حرب القيم والأيديولوجيا:

كيف يمكن هزيمة إرهابيين يفضلون الموت؟

22 February 2015


إعداد: آيات عبد العزيز


ثمة اتفاق واضح حالياً بين الأكاديميين والسياسيين على إمكانية ردع الإرهاب متى توفرت بعض الشروط التي يمكن عندها تطبيق "نظرية الردع" على الإرهابيين، كما طُبقت سابقاً إبان الحرب الباردة.

وارتباطاً بذلك، توجد حالياً محاولات جادة من قِبل العديد من الباحثين لاختبار النظريات المختلفة التي يمكن من خلالها التأثير في سلوك الإرهاب، ومنها "نظرية الردع"، حيث يتم ردع الإرهاب من خلال دمج جزئين منفصلين من هذه النظرية، إذ يهتم الجزء الأول بالتعرف على الطرق التي يمكن من خلالها التهديد بالانتقام العسكري من الإرهابيين لإجبارهم وداعميهم على الحد من ممارساتهم الإرهابية ،خاصةً إذا تزامن ذلك مع شعورهم بارتفاع تكلفة هذه الممارسات، مما يؤدي بهم في النهاية للتوقف عنها.

ويرتبط الجزء الثاني في النظرية بمفهوم "الإنكار"، حيث يهتم المفهوم هنا بالتعرف على الطرق التي يمكن بها التأثير على الفاعلين الإرهابيين، من خلال تقليل الفوائد المرجوة من دعم الإرهاب. وباندماج هذين الجزئين سوياً تصبح النظرية مكتملة الأركان بوجود جانبي "العقاب والإنكار" معاً للحد من الأعمال الإرهابية.

وتأسيساً على ما سبق من الحديث عن نظريات الإنكار والإجبار (العقاب)، يمكن التطرق إلى نظرية "نزع الشرعية عن الإرهاب" كنظرية جديدة للتعامل مع الإرهاب والتأثير على السلوك العدائي للإرهابيين، وهو ما تتناوله هذه الدراسة المنشورة في دورية  International Securityبعنوان: "نزع شرعية القاعدة.. هزيمة جيش يفضل مقاتلوه الموت"، والتي أعدها كل من "جيري مارك لونج" Jerry Mark Long  مدير دراسات الشرق الأوسط في جامعة بايلور الأمريكية، وأليكس ويلنرAlex S. Wilner المحاضر بكلية مونك للشؤون العالمية في جامعة تورونتو.

أطروحات نظرية "نزع الشرعية عن الإرهاب"

تقترح فرضية "نزع الشرعية" أن الدول والفاعلين من غير الدول قد يستخدمون أسساً دينية وأيديولوجية للتأثير في سلوك الإرهابيين بهدف التقليل من ممارساتهم الإرهابية، وذلك من خلال استهداف المعتقدات التي تصيغ سلوك هؤلاء المتطرفين.

ويعزز هذا الطرح إمكانية النظر إلى العمل الإرهابي باعتباره ليس عملاً عدائياً خالياً من الأغراض، وإنما عمل له أبعاد أيديولوجية تفسره، فإذا ما تم استهداف تلك الأبعاد والقضاء عليها يمكن الحد من الظواهر الإرهابية.

وعلى الرغم من وجاهة أطروحات "نظرية نزع الشرعية"، بيد أنها لم تلق الاهتمام الكافي وقت ظهورها، حيث اعتبرها البعض غير كافية أو حتى شكك في جدواها أيضاً، فهي بحاجة إلى مزيد من الدراسة والاهتمام خاصةً وأنها على عكس نظريات "العقاب والإنكار" لا يسهل إدماجها في نماذج صنع القرار المتمحورة حول الدولة؛ ولهذا جاءت هذه الدراسة لبحث تلك النظرية بشكل أعمق، ومحاولة تطبيقها على تنظيم "القاعدة".

