تحالفات قيد التشكل:

الخيارات التركية إزاء توتر العلاقات مع الولايات المتحدة

07 November 2017


تعهد الرئيس "دونالد ترامب" في أعقاب فوزه في انتخابات الثامن من نوفمبر ٢٠١٦ بإنهاء التوتر في العلاقات الأمريكية-التركية، بعد لقائه نظيره التركي "رجب طيب أردوغان" في واشنطن ونيويورك في مايو وسبتمبر الماضيين على الترتيب، حيث شهدت خلال فترتي الرئيس السابق "باراك أوباما" مرحلةً من التوتر بعد عقود من التحالف الاستراتيجي. غير أن "ترامب" أخفق حتى الآن في تحقيق آماله وذلك لاستمرار التوتر بين البلدين بسبب اختلافات سياساتهما، وسعي كلٍّ منهما إلى تعزيز مصالحه الإقليمية ولو على حساب الطرف الآخر. وهو الأمر الذي دفع كثيرين داخل أنقرة وواشنطن إلى الحديث عن استمرار تدهور العلاقات خلال السنوات القادمة، مع توجه تركيا للبحث عن حلفاء جدد إقليميًّا وعالميًّا، في أعقاب اهتزاز تحالفها مع الولايات المتحدة والدول الغربية مؤخرًا. 

القضايا الخلافية:

تتفاقم الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا، إذ لم تعد العلاقة بينهما تأخذ صيغة التحالف الاستراتيجي، كما كان الحال منذ انضمام أنقرة إلى حلف شمال الأطلنطي (الناتو) عام 1952، بل صارت تأخذ صفة المواجهة الدبلوماسية والسياسية والأمنية إزاء القضايا الخلافية، والتي يمكن حصرها فيما يلي:

1- الدعم الأمريكي لأكراد سوريا: شكَّل الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردي، ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية، نقطة خلاف كبيرة بين الدولتين، حيث ترى تركيا أن الهدف الأساسي من هذا الدعم ليس محاربة تنظيم داعش بقدر كونه دعمًا لإقامة دولة كردية في المنطقة ستكون هي المتضرر الأكبر منها. وقد تسبب عدم استجابة الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة "أوباما" والحالية بقيادة "ترامب" لطلب أنقرة الدائم بوقف الدعم الأمريكي للأكراد الذي يهدد الأمن القومي التركي، في تفاقم أزمة الخلافات بين البلدين. 

2- الموقف الأمريكي من الأزمة السورية: تشعر تركيا بخذلان شديد من سياسة الحليف الأمريكي السابق إزاء الأزمة السورية؛ إذ إنها كانت تعتقد أن الإدارة الأمريكية ستتدخل في مرحلة ما من مراحل الأزمة وتجبر النظام السوري على الرحيل قبل أن تكتشف أن أولوية واشنطن ليست رحيل النظام، فيما كانت أنقرة قد تورطت عسكريًّا في هذه الأزمة، وهو ما وضعها لاحقًا في صدام مع روسيا وإيران قبل أن تنفتح على البلدين وتدخل معهما في تفاهمات لعل أهمها أستانة.

3- تسليم الداعية التركي "فتح الله كولن": منذ الانقلاب العسكري الفاشل صيف العام الماضي، تحول ملف الداعية "فتح الله كولن" الذي تتهمه الحكومة التركية بالوقوف وراء الانقلاب، إلى ملف خلافي بين واشنطن وأنقرة، إذ إن كل جهود الأخيرة فشلت في إقناع الأولى بتسليم "كولن"، حيث تقول الإدارة الأمريكية إن الملف قانوني قضائي، وإن الأدلة التي قدمتها تركيا غير كافية، فضلًا عن أن هناك أهدافًا سياسية وراء مطالب النظام بتسليم الداعية التركي.

4- سياسة الرئيس "أردوغان": تشكل مجمل سياسات الرئيس التركي وأيديولوجيته ملفًّا خلافيًّا صامتًا بين الجانبين؛ إذ استخدم "أردوغان" بطموحاته الجامحة كل الأيديولوجيات الدينية (الإسلام السياسي) والقومية (العثمانية الجديدة) والإمكانيات السياسية والاقتصادية والعسكرية لتركيا لتحقيق طموحاته، وهو ما خلق انطباعًا لدى الغرب -بشقيه الأمريكي والأوروبي- بأن الدولة التركية تحت حكم "أردوغان" لم تعد تلك التي أسسها "كمال أتاتورك"، وأنه وضعها في مواجهة مع الغرب في العديد من قضايا، وعليه تعالت الأصوات المطالِبة بوقف مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وطردها من عضوية حلف الناتو، لا سيما في ظل صعود موجات اليمين المتشدد في أوروبا. 

