تنظيمي لا أيديولوجي:

فك الارتباط بين النصرة والقاعدة.. أي مستقبل؟

30 July 2016


أعلن زعيم "جبهة النصرة"، أبو محمد الجولاني، الذي ظهر لأول مرة في خطاب تلفزيوني مسجل في 28 يوليو 2016، عن تشكيل كيان جديد، يحمل اسم "جبهة فتح الشام"، يتخذ علماً جديداً أبيض اللون غير العلم الأسود، وهو اللون المفضل للتنظيمات الراديكالية من "القاعدة" إلى ميليشيا "داعش".

وبذلك الإعلان، يعيدنا الجولاني إلى مفهومٍ كان قد ساد لدى ثلةٍ من دول الجنوب في ستينيات القرن المنصرم، وهو مفهوم "فك الارتباط". ولكن في حين كانت ترمي هذه الدول إلى فك الارتباط على المستويين التنظيمي والأيديولوجي بالنظام الدولي ثنائي القطبية الذي كان سائداً آنذاك، يبدو أنّ الجولاني لم يكن يقصد سوى فك الارتباط التنظيمي بين جبهته وتنظيم "القاعدة".

أكثر من ذلك، يبدو أن الانفصال التنظيمي بين "فتح الشام" و"القاعدة" لن يكون كاملاً؛ فجبهة الجولاني لاتزال تضم عدداً من قادة ومقاتلي "القاعدة". ومن المفارقات أن أحد قادة "القاعدة" ظهر في خطاب فك الارتباط المتلفز إلى جانب الجولاني!

انفصال تنظيمي وليس أيديولوجياً

ثمة جملة من الأسباب تثير الشكوك في أن يكون إعلان الجولاني سيعني انفصالاً أو تميزاً أيديولوجياً لـ"جبهة فتح الشام" عن تنظيم "القاعدة". فمن المفارقة أن يُمهد قادة "القاعدة"، أيمن الظواهري ونائبه أحمد أبو الخير، لفك الارتباط بين التنظيمين الراديكاليين، وأنْ يُعلن زعيم "النصرة" سابقاً، "فتح الشام" حالياً، أن هذه الخطوة تتوافق مع التوجيهات "المباركة" لهؤلاء القادة، وأنْ يُثني عليهم لتفهمهم "ضرورات فك الارتباط".

وباستثناء التغيرات التنظيمية من اسمٍ وعَلم، لم يُعلن عن أي تغيرات في الإطار الأيديولوجي الحاكم للجبهة الجديدة. كما أن تحليل مفردات خطاب الجولاني والظواهري في هذه المناسبة يوضح أن الانفصال "تنظيمياً" وليس "أيديولوجياً". كما لا يعني هذا التطور اقتراب الجبهة الجديدة من "داعش" أيديولوجياً أو تنظيمياً، أو ظهور "داعش جديدة"؛ ذلك أنّ الخلاف الأساسي بين "داعش" و"النصرة" سابقاً (فتح الشام حالياً) أنّ الأولى تُعد من لا ينطوي تحت قيادتها خصماً أو عدواً لها، بينما تقبل الثانية التعاون أو التحالف مع غيرها من فصائل المعارضة السورية المسلحة.

لماذا فك الارتباط التنظيمي؟

فيما يتعلق بالدوافع التي حدت بزعيم "جبهة النصرة" إلى اتخاذ قراره الأخير، فقد أوضح الجولاني أن قرار فك الارتباط جاء رغبةً في إرضاء سائر فصائل المقاومة السورية المسلحة والانخراط في حركتها، بما يُمهد السبيل لتأسيس تحالفات جديدة؛ وسد ذرائع القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، لمهاجمة السوريين في المواقع التي يسيطر عليها أو يعسكر فيها مقاتلو الجبهة.

