رؤية من الداخل:

لماذا تفجر الصراع العراقي - الكردي على كركوك؟

19 October 2017


جاءت السيطرة العراقية على مدينة كركوك في خضم ضغوط داخلية وإقليمية متصاعدة على حكومة إقليم كردستان؛ إذ تمكنت الحكومة العراقية من فرض حصار إقليمي على كردستان عقب استفتاء الانفصال، وتحييد الموقف الأمريكي، ثم السيطرة على مدينة كركوك ذات الأهمية الاستراتيجية، وأدى ذلك إلى تفجر الانقسامات بين القوى الكردية الرئيسية، وتزايد الاحتقان بين الحكومة العراقية وكردستان، مما يُنذر باحتمالات تفجر مواجهات عسكرية بين مختلف الأطراف.

التداخل الديموغرافي:

تتميز مدينة كركوك عن باقي مدن العراق، بأنها خليط من عدة قوميات وأديان ومذاهب دون وجود أغلبية لقومية معينة؛ حيث يوجد بها مسلمون ومسيحيون، كلدان وأشوريون، سنة وشيعة، عرب وكرد وتركمان، وإثنيات أخرى. فعلى سبيل المثال، تتعدد القوميات والديانات في مدينة الناصرية، إلا أن الأغلبية بها عرب شيعة، وكذلك الحال بالنسبة لمدينة دهوك في إقليم كردستان التي توجد بها أغلبية كردية سنية، بيد أن مدينة كركوك تكاد تتقارب بها نسب كل قومية وطائفة.

ولم يحدث من قبل نزاع أو صراع بين مكونات المجتمع في المدينة، ولكن بعد عام 2003، وتعدد الأحزاب وجماعات المصالح، تصاعد الصراع بين هذه الجماعات للهيمنة على المدينة حتى امتد ليصل إلى الأحزاب داخل القومية الواحدة.

ووصل التوتر في كركوك إلى ذروته في يونيو 2014 بعدما احتل تنظيم داعش الإرهابي أربع محافظات، وثلث محافظة كركوك (قضاء الحويجة، والقرى المحيطة بها)، وعلى إثر هذا انسحبت قوات الحكومة الاتحادية من المناطق المحيطة بمدينة كركوك، وسيطرت قوات البيشمركة عليها. وبعد الانتهاء من عمليات تحرير المحافظات التي احتلها تنظيم داعش الإرهابي، ظهر تحدٍّ جديد يتمثل في المناطق التي سيطر عليها إقليم كردستان، ولا يرغب في الانسحاب منها، وتم ضمها إلى الحدود الإدارية للإقليم.

وتصاعد التوتر مع إعلان كردستان استفتاء الانفصال عن العراق في سبتمبر 2017، وتم إجراء الاستفتاء على الرغم من رفض الحكومة الاتحادية، والدول الإقليمية، وتحذيرهم من أبعاد هذه الخطوة وخطورتها. ومن هنا بدأت الأزمة بين الحكومة الاتحادية وبين إقليم كردستان، وامتد ليصل إلى المناطق المسيطر عليها من قبل قوات البيشمركة.

أزمة كركوك:

تتمتع مدينة كركوك بوفرة من النفط الخام، ويطلق عليها البعض "المخزون الاستراتيجي للعراق"، كما يوجد بها أكبر شركة لإنتاج النفط في العراق، إلى درجة أن السلطات المحلية تمنع حفر الآبار في بعض مناطق المدينة لأكثر من 6 أمتار خوفًا من خروج النفط بشكل طبيعي، وقد يكون هذا هو السبب الأبرز للصراع على المدينة، بالإضافة إلى الأطماع الإقليمية والدولية في هذه المدينة ذات المكانة الاستراتيجية في خارطة العراق الإدارية والاقتصادية والاستراتيجية.