5- العلاقات مع إيران: سلط اعتقال السلطات الأمريكية لرجل الأعمال الإيراني "رضا ضراب" الضوء على ملفات مالية وفساد وغسيل أموال دولية من أجل خرق العقوبات الأممية المفروضة على طهران، حيث أظهرت التحقيقات دور رجال مقربين من الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" في خرق هذه العقوبات، وتهريب مليارات الدولارات إلى إيران تحت عناوين مختلفة، في حين تنكر الحكومة التركية ذلك.

6- ملف التأشيرات: على خلفية تراكم الخلافات بين البلدين، وزيادة حدة التوتر بينهما، أعلنت سلطاتهما وقف منح التأشيرات، والتي كان آخرها قرار السلطات الأمريكية عدم منح تأشيرات الدخول لوفد من وزارة العدل التركية كانت أنقرة تأمل في أن تساهم زيارته في تخفيف حدة التوتر بين البلدين، خاصة بعد المذكرات التي أصدرتها السلطات الأمريكية والتي تقضي باعتقال 15 عنصرًا من الحرس الشخصي للرئيس "أردوغان" الذين اعتدوا على متظاهرين ضده خلال زياراته إلى الولايات المتحدة في مايو الماضي.

تحولات تركية:

مع تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا، تحركت الأخيرة على أكثر من محور واتجاه لتعويض خسارة الحليف الأمريكي، والخشية من التداعيات الاستراتيجية على أمنها الوطني والقومي، ولعل الهاجس الأساسي لتركيا في كل تحركاتها هو الحد من مخاطر إقامة دولة كردية في المنطقة على أمنها، خاصة بعد الاستفتاء الذي أجراه إقليم كردستان العراق على الاستقلال قبل الإعلان عن تجميده. ومن أهم التحولات التركية ما يلي:

1- التقارب مع روسيا: بعد التوتر الذي نشب بين أنقرة وموسكو إثر إسقاط الأولى مقاتلة روسية فوق الحدود السورية-التركية، جاء التقارب التركي-الروسي بمثابة رد فعل على ما تقوله أنقرة عن خذلان الحليف الأمريكي لها في الأزمة السورية، وقد وصل التقارب مع موسكو إلى حد عقد صفقات استراتيجية ضخمة في مجال النفط والغاز الطبيعي والأسلحة، لعل أهمها صفقة شراء المنظومة الدفاعية الصاروخية (إس 400)، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة في الغرب والولايات المتحدة.

2- التقارب مع إيران: حتى وقت قريب كانت تركيا تصف السياسة الإيرانية، لا سيما في سوريا والعراق، بالطائفية والمذهبية، فيما كانت طهران تُوجِّه اتهامات مماثلة لها، وعلى خلفية تلك الاتهامات المتبادلة كثيرًا توترت العلاقات بين البلدين، قبل أن تشهد في الأشهر الأخيرة انطلاقة جديدة على وقع الزيارات المتبادلة لكبار المسئولين العسكريين والسياسيين، التي ركزت على ثلاث قضايا أساسية، تتمثل في: التنسيق في مواجهة الصعود الكردي في المنطقة، وإقامة شراكة اقتصادية، وتفاهمات لتهدئة خفض التصعيد في سوريا.

3- التقارب مع العراق: كما هو الحال مع إيران، كانت تركيا تتهم الحكومة العراقية بممارسة سياسة طائفية، وقد ركزت خلال الفترة الماضية على تطوير علاقاتها مع إقليم كردستان العراق إلى درجة أنها وقَّعت مع الإقليم اتفاقات استراتيجية في مجال النفط دون موافقة بغداد، وذلك قبل أن يعلن الإقليم الاستفتاء على الاستقلال ليشكل نقطة انقلاب تركي على الإقليم لصالح التعاون والتنسيق مع بغداد وصلت إلى حد اتخاذ خطوات مشتركة ضد أربيل، وعليه بات "أردوغان" الذي كان يخاطب رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" بـ"من أنت؟ اعرف مكانتك!" يستقبله بحفاوة في أنقرة، ويتفق معه على كيفية مواجهة التطلع الكردي إلى الانفصال.

