معركة حلب:

استراتيجية الأسد في المناطق خارج سيطرته

09 May 2016


بالرغم من القبول الرسمي والتعهدات السياسية الواضحة بخوض "عملية السلام السورية"، إلا أن النِظام السوري وحلفاءه الإقليميين والدوليين يبدو وكأنهم مُصرين على خوض "معركة حلب" بأسلوب "كسر العظم"، وذلك عبر تصفية أي حضور للمُعارضة المُسلحة في كامل شرق مدينة حلب، والتوجه نحو قضم الريف الشمال والشرقي لمدينة حلب، حيث يُدرك النِظام بأنه لا أهمية سياسية استراتيجية لبقاء الريف خارج سيطرته المُطلقة.

دوافع التوجه العسكري في معركة حلب

ثمة ثلاثة دوافع مركزية لإصرار النِظام السوري على هذا التوجه العسكري في "معركة حلب"، حيث سيخوضها أياً كانت أثمان هذه المعركة المفتوحة، وتتمثل هذه الدوافع فيما يلي:

1- هناك وعي سياسي تقليدي في بنية النِظام الأسدي مُنذ تأسسه، يذهب للاعتقاد بأن السيطرة على مدينتي دمشق وحلب هو جوهر السيطرة على سوريا، وأن خروج أي مُنهما من السيطرة، ولو بشكلٍ نسبي، يعني مُباشرة خسارة السيطرة المُطلقة على البِلاد. وتعمق ذلك الإحساس بالتقادم مع النِظام السوري، فالمدينتان بحجمِهما الكبيرين نسبياً، وطبيعتهما السياسية/ الاجتماعية المُناهضة للنِظام السوري وتركيبته الاجتماعية الطائفية، كانتا على الدوام التحدي الذي يسعى النِظام لمواجهته، أياً كانت أثمان ذلك.

2- يُدرك النِظام السوري أن الدول الإقليمية المُناهضة له، إنما تستطيع أن تُمارس أدوارها العسكرية والسياسية فقط عبر جبهة حلب. فباقي المناطق السورية الحدودية إما مُحاطة بحُلفاء النِظام السوري، مثل لُبنان والعراق، أو مؤمنة بشكل لا تستطيع القوى الإقليمية خلق مظلة دعم لقوى المُعارضة، كما في المناطق الشمالية التي يسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكُردية، أو دولٍ واعية لقواعد الاشتباك الاستراتيجية، كما في الجبهة الجنوبية والسيطرة الأُردنية عليها. لذا يرى النِظام السوري أن السيطرة على مدينة حلب سيشكل ضربة ضد الاستراتيجية "التُركية وبعض الدول الإقليمية" الداعمة عسكرياً للجماعات المُسلحة السورية. وهو بهذا المعنى سيؤثر على جوهر قواعد التفاوض السورية، حيث لن يبقى للقوى الإقليمية أية مساحات للضغط العسكري على نِظام الأسد.

3- يعلم النِظام السوري أن صمت المُجتمع الدولي مضمون في هذه الفترة، لأنه من جهة يأمل بضغط روسي حقيقي يؤدي إلى تسوية سورية ما، وكذلك لأنه يتوقع المزيد من السلبية الأمريكية تجاه مُمارساته، لأنها ستدخل مرحلة "البطة العرجاء" سياسياً، عبر انشغالها بالانتخابات الرئاسية في صيف وخريف هذا العام. ويرى النِظام السوري في ذلك لحظة مُناسبة لتوجيه ضربة عسكرية ونفسية استراتيجية لقوى المعارضة السورية، عبر كسر شوكتها في حلب. فإذا حدث ذلك وسيطر النِظام بشكل مُطلق على مدينة حلب، فإن هوية المفاوضات السورية ستتغير تماماً، لتغدو من مفاوضات على الشراكة السياسية بين النِظام والمُعارضة، إلى مفاوضات على إعادة تصفية إرث الثورة السورية وإعادة بناء البِلاد، خارج أي تنازل سياسي حقيقي من قِبل النِظام.

