دوافع أنقرة:

دلالات دخول قوات تركية إلى مدينة الموصل

08 December 2015


أثار دخول فوج من القوات التركية مدرعاً بعدد من الدبابات والمدافع الأراضي العراقية يوم 4 ديسمبر الجاري، إلى منطقه بعشيقة الواقعة بالقرب من حدود إقليم كردستان في محافظة نينوى، أزمة سياسية بين كل من تركيا والعراق، وجاء التبرير التركي بدخول قواته بحجة تدريب مجموعات عراقية، ولكن تكمن المشكلة من وجهة النظر العراقية في عدم الحصول أو طلب إذن من السلطات الاتحادية العراقية؛ الأمر الذي اعتبره العراق انتهاكاً واضحاً لسيادته، وخطوة لا تتناسب مع علاقات حسن الجوار بين العراق وتركيا، وهو ما يثير التساؤل حول أبرز دوافع اتخاذ أنقرة مثل هذه الخطوة، وما لها من تداعيات على الداخل العراقي في المرحلة اللاحقة.

توقيت التدخل التركي وتبريراته

تجدر الإشارة بدايةً إلى أنه في إطار التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، فتحت الحكومة التركية في نهاية عام 2014 عدداً من معسكرات التدريب لقوات البيشمركة لمساعدتها على خوض حرب الشوارع في المناطق المأهولة بالسكان وكيفية التعامل مع المتفجرات اليدوية والإسعافات الأولية. ويقع أحد هذه المعسكرات في سوران في أربيل، والآخر في قلاجولان في السليمانية، كما تم فتح مركز آخر لتدريب القوات العراقية قرب الموصل، وهو معسكر زلكان بناحية بعشيقة التي تبعد عن محافظة الموصل بحوالي 30 كم من جهتها الشمالية الشرقية، تدريب الحشد الوطني، والذي يعتبر قوة تتكون من رجال شرطة عراقيين سابقين ومتطوعين من الموصل، أنشأها المحافظ السابق أثيل النجيفي لمواجهة تنظيم "داعش".

كما جاءت التبريرات، سواءً من الجانب التركي (رئيس الوزراء أحمد دواد اوغلو) أو من جانب بعض القوى السياسية العراقية (أثيل النجيفي المحافظ السابق للموصل) وبعض القيادات في إقليم كردستان العراق، بأن ما قامت به تركيا هو إجراء روتيني لاستبدال القوات التركية في المعسكر بأخرى جديدة، وأن تدريب العراقيين فيه بدأ بناءً على طلب مكتب محافظ الموصل وبالتنسيق مع وزارة الدفاع العراقية في فترة سابقة، وليس للأمر أي علاقة بنية الجانب التركي بتوسيع عملياته العسكرية في العراق.

ولدى قراءة التدخل التركي في العراقي خلال الأيام القليلة القادمة، يمكن الإشارة إلى عدد من النقاط تتعلق بتوقيت هذا التدخل، وما له من تداعيات على الداخل العراقي ومساحات الحركة العراقية المتوقعة خلال الفترة القادمة.

من حيث التوقيت، تتواجد القوات التركية داخل الأراضي العراقية بموجب اتفاق مبرم منذ نحو عامين بين العراق وتركيا ضمن الشريط الحدودي بين البلدين، أي أن ذلك حدث بعلم ومعرفة الحكومة العراقية، علاوة على تأطير التواجد التركي في شمال العراق وفق اتفاق بين تركيا ونظام صدام حسين الأسبق، حيث وقعت أنقرة اتفاقاً مع صدام حسين يسمح لها بمطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني إلى مسافة لا تتعدى 20 كيلومتراً في مناطق محددة عند المثلث الإيراني ـ التركي ـ العراقي.

وجاءت هذه الخطوة بعد فترة وجيزة من إعلان الإدارة الأمريكية عزمها إرسال قوة استكشاف متخصصة لمساعدة القوات العراقية والبيشمركة، وذلك بالتنسيق التام مع الحكومة العراقية، حيث يتمركز أكثر من 3500 جندي أمريكي، للمساعدة في تنفيذ عمليات محددة ضد " داعش"، وهو ما يعني إحراج حكومة حيدر العبادي التي أعلنت أن العراق بحاجة فقط إلى التدريب والسلاح والاستشارة من المجتمع الدولي، وليس بحاجة إلى قوات أجنبية مقاتلة على أراضيه.

وعلاوة على ذلك جاءت هذه الخطوة التركية بعد إسقاط القوات التركية المقاتلة الروسية من طراز سوخوي 24 في جبل التركمان داخل سوريا المحاذية للحدود التركية، والذي كان السبب المباشر في التصعيد التركي ـ الروسي، مما دفع روسيا إلى زيادة حجم تواجدها العسكري بأسلحة استراتيجية، ومنها صواريخ إس 400 ومقاتلات استراتيجية، وهو ما يعني مزيد من التهديد لكافة دول الجوار العراقي والسوري، لذلك فإنه يمكن تفسير الخطوة التركية، وفي هذا التوقيت، بأنها تبعث برسالة إلى موسكو بأنها لن تسمح للوجود العسكري الروسي أن يتمدد في سوريا وفي العراق على حساب مصالحها الاستراتيجية فيهما، خاصة في المنطقة الغربية من العراق، والتي تحتفظ فيها بعلاقات واسعة مع رؤساء عشائر وأحزاب سنية.

