حرب بالوكالة؟

تجدد المواجهات العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا

07 April 2016


بعد نحو أربعة أيام من المعارك العنيفة التي هددت بنشوب حرب شاملة بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناجورنو كاراباخ المتنازع عليه بمنطقة جنوب القوقاز، وافقت الدولتان، في 5 أبريل 2016، على وقف إطلاق النار بينهما، والعودة إلى الهدنة التي دامت بينهما لمدة 22 عاماً.

وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق يبدو ناجحاً في إيقاف المعارك التي اندلعت يوم 2 أبريل الجاري، وتسببت في مقتل وجرح العشرات من الجانبين، فإن استمرار المناوشات على طول خط المواجهة بين الأذريين والانفصاليين المدعومين من أرمينيا، يبدو أنه سيؤدي إلى تفجر الأوضاع مرة أخرى خلال الفترة القريبة القادمة، في ظل ضبابية المشهد وتوتره الشديد.

جذور النزاع ومحاولات تسويته

تعد الجولة الأخيرة من المعارك بين الجانبين الأذري والأرميني من أكثر المواجهات عنفاً حول إقليم ناجورنو كاراباخ المتنازع عليه منذ هدنة عام 1994. وتعود جذور هذه المواجهات إلى قرن مضى من التنافس بين الأرمن المسيحيين والأتراك والفرس المسلمين، حيث تصر أرمينيا على أن هذا الإقليم، الذي كان جزءاً من الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر، كان أيضاً جزءاً من المملكة المسيحية القديمة، داعمة هذا الادعاء بوجود الكنائس القديمة.

أما المؤرخون الأذريون، فيقولون إن الكنائس بناها مسيحيون ألبان يعتبرون أجداداً للشعب الأذري الذين دخلوا في الإسلام قبل حوالي ألف سنة. وعلى الرغم من أن الأذريين المسلمين والأرمن المسيحيين قد عاشوا معاً في سلام لفترات طويلة، فإنه مع بدايات القرن العشرين دخلوا في مواجهات مسلحة عنيفة لاتزال عالقة في ذاكرة الشعبين، وتُشعل نار الفتنة بينهما.

وبانهيار الاتحاد السوفييتي السابق، انفجر شعور الغضب بين الأرمن والأذريين، ونزح الأذريون من إقليم كاراباخ وأرمينيا، بينما نزح الأرمن من أذربيجان. وأعلن إقليم كاراباخ الاستقلال في عام 1991، ولم يحز هذا الإعلان على أي اعتراف، من جانب أي دولة في العالم، بما في ذلك أرمينيا نفسها.

ودخل النزاع بين البلدين مرحلة المواجهات المسلحة منذ عام 1991 وحتى عام 1994، مُخلفاً الدمار وآلاف القتلى وقرابة ملیون لاجئ، ثم تمكنت القوات الأرمینیة من السیطرة على ناجورنو كاراباخ، كما احتلت مناطق حوله تشكل حوالي 21% من الأراضي الأذربیجانیة، بذریعة أنها تشكل حزاماً أمنیاً حول الإقلیم.

وفي مایو عام 1994 توصل الطرفان، بوساطة من روسیا والجمعیة البرلمانیة لرابطة الدول المستقلة، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، واستمر هذا الاتفاق سارياً على مدار السنوات الماضیة من دون وجود قوات فصل أو قوة حفظ سلام في المنطقة.

وبالتزامن مع هذه الهدنة، انطلقت جهود تسویة نزاع ناجورنو كاراباخ في إطار "مجموعة مینسك" المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، والتي اعتمدت لاحقاً ما یُعرف باسم "مبادئ مدرید" كأساس لحل هذا النزاع في نوفمبر 2007. وتقوم هذه المبادئ بصورة رئیسیة على إعادة المناطق المجاورة لإقليم ناجورنو كاراباخ إلى سلطة أذربیجان، والسماح بعودة اللاجئین والنازحین إلى دیارهم، وإضفاء الصیغة المؤقتة على الإقلیم، على أن یتم تقریر مصیره عن طریق اقتراع عام.

ومع ذلك، فإن الجهود الدولیة لتسویة النزاع في ناجورنو كاراباخ لم تأت بنتیجة، ما جعله واحداً من النزاعات المجمدة المنتشرة في منطقة جنوب القوقاز وبحر قزوين.

أسباب تجدد المواجهات

على الرغم من أن الدوافع الأساسية لتفجر المعارك في بداية شهر أبريل الجاري بين أرمينيا وأذربيجان في ناجورنو كاراباخ، ما تزال غامضة إلى حد كبير، فإن ثمة العديد من التفسيرات التي ظهرت لتوضيح الأمر.