استراتيجية النظام السوري في المناطق خارج سيطرته

يسعى النِظام السوري إلى تصفية أي حضور وسيطرة لقِوى المُعارضة على مدينة حلب وريفها الشمالي والشرقي، وهو ما يُظهر الاستراتيجية العسكرية المركزية للنِظام في تعامُله مع المناطق الخارجة عن سيطرته، والتي سوف يُطبقها مُستقبلاً بحق باقي المناطق التي بقيت خارج سيطرته، حتى في تلك المناطق التي يبدو وكأنه تركها عبر اتفاق غير مكتوب، مثل المناطق الكُردية شمال البِلاد.

بمعنى ما، تكشف معركة حلب استراتيجية النِظام السوري من عملية السلام والمفاوضات الجارية، حيث إنها ليست سوى أدوات وسلوكيات لامتصاص ضغوط القوى الدولية، وإظهار قبوله النسبي بحل سياسي ما، فيما يستطبن النِظام "حل حلب" بالنسبة لباقي المناطق التي ما زالت خارج سيطرته.

وتقوم هذه الاستراتيجية على أربع خطوات يتخذها النِظام السوري ضد أي منطقة تخرج من سيطرته، وتتحدد في الآتي:

1- حصار هذه المنطقة بأكثر من شكل وأداة، حتى تغدو الحياة الطبيعية بالغة الصعوبة ضمن المنطقة، وبذلك يفشل أي نموذج للحُكم المعقول بها، كي لا يملُك السوريون والمجتمع الدولي أية أداة يستطيعون عبرها المُحاجة بأن ثمة ما هو مُمكن وبديلٌ للنِظام السوري. بالطبع يؤدي هذا الحِصار المُحكم إلى هجرة أغلبية السُكان من تلك المناطق، وبالذات مُنهم الطبقات الاجتماعية الأكثر تعليماً وإنتاجاً وقُدرة على توفير حياة مدنية معقولة، وبذلك تضعف أي قُدرة لاستمرار الحياة الطبيعية بها.

2- الضغط المُستمر على الجماعات العسكرية والسياسية الأكثر اعتدالاً في المناطق المُحاصرة، لتكون قابلة للكسر والتحطيم في مواجهة الجماعات العسكرية والدينية الأكثر راديكالية. وهكذا تُسيطر هذه الجماعات الراديكالية، وتسمح سلوكياتها بخلق نفورٍ شعبي من سيطرة قوى المعارضة على هذه المنطقة، وبذلك ترضى بأي بديل كان، حتى لو كان النِظام نفسه. ومن جِهة أُخرى، فإن هذه السيطرة تسمح للنِظام السوري بأن يُوحي وكأنه يواجه "الجماعات الإرهابية" التي تهيمن على بعض المناطق السورية، وبالتالي يكسب شرعية ما لأفعاله العسكرية الفظيعة ضد هذه المناطق.

3- بعدما تكون تلك المناطق قد أُنهكت تماماً جراء الحِصار وهيمنة التنظيمات المُتشددة، فإن نِظام الأسد يسعى إلى بدء معركته العسكرية تجاهها، وذلك عبر تهدئة باقي جبهات القِتال. ويقوم النِظام السوري بتوجيه ضربات جوية إلى المناطق والمؤسسات المدنية الأكثر اكتظاظاً وحساسية، حيث يعلم النِظام أن هذه الضربات الجوية المُركزة على المدنيين والبنية التحتية المدنية، إنما تفعل ثلاثة أشياء في آن واحد، وهي:

أ- تُهجر أعداد كبيرة السُكان، مما يخلق ضغوط على دول الجِوار والمُجتمع الدولي (العدد المتوقع تهجيره جراء معركة حلب يُقدر بحوالي نصف مليون سوري من سُكان مدينة حلب الشرقية)، وبذلك تخسر المُعارضة المُسلحة مصدر إمدادها بالمُقاتلين.

ب- تلك الضربات تسمح بتحطيم البنية التحتية في المناطق الخارجة عن سيطرة النِظام، مما يعني استحالة العودة السريعة للمُهجرين إلى مناطقهم التي فروا منها.

ج- هذا الضغط على المدنيين يدفع بالمُقاتلين للخروج من المناطق المدنية، للحفاظ النسبي على السُكان المحليين "أهاليهم"، وبذلك يدخل النِظام هذه المناطق بشكلٍ وكأنه قد حقق نصراً عسكرياً فيها.