دلالات التدخل التركي في العراق

أما من حيث التداعيات، فيلاحظ أن حكومة العبادي قد اتخذت ردود فعل عاجلة وصعدت مع تركيا، مطالبة إياها بسحب هذه القوات فورياً، حيث يدرك العبادي أن هذا التدخل التركي سيجري استغلاله من بعض القوى السياسية العراقية المختلفة لممارسة مزيد من الضغوط على حكومته، خاصة من جانب ائتلاف دولة القانون، والذي وصف موقف الحكومة بـ "الضعيف"، بل وأكد الائتلاف أن دخول قوات تركية إلى العراق هو جزء من عملية تقسيم العراق، نظراً لوجود اتفاق بين واشنطن وأنقرة على تحرير الموصل على يد قوات تركية، مع إدراك كافة القوى الدولية صعوبة حسم ملف القضاء على تنظيم "داعش" اعتمادً على الضربات الجوية فقط.

ويمكن القول إن هذا الإجراء لم يأتِ بعيداً عن موافقة التحالف الدولي بشكل عام، والولايات المتحدة علي وجه الخصوص، وهو ما يعني أن هناك توجهاً أمريكياً لمواجهة التواجد الروسي المتصاعد والمتقارب مع التوجه الإيراني من خلال تنسيق أكبر واشمل مع الجانب التركي، لتقييد هذا التواجد الإيراني والروسي.

ويشير هذا التدخل التركي، حتى لو كان لأغراض تدريبية وليس قتالية، إلى أن العراق قد يدخل في فصل جديد من الخلافات السياسية الداخلية، نظراً لوجود العديد من الاستقطابات والتجاذبات الدولية والإقليمية، خاصة مع تصاعد التوتر الروسي ـ التركي، وتخوف إيران المتزايد على نفوذها الاستراتيجي في العراق وسوريا، ولهذا فسوف تستمر عملية دعم كل طرف إقليمي او دولي لأحد أطراف القوى السياسية العراقية؛ مما سيكون له آثار سلبية مباشرة على الأمن القومي العراقي وعلى وحدته واستقراره في المدي المنظور، بل وثمة إمكانية لأن يمتد الأمر ليشمل خلافات سياسية داخل كل مكون كما حدث داخل المكون السني؛ ففي الوقت الذي رفض فيه اتحاد القوى السنية التواجد التركي وطالب أنقرة بالانسحاب الفوري، فإن موقف بعض الزعماء السنه مثل أسامة النجيفي، النائب السابق لرئيس الجمهورية وأثيل النجيفي، يبرران التدخل التركي بأنه جاء بالتنسيق مع الحكومة الاتحادية.

من جانب آخر يتوقع أن يشهد العراق صراعاً على الأماكن المحررة من قبل القوى الداخلية في العراق بين كل من المكون الشيعي والكردي والسني، حيث تجلي هذا الأمر في تمسك الأكراد بمحافظة كركوك، وكذلك في الموقف الأخير الخاص بالقوات التركية، ورأوا أن دخول القوات التركية قضاء بعشيقة مبرراً لأنه يقع ميدانياً تحت سيطرة قوات البيشمركة، بينما يتبع هذا القضاء محافظة الموصل من الناحية الإدارية، وهو ما يعيد للأذهان يدخل هذا الصراع عنه داخل العراق حول الموصل، والتي يعد ضمن الأزمات المؤجلة التي يجب التعامل معها من اللحظة الآنية.

وعلاوة على ذلك توجد احتمالية أن يتم دفع الحكومة العراقية خلال الفترة القادمة من جانب عدد من القوى السياسية العراقية، خاصة الشيعية مثل ائتلاف دولة القانون، إلى طلب مساعدة القوات الروسية المتواجدة بالفعل في سوريا لمساعدة العراق في مواجهة الاخطار النابعة من تنظيم "داعش" وغيره من التهديدات، وهو ما يفتح المجال لتعقيد الملف بصورة أكبر، بل واعتباره أولى خطوات تقسيم العراق في حال تنفيذه.

ومما لا شك فيه أن كافة هذه التعقيدات الداخلية والإقليمية قد تؤدي إلى فتح المجال بصورة أوسع أمام شيوع حالة الفوضى وعدم الاستقرار، خاصة مع إعلان عدد من الفصائل الشيعية الحرب على مصالح القوات الأجنبية المتواجدة داخل العراق، مثل عصائب أهل الحق وحزب الله العراقي، وهي فصائل مدعومة بالأساس من إيران، علاوة علي رفض التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر لوجود أي قوات أجنبية على الأراضي العراقية.