ويشير الكاتبان إلى أنه رغم الصدمات المتكررة التي لحقت بتنظيم "القاعدة" في الفترة الأخيرة، إلا أن خطر الجهاديين كان، ومازال، قائماً ومستمراً، خاصةً مع استمرار القتال في جبهات متعددة مثل سوريا واليمن والعراق، ولايزال الفكر الجهادي يجذب العديد من الشباب للانضمام للقاعدة وغيرها من التنظيمات الجهادية، وذلك في ضوء وجود صفحات لتلك التنظيمات على شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، بما يُمكَّنها من عرض رؤيتها وأعمالها للعالم، مما يؤدي لزيادة مريديها وتابعيها.

وحتى الآن لا تزال أطروحات "القاعدة" فاعلة على العديد من المستويات، أبرزها استمرار قدرتها على توظيف جهاديين جدد، وكذلك الوصول للعامة، ثم وجود إعلام جهادي فعَّال يروج لقضيتها ويكفل لها الدعم الشعبي (المحرر: تفوق تنظيم داعش على القاعدة كثيراً في هذا المجال).

وعلى الرغم من ذلك، تؤكد الدراسة إمكانية "نزع الشرعية" عن أطروحات "القاعدة" من خلال استهداف الأسس العقائدية والأيدولوجية المحفزة لها، ويما يؤدي للحد من أعمالها الإرهابية.

أهم ملامح ووظائف أطروحات "القاعدة"

تشير الدراسة إلى أبرز ملامح أطروحات تنظيم "القاعدة" ووظائفها، وتتعلق بالآتي:

1- ربط الأحداث المعاصرة بأسماء معارك ومحاربين من التراث، لخلق نوع من الهوية الموحدة المرتبطة بالماضي والتراث.

2- جذب المزيد من الأفراد والتابعين.

3- تبرير وشرعنة وجذب التعاطف مع الأعمال التي تقوم بها "القاعدة"، باعتبارها رد فعل طبيعي لممارسات الغرب.

4- قدرة "القاعدة" على تأويل وتفسير الأحداث المحلية والعالمية وفقاً لرؤيتها الخاصة، ومن هذه الأمور على سبيل المثال التأكيد على انحسار الفكر القومي مقابل بروز الفكر العابر للدول القومية (الخلافة الإسلامية)، كذلك محاولات القيادي في التنظيم "أيمن الظواهري" تشجيع ثورات الربيع العربي والتحذير من سرقتها من قبل العلمانيين.

منطق تفسير الحروب الخاص بالقاعدة

طورت "القاعدة" من أطروحتها للتأكيد على مريديها وأتباعها أنهم في حرب مقدسة على كافة المستويات، خاصةً فيما يتعلق بمجال الإعلام، ولهذا ظهرت العديد من المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي تعزز هذه الأطروحات مثل "الحرب الإلكترونية" و"الغزوات المعلوماتية"، وذلك للتعبير عما يُعرف بـ"جهاد البيان" الذي لا يقل في أهميته عن الجهاد في ساحات القتال.

وتطرح الدراسة رؤية مفادها أن "القاعدة" لا تحارب الغرب فقط، وإنما تحارب في جبهات مختلفة، منها الحكومات في الدول العربية والإسلامية، فضلاً عن حربها مع التيار الرئيسي من علماء الأمة المسلمين، وتدور هذه الحرب حول شرعية تأويل النصوص الدينية ومن يتحدث باسم الإسلام، خاصةً أن "القاعدة" كثيراً ما تُسوق نفسها باعتبارها المرجعية الإسلامية التي تملك الحق الحصري لتفسير النصوص. وفي هذا السياق على سبيل المثال، طرحت "القاعدة" أهمية تحرير الأزهر- وهو المرجعية الدينية الإسلامية- من سيطرة الدولة.