أحد هذه التفسيرات أن التصعید العسكري في الإقليم يأتي في إطار "حروب الوكالة" وتصاعد التوتر والفتور بین روسیا التي لديها علاقات جیدة مع أرمینیا، وبين تركیا حلیفة أذربیجان التقلیدیة، حيث تشهد العلاقات التركية - الروسية واحدة من أسوأ فتراتها، خاصةً بعد قيام أنقرة في نوفمبر الماضي بإسقاط طائرة عسكرية روسية بالقرب من الحدود السورية، وهو ما اُعتبر حينها بمنزلة إعلان حرب من جانب تركيا على روسيا نتيجة تدخلها العسكري المباشر لدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وتجدر الإشارة إلى أن علاقات قوية تربط أذربيجان بتركيا، ففي عام 2011، توصلت الدولتان إلى اتفاقية للشراكة الاستراتيجية والدعم المتبادل. وتنص هذه الاتفاقية على قيام كلتا الدولتين بتقديم الدعم لبعضهما البعض باستخدام "كل الوسائل الممكنة" في حال وقوع هجوم أو عدوان ضد أحدهما.

وقام رئيس أذربيجان إلهام علييف، في عام 2013، بأول زيارة خارجية له إلى تركيا عقب فوزه بولاية رئاسية ثالثة. كما تنامى التعاون العسكري بوضوح في السنوات الأخيرة بين البلدين، حيث بات تبادل الوفود العسكرية رفيعة المستوى أمراً مُعتاداً، كذلك اشترت أذربيجان من تركيا، في يناير 2014، صواريخ مضادة للدبابات من طراز "UMTAS" و"OTMAS".

وعلى الجانب الآخر، تحتفظ أرمينيا بعلاقات وطيدة مع روسيا على الصعيدين العسكري والاقتصادي، حيث توصل الرئيس الأرميني سيرج سركسيان إلى عدد من الاتفاقات الدفاعية الثنائية مع موسكو، كما قرر انضمام بلاده أيضاً لعضوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا. وفي عام 2013، تجاهلت أرمينيا دعوة الاتحاد الأوروبي لتصبح "عضواً مُشاركاً" فيه، وبدلاً من ذلك، اختارت الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي لأوراسيا، والذي تقوده موسكو أيضاً. وفي فبراير الماضي، قدمت روسيا قرضاً لأرمينيا بقيمة 200 مليون دولار لتمويل شراء أسلحة جديدة.

ومؤخراً، قامت موسكو بنشر مقاتلاتها من طراز ميج 29 الجديدة في قاعدة اريبوني العسكرية في أرمينيا، على مقربة من الحدود التركية. ويبدو أن هذا التطور بالتحديد قد أثار أنقرة بشكل خاص، ما دفعها إلى دفع أذربيجان إلى تصعيد التوتر مع أرمينيا، حليفة روسيا، من أجل وضع مزيد من الضغوط على روسيا وجرها إلى التورط في النزاع الآذري - الأرميني حول ناجورنو كاراباخ.

وثمة تفسير آخر لتصاعد المواجهات العسكرية الأخيرة في ناجورنو كاراباخ، وهو أن أذربيجان، في ظل زعامة الرئيس إلهام علييف، بدأت تميل إلى حل هذا النزاع عسكرياً، خاصةً بعدما اكتسبت مزيداً من الثقة خلال العقد الماضي نتيجة زيادة ميزانيتها العسكرية بحوالي 300 ضعف. ففي عام 2015، بلغت هذه الميزانية حوالي 3.6 مليار دولار، بينما لم تتجاوز ميزانية أرمينيا العسكرية 500 مليون دولار.

وبالإضافة إلى عامل الثقة نتيجة القدرات العسكرية المتنامية، فإن تفجر النزاع من جديد في ناجورنو كاراباخ ربما يعد وسيلة من صانعي القرار في باكو لاستثارة المشاعر القومية الأذرية، وبالتالي صرف أنظار مواطني أذربيجان عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، حيث تأثر الاقتصاد الأذري بشدة في الآونة الأخيرة من تراجع أسعار البترول عالمياً، نتيجة اعتماده بشكل كبير على تصدير البترول من بحر قزوين.

المواقف من الأحداث الأخيرة

أعلنت وزارة الدفاع الأذربیجانیة، من العاصمة باكو، أنها قررت قبول وقف إطلاق النار تلبیة للطلبات المُلحة من جانب مؤسسات المجتمع الدولي، مُحذرة من أنها ستواصل عملیاتها الهجومیة، وتحریر الأراضي "المحتلة"، واستعادة وحدة أراضي البلاد في حال استمر القصف الاستفزازي للقرى الأذربیجانیة من جانب القوات في ناجورنو كاراباخ. كما دعت باكو أيضاً المجتمع الدولي لمطالبة أرمینیا بالانسحاب من كل الأراضي الأذربیجانیة "المحتلة"، وإبداء موقف بنَّاء في عملیة التسویة السیاسیة للنزاع.