فـ"جبهة النصرة" تعاني منذ فترة تكثيف الضغط عليها، سواء من جانب الولايات المتحدة أو روسيا وحليفها نظام بشّار الأسد. وكان أحد مؤشرات هذا الضغط المكثف انسحاب مقاتلي "النصرة"، من دون سابق إنذار أو حتى بيان رسمي يوضح ذلك، من منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي، جنوب سوريا؛ تحسباً لفتح جبهة الجنوب لقتال "داعش" و"النصرة"، من جانب القوات الأمريكية، بحسب ما صرح به أشتون كارتر وزير الدفاع الأمريكي.

علاوة على ذلك، فإن "جبهة النصرة"، التي كانت قد اُستبعدت من هدنة سورية رعتها الولايات المتحدة وروسيا في فبراير من هذا العام، تريد تجنيب نفسها وحلفائها تداعيات الاتفاق الأمريكي- الروسي، الذي تم التوصل اليه في منتصف يوليو الجاري، لتنسيق جهودهما العسكرية ضد تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" في سوريا.

ويمكن أنْ يُفهم التطور التنظيمي الذي شهدته "النصرة" أيضاً في إطار التقدم الميداني الذي حققه الجيش السوري وحلفاؤه، بدعمٍ من الطيران الروسي، في حلب واستعادته معظم المدينة، وانشغال تركيا بترتيب البيت من الداخل بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة. وينظر البعض إلى تركيا على أنّها تدعم، بشكلٍ أو بآخر، "جبهة النصرة".

وبصرف النظر عن تبرير الجولاني الانفصال عن تنظيم "القاعدة" برغبة أهل الشام، فإن الحقيقة أن استمرار الضغط على الجبهة من جانب حلفائها لاتخاذ هذه الخطوة هو ما يفسر هذا التطور. وهذا لا يمكن فهمه إلا بعد تصور الوضع الميداني على الأرض السورية. فالجبهة لا تسيطر على مناطق بنفسها، باستثناء إدلب، وإنما تمارس سيطرتها ونفوذها على الأرض من خلال مقاتلي حلفائها، في إطار "جيش الفتح"، في حلب وحماة. ومن ثم، فإن قصف الجبهة في مناطق النفوذ المشتركة، سواء من جانب الولايات المتحدة أو روسيا، يعني استهدافاً للفصائل المتحالفة معها كذلك. وفي هذا الخصوص، أشار أبو محمد المقدسي، وهو من أبرز مُنظري تيار السلفية الجهادية، إلى "أنه إذا كان اسم النصرة مبرراً لاستهداف الجماعات التابعة لها، فإن تغييره أو التخلي عنه ليس تخلياً عن القرآن"، مضيفاً أن "الانفصال عن القاعدة ليس كُفراً إذا دعت الحاجة إلى ذلك".

وفي الوقت نفسه، تبدو الخطوة، كما أعلن الجولاني، محاولة لتقريب الجبهة إلى تشكيلات المعارضة السورية المسلحة الأخرى، لاسيما تلك التي تدعمها الدول الغربية. ولعل ذلك كان في ذهن زعيم "النصرة" سابقاً، "فتح الشام" حالياً، عندما أشار إلى أن جبهته الجديدة تسعى إلى تحقيق بعض الأهداف، وعلى رأسها "العمل على التوحد مع الفصائل لرص صف المجاهدين لتحرير أرض الشام من حكم الطواغيت، والقضاء على النظام وأعوانه".

ولكن ما لم يذكره الجولاني أن الجبهة كانت تواجه انقساماً وانشقاقاً بين مؤيدين ورافضين للانفصال عن "القاعدة"، وأن قرار فك الارتباط، الذي مهد له وباركه قادة "القاعدة"، هو الذي رأب الانشقاق إلى حين.

كما أنّ هناك دافع ذاتي جعل "النصرة" تقدم على هذه الخطوة، وهو ترسيخ وجودها في إطار المعارضة المسلحة المناهضة لنظام الأسد، وإدماجها فى أي هيكل سياسي قادم، بل وضمان استمرارها رقماً تنظيمياً في المعادلة السورية في المستقبل.