ولا ينفصل ما سبق عن رؤية "القاعدة" للثورات العربية التي تعد نقطة محورية في تعامل "القاعدة" مع الغرب، وهي التي شجعتها كثيراً واعتبرتها صحوة إسلامية على الرغم من أنه لم يكن لها أي يد فيها أو في مجرياتها، وحذر التنظيم كثيراً من سرقة تلك الثورات بواسطة ما أسماهم العلمانيين والمدافعين عن الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان.

"القاعدة" ونزع الشرعية

تعرف "القاعدة" جيداً أنها تواجه أخطاراً أكبر من مجرد هجمات الطائرات بدون طيار، وهذه الأخطار تتعلق بمدى قدرتها على الاستمرار في نشر أطروحتها، فضلاً عن استمرارها في تلقي الدعم الشعبي والقيام بالأعمال المسلحة. ولذا يؤكد الكاتبان أن تنظيم "القاعدة" على علم بأهمية عدم زيادة العنف عن مساحة مسموح بها حتى لا يفقد أتباعه، ومن ثم تهتم "القاعدة" كثيراً باقتناع مريديها بما تفعل.

وترى الدراسة أن أهداف "القاعدة" غير المادية تمثل مشكلة للأطروحات التقليدية المتعلقة بنظريات العقاب والإنكار، لأن تلك الأفكار التقليدية تتعلق بقياس الفاعل لآثار أعماله في محاولة منه لتحقيق أكبر فائدة ممكنة منها. ولهذا، فإن الأطروحات التقليدية غالباً ما تتعامل مع ما يريده الإرهابيون (بالنسبة للإجبار) وما يقدره الإرهابيين (بالنسبة للإنكار) بعكس نظرية "نزع الشرعية" التي تتعامل مع ما يعتقده الإرهابيين. ومن ثم تبقى أهداف "نزع الشرعية" وباقي النظريات، واحدة على اختلاف الأدوات التي تستخدمها في تحقيق الهدف.

وبناءً عليه، تعد نظرية "نزع الشرعية" أحد جوانب المنهج المفصل والمعد خصيصاً لمكافحة الإرهاب، وتنطوي النظرية على العديد من خيارات الردع المتنوعة لمواجهة الخصوم المختلفين. وفي هذا السياق، يقترح الكاتبان مفاهيم متنوعة مثل "الردع بالسرد/ الطرح النظري المضاد" أو "الردع عن طريق رد الفعل الشعبي"، إلا أن هذه المفاهيم جميعها لازالت قيد الدراسة والتقييم.

وتشدد الدراسة على أن الحديث عن أي نجاح لاستراتيجية "نزع الشرعية"، مرهون بفقدان "القاعدة" لأتباعها ومريديها في الدول العربية والإسلامية.

وفي كل الأحوال، ينطوي ردع الإرهاب على التأثير في مجموع أجزاء المنظومة الإرهابية وليس جزء بعينه، وعليه فإن الردع الناجح هو الموجه لجميع أجزاء تلك المنظومة، مما يؤثر بالضرورة على انخفاض درجة ومستوى ونوع العنف الذي تقوم به التنظيمات لأقل درجة ممكنة، على اعتبار أن النجاح في القضاء على الإرهاب ودحره بشكل كامل يكاد يكون مستحيلاً.

ختاماً، تؤكد الدراسة على أن نظريات "الإنكار والعقاب" قد تحقق بعض النجاح في التعامل مع القاعدة لكن حينما يتعلق الأمر فقط بالأهداف المادية، أما الاستراتيجيات الموجهة للقيم والأيديولوجيا فلابد من وجود نهج مغاير للتعامل معها.

وتشير الدراسة إلى أن مكافحة "القاعدة"، تنطوي على عنصريين رئيسيين، وهما:

1- نزع الشرعية عن تصورات تنظيم "القاعدة" للغرب: ويكون ذلك من خلال تحدي الجهود المستمرة لهذا التنظيم في تشويه سمعة الغرب، وعن طريق العمل على تغيير السياسات الغربية تجاه القضايا التي تتحجج "القاعدة" بها للقيام بأعمالها العدائية.