وكانت أول بوادر الأزمة عندما قرر محافظ المدينة بالاتفاق مع جزء من المجلس المحلي، المشاركة في الاستفتاء الذي اعتزم إقليم كردستان إجراءه للانفصال عن العراق، وهذا ما أثار حفيظة الحكومة المركزية من اقتطاع المدينة من الخارطة الإدارية للدولة العراقية، مما جعل الحكومة المركزية تُعجِّل بتحرير قضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك، والذي يقع على خط تماسٍّ مباشر مع المدينة، وطالبت حكومة كركوك بتسليمها إدارة المدينة، إلا أن محافظ المدينة رفض طلب الحكومة المركزية، وصرح بمقاومة أي محاولة لدخول الجيش العراقي للمدينة، فتمركزت العديد من قطاعات الجيش العراقي، وقوات مكافحة الإرهاب، وفصائل عديدة من الحشد الشعبي على أطراف المدينة.

وفي فجر الاثنين الموافق 16 أكتوبر 2017، تقدمت هذه القوات إلى المدينة، وحدثت مواجهة مباشرة على أطراف المدينة من الجانب الجنوبي، قريبًا من الحي الصناعي، وتقدم الجيش باتجاه شركة النفط والمناطق الحيوية. وفي هذا السياق، انقسمت قوات البيشمركة التابعة لإقليم كردستان العراق.

ويرتبط ذلك بالخلافات بين الحزبين الكرديين الكبيرين في إقليم كردستان؛ الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال الطالباني، والذي خلفه في الحزب أولاده وزوجته وبعض مساعديه، وقد يكون لوفاة الراحل "جلال الطالباني" في هذه الفترة الحرجة وما كان يتمتع به من دبلوماسية وعلاقات جيدة مع دول الإقليم الأثر الأكبر في الانقسام الذي حدث داخل الإقليم وداخل جسد حزبه، ويرجع الخلاف بين الحزبين إلى الاختلاف حول قضية الاستفتاء والانفصال في هذا التوقيت الخطر.

وبعد الانسحاب السريع لقوات البيشمركة من المدينة، أدى ذلك إلى دخول سلس للقوات العراقية بخسائر مادية وبشرية طفيفة، وتم التمركز داخل المدينة وعلى حدودها الإدارية من قبل القوات الاتحادية العراقية.

الضغوط الخارجية:

فرض موقع العراق الاستراتيجي عليها العديد من التبعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، إضافة إلى التداخلات القومية والعرقية والطائفية، وقد ظهرت هذه التبعات بشكل واضح بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، واتجاه القوى الإقليمية لمحاولة السيطرة على قراراته السياسية، كما ظهر بشكل واضح خلال أزمة كركوك، ويمكن توضيح موقف الطرفين من هذه الأزمة فيما يلي:

1- الموقف التركي: من المعروف أن لتركيا مصالح عديدة في العراق وإقليم كردستان معًا، ومن المواقف الثابتة لتركيا رفضها تقسيم العراق، خاصة وأن أكراد تركيا أكبر عددًا من أكراد العراق، كما أن انفصال إقليم كردستان يهدد الأمن القومي التركي، خاصة وأن حزب العمال الكردستاني التركي (PKK) الذي تصنفه أنقرة كجماعة إرهابية له تواجد نشط وفعّال في أراضي إقليم كردستان العراق.

يُضاف إلى هذا أن تركيا قد قامت بتنصيب نفسها مدافعًا عن القومية التركمانية في مدينة كركوك، مطالبة بحمايتها كلما سحنت الفرصة، كما تسعى للتخلص بشكل جاد ومنظم من قوة الحشد الشعبي المساندة للحكومة الاتحادية، والتي باتت تشكل قوة فاعلة على أرض الواقع، وربما يمثل دخول الحشد الشعبي مع قوات البيشمركة في مواجهة مباشرة فرصة لتركيا للتخلص من الطرفين معًا.

2- الموقف الإيراني: تنظر إيران إلى العراق باعتبارها المجال الحيوي لها، وبوابتها ومدخلها للبلاد العربية، وقد تدخلت كثيرًا في الشأن العراقي، وترتبط بعلاقات جيدة مع الحكومة الاتحادية، ولها علاقات قوية مع بعض الأحزاب الكردية في إقليم كردستان، لا سيما حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وقد تجلت بوضوح خلال أزمة كركوك الأخيرة، حيث سعت إلى شق الصف الكردي في العراق خوفًا من أن تمتد مطالب الانفصال إلى أكراد إيران.