ولا يستبعد كثير من المحللين أن ينسحب التقارب التركي مع كلٍّ من روسيا وإيران والعراق إلى العلاقات مع سوريا، خاصة بعد الانقلاب التركي على شعار إسقاط النظام، وأولوية محاربة التطلعات الكردية في سوريا، وتأثير اللاعب الروسي على كلٍّ من أنقرة ودمشق في ملف الأزمة السورية. كل ذلك مقابل تنامي اللهجة التركية الندية للحليف التاريخي (للولايات المتحدة).

حدود التحول: 

ثمة من يرى أن نهاية التحالف الأمريكي-التركي بات قريبًا في ضوء صعوبة عودة التحالف بينهما إلى وظيفته الاستراتيجية بعد التطورات الأخيرة، لكن مثل هذا الأمر قد يتناقض مع مبدأ المصالح في العلاقات الدولية، خاصة وأن أنقرة بموقعها الجيوسياسي تظل مهمة للسياسة الأمريكية؛ فغير ذلك يعني خسارة تركيا لصالح إقامة تحالف ثلاثي روسي إيراني تركي في مواجهة السياسة الأمريكية في المنطقة.

وعليه، ثمة من يرى أن هناك جملة من العوامل التي قد تُساهم في عودة الدفء إلى العلاقة الأمريكية-التركية، من أهمها:

1- أنه مع قرب القضاء على تنظيم داعش في سوريا والعراق، لا سيما بعد تحرير كل من الرقة والموصل؛ فإن إمكانية إصلاح هذه العلاقة تصبح قوية خاصة بعد الموقف الأمريكي السلبي من استفتاء إقليم كردستان العراق، وإمكانية أن ينسحب هذا الموقف على الدعم الأمريكي العسكري لأكراد سوريا بعد تحرير الرقة.

2- أن الولايات المتحدة لن تفرط في القيمة الاستراتيجية لتركيا في سياستها؛ إذ إن أنقرة دولة في حلف الناتو، وعلى أراضيها العديد من المنشآت العسكرية الاستراتيجية، كقاعدة "إنجرليك" التي يرابط فيها قرابة ثلاثة آلاف جندي أمريكي، وأسلحة استراتيجية بما في ذلك نووية، وكذلك قاعدة "أزمير" التي فيها مقر القيادة البرية لقوات حلف الناتو، وغيرها من القواعد والمنشآت العسكرية التي تجعل من تركيا دولة مهمة للاستراتيجية الغربية مهما كانت الخلافات.

3- في الطرف المقابل فإن تركيا ورغم تقاربها مع روسيا وإيران فإن منظومتها الأمنية تظل مرتبطة بحلف شمال الأطلنطي، كما أن هناك تفاوتًا كبيرًا بين رؤى أنقرة وكل من موسكو وطهران إزاء العديد من القضايا، بدءًا من الأزمة السورية، مرورًا بسياسات إيران الإقليمية، وصولًا إلى الملف الأوكراني. وعليه فإن التقارب التركي مع الدولتين قد يتعرض في أي وقت لأزمة وربما لصدام، وهو ما يجعل من هذا التقارب تكتيكيًّا وليس استراتيجيًّا.

خلاصة القول.. إن العلاقات الأمريكية-التركية تشهد مؤخرًا تفكيكًا لبنيتها القديمة، لكن التوتر الحادث في العلاقات لن يستمر طويلًا لأهمية كل طرف للآخر، ولأن الخلافات السياسية الراهنة قد تكون إرهاصات لعلاقة جديدة في وقت تمر فيه منطقة الشرق الأوسط بتطورات وتغييرات تجعل كل طرف لا يستطيع التخلي عن الآخر، على الأقل في المدى المنظور، فضلًا عن أن استمرار التوتر في العلاقات سيكون على حساب العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وتركيا لصالح التحالف الروسي-الإيراني، وربما ينعكس كل ما سبق على تسويّات في المنطقة تُعيد تموضع العلاقة بين واشنطن وأنقرة على أسس جديدة.