ومن جهتها، أكدت وزارة الدفاع الأرمینیة أن المواجهات ما زالت مستمرة على أكثر من محور على خط التماس في إقليم ناجورنو كاراباخ، مشیرةً إلى أن قواتها في البداية تصدت لما قالت إنه هجوم شنته القوات الأذربیجانیة، وبعد ذلك شنت هجوماً مضاداً، سیطرت خلاله على عدد من القرى ذات الأهمیة الاستراتیجیة في الإقليم. وفي هذه الأثناء، نقلت بعض وكالات الأنباء أخباراً من العاصمة الأرمینیة یرفان عن إرسال مجموعات من المتطوعین للقتال على خط التماس بین القوات الأذربیجانیة والأرمینیة في ناجورنو كاراباخ.

أما موسكو، فتشكل عودة المواجهات المسلحة بین الجانبین الأرمیني والأذربیجاني مصدر قلق كبیر لها، كونه یزعزع الأمن والاستقرار على حدودها المباشرة في منطقة القوقاز وحوض قزوین، وقد یضعها في موقف حرج أمام الحلیفة أرمینیا التي تنتشر على أراضيها واحدة من أهم القواعد العسكریة الروسیة في منطقة القوقاز. لذا سارعت روسيا إلى مناشدة الآذريين والأرمن بضبط النفس ووقف العملیات القتالیة فوراً.

وقد لاقى الموقف الروسي تأييداً كبيراً من جانب كل من فرنسا والولايات المتحدة، حيث طلبت الدول الثلاث، التي تشكل "مجموعة مينسك"، وقف إطلاق النار في ناجورنو كاراباخ بشكل فوري، وتجنب التصعيد واستئناف المسار السياسي لحل الصراع، مشيرةً إلى أنه سيتم إرسال مبعوثين إلى كلتا الدولتين والإقليم من أجل حل النزاع بطريق سلمي.

وكان لافتاً، في خضم المساعي الدولية لوقف المواجهات العسكرية والعودة إلى الهدنة، إعلان الرئیس التركي رجب طیب أردوغان أن ناجورنو كاراباخ "ستعود یوماً" إلى "مالكها الأصلي في أذربیجان"، وأن بلاده ستدعم أذربیجان "حتى النهاية".

أما منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تضم في عضويتها أذربيجان، فقد استنكرت "هجوم القوات الأرمنية على حدود الأراضي الأذربيجانية، وإصرارها على استئناف القتال، وعدم احترامها للهدنة، واستمرارها في سياستها العدوانية". وطالب أمين عام المنظمة إياد بن أمين مدني بـ"الانسحاب الفوري وغير المشروط والكامل للقوات الأرمنية من الإقليم، ومن أراضي أذربيجان المحتلة الأخرى". كما طالب مدني أيضاً مجموعة مينسك "بضرورة إيجاد تسوية سياسية عاجلة للنزاع بين أرمينيا وأذربيجان على أساس سلامة أراضي جمهورية أذربيجان وحرمة حدودها المعترف بها دولياً، طبقاً لمبادئ القانون الدولي".

هدنة في مهب الريح

يمكن القول إن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه مؤخراً بين أذربيجان وأرمينيا في ناجورنو كاراباخ، يبدو هشاً للغاية نتيجة عوامل متعددة، منها التدخل التركي والروسي في الصراع، والمصاعب الاقتصادية في أذربيجان، والمواقف المتشددة من جانب الدولتين، والتي كان أبرزها تحذير وزير الدفاع الأذري ذاكر حسنوف من أن القوات الأذربيجانية قد تشن هجوماً كبيراً على ستيباناكيرت، عاصمة ناجورنو كاراباخ، إذا لم يتوقف الانفصاليون عن قصف المناطق الأذرية، وإعلان الرئيس الأرميني سركسيان أن بلاده ستستمر في توفير الأمن لناجورنو كاراباخ، وتهديده بإمكانية الاعتراف بالإقليم كدولة مستقلة والتحالف العسكري معها إذا تصاعد القتال في المستقبل.

ومما لاشك فيه أن عودة شبح الحرب في ناجورنو كاراباخ سيكون بمنزلة تهديد خطير للأمن والاستقرار ليس فقط في منطقة جنوب القوقاز، وإنما أيضاً في القارة الأوروبية التي تعتمد على هذه المنطقة في كثير من وارداتها من البترول والغاز الطبيعي. كما أن هذه الحرب قد تكون "مغناطيساً" جديداً لقوى الارهاب والتطرف، في وقت لم تحسم فيه بعد الحرب على تنظيم "داعش".