3- الموقف الأمريكي: ترتبط العراق بشكل قوي مع الولايات المتحدة الأمريكية بموجب اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعام 2008، والتي ينص أحد بنودها على أنه "عند نشوء أي خطر خارجي أو داخلي ضد العراق، أو وقوع عدوانٍ ما عليه، ينتهك سيادته أو استقلاله السياسي أو وحدة أراضيه أو مياهه أو أجواءه، أو تهديد نظامه الديمقراطي أو مؤسساته المنتخبة؛ فإنه يقوم الطرفان، بناءً على طلب من حكومة العراق، بالشروع فورًا في مداولات استراتيجية، وفقًا لما قد يتفقان عليه فيما بينهما، وتتخذ الولايات المتحدة الإجراءات المناسبة، والتي تشمل الإجراءات الدبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو أي إجراء آخر، للتعامل مع مثل هذا التهديد".

وفي هذا الإطار، يُشير البعض إلى أن الولايات المتحدة قد اتخذت موقف المحايد من كافة الأطراف المتنازعة على كركوك، إلا أن الحكومة الاتحادية لم تكن لتقدم على هذه الخطوة دون موافقة الولايات المتحدة، وقد يكون السبب في هذا الموقف عدم امتثال رئيس إقليم كردستان للطلب الأمريكي بتأجيل الاستفتاء، واعتبار هذا الأمر تجاهلًا للإرادة الأمريكية، لهذا بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بإجراءات عديدة لإعادة خيوط اللعبة بيدها من جديد.

احتمالات التصعيد:

تصاعدت حدة الاحتقان في مدينة كركوك عقب سيطرة القوات العراقية على المدينة، وتسود حاليًّا حالة من التوتر والقلق بين جميع مكوناتها، فتعدد القوميات والطوائف أدى إلى تحول الوضع إلى أمر أشبه بقنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، فهناك حالة من الشحن القومي والطائفي تحدث تجاه القضايا الوطنية المصيرية.

ولقد صرح رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" في 18 أكتوبر الجاري، أي بعد دخول المدينة بيومين، بأن الشرطة المحلية لمدينة كركوك ستتولى الأمن الداخلي للمدينة تساندها في هذا قوات الشرطة الاتحادية من أجل الحفاظ على الوضع الأمني في المدينة، على أن ينسحب الحشد الشعبي من داخل المدينة، مع الاتفاق مع محافظة السليمانية على الاشتراك في إدارة المدينة بقوات تابعة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو ما يمثل مبادرة قد تضمن الأمن الداخلي للمدينة، إلا أن احتمالات الفوضى داخل المدينة لا تزال قائمة بسبب التدخلات الإقليمية والدولية والشحن القومي والطائفي.

وعلى الرغم من أن الانشقاق الذي حدث بين الحزبين الرئيسيين، وانضمام محافظة السليمانية إلى حكومة المركز في القضايا الإدارية، يضعف مطالب كردستان بالانفصال التام؛ إلا أن احتمالات تصاعد المواجهة بين الطرفين لا تزال موجودة في ظل تقدم قوات عديدة على محور الطريق الرئيسي لمدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان، مع مطالبة رئيس وزراء العراق "حيدر العبادي" بضرورة تسليم المنافذ الحدودية والمطارات لحكومة المركز، وأي خطوة متهورة من أحد الطرفين قد تُشعل الحرب الرسمية بين الحكومة الاتحادية والمركز ما لم يتم تدخل دولي أو أممي لحل هذه الأزمة.

ويُعزز هذا الاحتمال التدخلات الإقليمية والدولية لدعم الطرفين، وعدم وجود وعي شعبي بمخاطر الأزمة، ويمكن أن يتم حل أزمة كركوك كأحد أبعاد قضية انفصال كردستان إذا ما تم وضع إقليم كركوك تحت إدارة خاصة لأبناء المدينة.