويعيش فيها سكان من أصول وثقافات متشابهة ويتقاسمون نفس طريقة العيش، وأن هذه الأفكار النمطيَّة مُتَجذِّرة في عقول الفرنسيين عموماً، ولدى سكان الضواحي أنفسهم على وجه الخصوص".

من ناحية أخرى، أظهر استطلاع الرأي أيضاً أن 62% من الفرنسيين يعتقدون أن سكان الضواحي الشعبية لا يتصرفون بشكل لائق ولا يحترمون الآخرين، وهذه النسبة ترتفع إلى 78% لدى أنصار اليمين، مقابل 48% عند أنصار أحزاب اليسار.

وفي سؤال هل تعتقدون أن الوضع تغير في الضواحي بعد مرور عشر سنوات؟: أجاب 68% من المستطلعين بـ "لا"، مشيرين إلى أن الدولة الفرنسية لم تقم بما فيه الكفاية من أجل تحسين ظروف معيشة سكان هذه الضواحي.

ماير.. وسجون فرنسا

من جهة أخرى يعتقد الخبير الألماني في الجماعات الإرهابية، غونتر ماير، مدير مركز بحوث العالم العربي في جامعة ماينز، أن خيوط الهجمات التي استهدفت العاصمة الفرنسية تشبه تلك التي استهدفت مجلة تشارلي إيبدو"، مُرَجِّحاُ فرضية وجود تهديد إرهابي كبير في فرنسا، وأن تنامي الإرهاب فيها أصبح أمراً مثيراً للقلق، وهذا قد يؤدي في رأيه إلى تقسيم مجتمع بأسره، مؤكداّ أنه "قبل عام، تم التحذير من أن السجون الفرنسية قد تحولت إلى شبكات تكوين خلايا إرهابية، وهذا ما يفسر تنامي خطر الجماعات الإرهابية في فرنسا، فالسجون تجعل الشباب يتطرف أكثر، وإطلاق سراحهم يعني بالضرورة إطلاق إرهابيين مستعدِّين للقيام بعمليات إرهابية ضد مجتمعهم".

ويرجع غونتز ماير تفشي الإرهاب في فرنسا إلى "أن سكان ضواحي باريس يعانون أوضاعاً اجتماعية واقتصادية صعبة، حيث يعيش هناك أغلبية من المسلمين والمهاجرين، كما أن البطالة منتشرة بكثافة، والشباب ليس لهم آفاق كبيرة، وهذا هو المناخ المثالي لنمو الإرهاب.. ناهيك عن شعور شباب الضواحي بالتهميش، كل هذا جعلهم يلجؤون إلى الإسلام، لأنه يُشكِّل - حسب رأيهم -  هويتهم الحقيقية، كما أن انعزالهم عن غالبية المجتمع الفرنسي حوَّلَهم إلى إسلاميين متطرفين".

ليس هناك ما يؤكد على أن الجاليات المسلمة في الدول الأوروبية، خاصة تلك التي تعيش في الضواحي، تواجه نفس المصير التي يواجهه سكان باريس وباقي المدن الفرنسية، فتلك لها مشكلات من نوع آخر، لكن الذي أصبح واضحاً أن دائرة الإرهاب تتسع في أوروبا مثلما تزداد انتشاراً في العالم كله، لذلك وجب البحث عن الأسباب الظاهرة والخفية لأن التعويل عن الحل العسكري والأمني لا يكفي وحده، بل قد يساعد على انتشار الأعمال الإرهابية على نطاق واسع، وما العمليات التي تتكرر هنا وهناك منَّا ببعيد!.