ردود الفعل المختلفة

هل تتحقق أهداف الجولاني في الحصول لـ "جبهة فتح الشام" على القبول الدولي والانخراط في صفوف المعارضة السورية المسلحة؟ من الواضح أنّ حصول الجبهة الجديدة على الشرعية الدولية لن يتحقق في الأمد المنظور، وذلك من خلال تحليل ردود الفعل المختلفة على إعلان الانفصال وتشكيل الجبهة الجديدة.

فالولايات المتحدة، التي تقود الائتلاف الدولي ضد تنظيم "داعش" و"النصرة"، أعلنت أن تقييمها للجبهة الجديدة لم يتغير عن تقييمها لـ"جبهة النصرة"، وأنّ الكيان "الإرهابي" لايزال هدفاً للمقاتلات الأمريكية. بل إن واشنطن عبرت عن تخوفها من قدرات "جبهة فتح الشام" على شن هجمات ضد الولايات المتحدة وأوروبا.

كما أن روسيا وإيران، الفاعلين الرئيسيين في الأزمة السورية، لم يتأثر تصورهما وسلوكهما تجاه "النصرة" حتى مع تغيير اسمها، وإعلان انفصالها عن "القاعدة". فروسيا تنظر لمعارضي نظام الأسد على أنهم إرهابيون؛ بل إنّها تسعى إلى ضم عدد كبير من الفصائل إلى جانب "جبهة النصرة" لمحاربتها، مثل "أحرار الشام" و"جيش الإسلام" وغيرهما، وهو الأمر الذي ترفضه الولايات المتحدة. وعلى الرغم من اتفاق واشنطن وموسكو على عدم تغيير سياستهما تجاه "جبهة فتح الشام"، على الأقل في الوقت الراهن، فإن تشكيل الأخيرة وانفصالها عن "القاعدة" من شأنه أنْ يوسع هوة الخلاف بين الطرفين، لاسيما إذا نجحت الجبهة الجديدة في تأسيس تحالفات جديدة مع فصائل المعارضة المسلحة الأخرى.

أما طهران، فقد نظرت إلى هذا التغيير على أنه مجرد لعب بالكلمات لا أكثر، وأن هدفه هو إخراج "جبهة النصرة" من لائحة التنظيمات الإرهابية؛ الأمر الذي لن تمرره إيران.

أي مستقبل لجبهة الجولاني؟

ثمة انقسام في وجهات النظر حول ما إذا كان التطور الجديد علامة قوة أم ضعف بالنسبة لجبهة الجولاني وتنظيم "القاعدة" عموماً؟ إذ يرى البعض أن ذلك التطور سينعكس بشكل طفيف على الجبهة الجديدة وعلى سلوكياتها وتحالفاتها الداخلية والخارجية. ومع ذلك، ينفي هؤلاء أن يكون ذلك خسارة لتنظيم "القاعدة"، بل يعده إحدى سبل تكيف التنظيم مع التغيرات الدولية، ويأتي متوافقاً مع رغبة قادته بالتحول إلى شبكة لا مركزية.

فيما يرى اتجاه آخر أن هذا التطور الذي اختبرته "جبهة النصرة" وليد ضغط كثيف عليها من الداخل والخارج. ومن ثم، فهو علامة ضعف؛ وستتحول الجبهة الجديدة إلى إحدى الفصائل المسلحة العديدة التي تنتشر في سوريا، بعد أن كانت واحدة من أهم وأقوى هذه الفصائل، ومتميزة عنها بارتباطها بتنظيم "القاعدة".

إجمالاً، من المرجح أن هذا التطور سوف يدعم تحالفات "جبهة فتح الشام" ويعززها داخلياً، خاصةً أن الفصائل المتحالفة مع الجبهة في إطار "جيش الفتح" وغيرها كان لها دور كبير في هذا التطور.