4- إعادة تأهيل المناطق الخارجة عن سيطرة النِظام السوري لتصبح تحت سيطرة القوى العسكرية والسياسية والإدارية الموالية له، عبر فرضهم على السُكان المحليين، ومُعاقبة عائلات المُقاتلين والنُشطاء السياسيين والمدنيين السابقين، وإغراء القليل الباقي منهم بالعفو فيما لو عادوا إلى "بيت الطاعة" القديم. وبذلك يضمن نظام الأسد عودة الأمور إلى ما كانت عليها قبل اندلاع الثورة السورية.

تحديات أمام النظام السوري في حلب

اتبع النِظام السوري تلك الاستراتيجية في كُل من مدينة حُمص وريفها، وكذلك في الريف الغربي لمدينة دمشق وحماة واللاذقية، وهو إن استمر في فعلها في مدينة حلب، فإنه سيسعى مُباشرة إلى تطبيقها في باقي المناطق التي ما زالت خارج سيطرته، وهي درعا وكامل المنطقة الجنوبية، ومحافظة إدلب وريف اللاذقية الشمالي، وغوطة دمشق، وما بقي خارج سيطرته من منطقة القلمون الجنوبية، ليتفرغ فيما بعد لمعركة الرقة ودير الزور، ولينتهي بالمناطق الكُردية الخارجة من سيطرته، وبذلك يكون قد أعاد سوريا كُلها إلى سابق عهدها من السيطرة الأسدية.

لكن "معركة حلب" تعد هامة في هذا الاتجاه، لأن ضمان نجاحها سيضمن للنِظام السوري تطبيق هذه الاستراتيجية في باقي المناطق، وفشله النسبي فيها سيعني عدم قُدرته مع حُلفاءه الإقليميين على تنفيذ هذا التوجه في المناطق الأخرى.

ويمكن القول إن ثمة عقبات كثيرة قد تُفشل النِظام السوري في "معركة حلب" التي يسعى إلى حسمها بأسرع وقت، وقد ظهرت بوادر هذا الفشل في تعثره الكبير في السيطرة على البلدات الجنوبية لمدينة حلب. فمنذ ثلاثة أشهر، وبدعم استثنائي من إيران وحزب الله، لم يستطع نِظام الأسد السيطرة على تلك البلدات الاستراتيجية جنوب مدينة حلب، والتي يسعى منها إلى مواجهة قوى المعارضة في شرق المدينة، وليس من القسم الغربي الذي يُسيطر عليه من المدينة. وكذلك في خضوع النظام للضغط الروسي للموافقة على الهدن المؤقتة في المدينة، إذ يظهر وكأن ثمة أعداد من الضحايا في معركة حلب لا يُمكن لروسيا أن تدفع المُجتمع لقبولها والتغاضي عنها.

لكن ثمة مُعيقين استراتيجيين قد يدفعان النِظام السوري للفشل في معركة حلب، وهُما نفس العاملين الجوهريين اللذين يدفعان النِظام السوري لخوض هذه المعركة من حيث الجوهر.

فمن ناحية، سيكون هذا الإصرار من قِبل النِظام السوري على خوض معركة حلب، أداة لحُلفاء المعارضة السورية، وبالذات تُركيا والمملكة العربية السعودية، للتخلي عن أي التزام تجاه الولايات المُتحدة بعدم دعم المُعارضة السورية بأسلحة نوعية، بما في ذلك مُضادات الطيران، التي يُمكن أن تشل تماماً أي تفوق عسكري للنِظام السوري على قوى المعارضة.

ومن جهة أخرى، فإن المستوى الاستراتيجي الجوهري في معركة حلب، سيدفع بالقوى العسكرية والمُقاتلين السورين المُعارضين، لأن يعتبروها وكأنها معركتهم الوجودية، وبالتالي خوض المعركة بشكل مصيري. وألا تكون المعركة وكأنها بين النِظام والمقاتلين في شرق مدينة حلب فحسب، بل بين النِظام وكُل المقاتلين المعارضين، في مُختلف الجبهات.