2- محاربة النوايا الدينية للقاعدة: ويعني هذا محاربة ما يطرحه التنظيم من تفسيرات يؤثر بها على سلوك أفراده لحملهم على القيام بأعمال معينة، ويكون ذلك على ثلاثة مستويات:

- مستوى الأفراد: ويكون ذلك من خلال محاربة حديث "القاعدة" عن مسلحيها باعتبارهم أبطالاً. وهنا ينبغي على الولايات المتحدة وحلفاءها التأكيد على رفضهم لتصرفات هؤلاء المقاتلين، والتأكيد على كونهم يجلبون العار لعائلاتهم بما يقومون به من أفعال.

- مستوى الجماعات: يمكن الاستفادة من الغضب الشعبي تجاه الأعمال العدائية التي تقوم بها "القاعدة"، للتقليل من الدعم الموجه لها على الصعيدين العربي والإسلامي، مع العمل على نشر رؤى العلماء المسلمين المعتدلين التي ترفض أفعالها وتدينها؛ إذ تحاول "القاعدة" وضع تبريرات أخلاقية ودينية لأعمال العنف التي تقوم بها، ومن ثم يمكن محاربة ذلك من خلال نشاط هؤلاء العلماء المعتدلين الذين يساعدون في تقليل الدعم الموجه لها.

- المستوى المجتمعي: تستمد "القاعدة" قوتها من الدعم الشعبي الموجه لها، مما يساهم في توظيف المزيد من الأفراد والمزيد من الدعم المادي واللوجيستي، ويمكن محاربة ذلك من خلال رفض المؤسسات الدينية الإسلامية المعتدلة لأعمال "القاعدة"، ويمكن الاستعانة أيضاً في هذا الشأن بالمجاهدين الذين أتموا مراجعاتهم الفكرية، وذلك بهدف رفع الدعم عن التنظيم.

أخيراً لقد ركزت هذه الدراسة المهمة، والتي تحتوي على أطر نظرية وتطبيقية عديدة للتعامل مع خطر تنظيم القاعدة، على هذا التنظيم فقط، ولم تتناول تنظيم داعش (وهو من خرج من رحم القاعدة بطبيعة الحال) الذي لم يكن قد برز بشكل جدي حتى وقت كتابة هذه الدراسة، لكن المؤكد أن داعش قد تفوق على القاعدة كثيراً في مسائل الحشد والتجنيد والتمويل، وساعدته في ذلك العديد من العوامل الإقليمية والداخلية في كل من العراق وسوريا، لكن ما ورد بهذه الدراسة حول نظرية "نزع الشرعية" ربما يصبح أكثر مناسبة أيضاً ضد أطروحات داعش كما القاعدة وسائر التنظيمات الإرهابية، بل يكاد الأمر يكون أهم بالنسبة لحالة داعش الذي تجاوز كل المدى في القتل والإجرام والدموية، وهو ما يستلزم التعامل معه فكرياً وأيديولوجياً وإعلامياً، إلى جانب الرد العسكري، فأطروحات داعش أكثر تدميراً وتمس صحيح العقل والدين وليس لها مديات محددة في التكفير والقتل والتعذيب؛ وهو ما يقتضي نزع كل شرعية أو دعم فكري ومعنوي لأخطر التنظيمات الإرهابية تطرفاً.


* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "نزع شرعية القاعدة.. هزيمة جيش يفضل مقاتلوه الموت"، والمنشورة عن دورية "الأمن الدولي" الصادرة عن مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد، في صيف 2014.

المصدر:

Jerry Mark Long and Alex S. Wilner, Delegitimizing al-Qaida: Defeating an "Army Whose Men Love Death", International Security, Vol. 39, No. 1 (USA, Harvard University's Belfer Center for Science and International Affairs, summer 2014) pp 126 – 164