ترويض القادة:

هل تتغير توجهات "ترامب" المتطرفة بعد فوزه بالرئاسة؟

10 November 2016


كشف خطاب دونالد ترامب بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت يوم الثامن من نوفمبر 2016 عن تغيرات نسبية في توجهاته التي لاحت فيها التطرف والعنصرية إبان السباق الانتخابي ذاته. إذ بدا خطاب الرئيس الـ45 للولايات المتحدة يتجه أكثر نحو الانضباط والتحفظ في لغة الخطاب، بل وتبني اتجاهات توافقية لتجاوز الانقسامات التي صاحبت أجواء التنافس الانتخابي.

 فترامب لم يؤكد وحسب في خطابه الفوز إنه سيكون رئيساً لجميع المواطنين الأمريكيين، بل قال إنه يسعي إلى السلام مع كافة دول العالم، فضلا عن توجهه بالشكر إلى منافسته "هيلاري كلينتون" والإثناء على مجهودها لخدمة البلاد وذلك خلافاً لاتهاماته السابقة لها.

صحيح أن لحظة الفوز تفرض خطابا معتدلا عن مثيله المتطرف إبان الانتخابات لاجتذاب الناخبين، لكن ما يلفت النظر، أن ترامب ظهر في هذا الخطاب بجوار ابنه الصغير، وكأنه يروج لصورة الأب الأمريكي التقليدي بدلاً من صورة الرئيس الجريء غير النمطي الذي يردد العبارات غير اللائقة.

 وإثر فوزه بساعات قليلة، قامت حملة ترامب بحذف الفيديو الذي يذكر فيه أنه سيمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية من الموقع الإلكتروني للحملة. ومن ثم، فالسؤال المطروح، هل يمكن القول بأن هذا الخطاب يعد نموذجاً للتحول الذي يحدث للقادة المتطرفين بعد الوصول إلى السلطة كما حدث في سوابق تاريخية متعددة؟، وهل تعكس هذه المؤشرات اتجاه حقيقي لتحول ترامب نحول الوسطية وتبني توجهات أقل حدية؟.

المنصب يغير توجهات الرؤساء: 

على الرغم من التوجهات المعلنة للقادة السياسيين والآراء والوعود التي يطلقونها قبل الوصول إلى سدة الحكم، إلا أنها سرعان ما قد تتغير بمجرد حصولهم على المناصب السياسية، وهو الأمر الذي يتضح تكرره كثيراً بمراجعة توجهات ومواقف عدد من القادة قبل وبعد وصولهم للسلطة؛ فعلى سبيل المثال كان "أليكسيس تسيبراس" رئيس الوزراء اليوناني يتولي منصب رئيس ائتلاف اليسار الراديكالي "سيريزا" ويعد هذا الائتلاف من أبرز المعادين لإجراءات التقشف في اليونان.

 ومع فوز الائتلاف بالانتخابات البرلمانية في يناير 2015، أعلن تسيبراس "أن اليونان سوف تتخطي سياسة التقشف المشئومة"، بيد أنه سرعان ما اصطدم بضغوط الدائنين وتهديدهم بإخراج بلاده من منطقة اليورو بعد سبعة أشهر فقط من توليه منصب رئيس الوزراء، وهو ما اضطره للقبول بما يعرف "مذكرة الدائنين الثالثة" والتي تضمنت مجموعة من إجراءات التقشف الصارمة وقد قام بالدفاع عنها متخلياً عن كافة آراؤه السابقة ومؤكداً بأنها "ضرورية لإبقاء الشعب اليوناني على قيد الحياة".

أيضا، فقد أثار وصول "فرانسو ميتران" ذو الخلفية اليسارية إلى منصب الرئاسة الفرنسية تخوفات من أن يتغير شكل النظام الاقتصادي في هذا البلد خاصةً وأنه كان يتبنى أيدلوجية متطرفة تدعو للثورة العمالية، إلا أنه لم يحدث تغيرات جوهرية في النظام الفرنسي طيلة بقائه في المنصب لـ14 عاما. وقد ذكرت جريدة لو إكسبريس بعد وفاته عام 1996 "أن فرانسو ميتران قد انحاز لعدم تدخل الدولة في النظام الاقتصادي، وقضي على فكرة أن رئيساً اشتراكياً لا يمكنه الاقتناع بفكرة السوق الحر والخصخصة".

وحتى في الشرق الأوسط، فإن القادة الإسرائيليين المتشددين هم من جلسوا إلى طاولة المفاوضات مع العرب، على غرار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "إسحاق رابين". فبعدما تولى منصب وزير الدفاع وقت اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولي عام 1987 قام بالتصدى لها بالقمع وتكسير عظام الفلسطيين، إلا أنه اتجه للسلام مع توليه لمنصب رئيس الوزراء، حيث وقع معاهدة أوسلو للسلام في عام 1993 مؤكداً أن الوقت ليس في صالح إسرائيل وأنه يجب تحقيق السلام بأي وسيلة. 

الأمر ذاته لم يختلف مع "مناحم بيجن" رئيس وزراء إسرائيل الأٍسبق الذي تفاوض على السلام مع مصر ووقع اتفاقية كامب ديفيد في عام 1978 وذلك على الرغم من تاريخه المتطرف. حيث أسس حركة "أرجون" التي قامت بعدة مذابح منها مذبحة دير ياسين، كما أن لديه عبارة شهيرة ذكرها أكثر من مرة "نحن نقاتل إذا نحن موجودون".

إذن. فالوصول لمنصب الرئاسة أو السلطة يغير على الأغلب من توجهات القادة ويجعلهم أكثر ميلا لرؤية الأمور بواقعية تختلف عن خطاباتهم وخبراتهم خارج السلطة.. فهل تنطبق تلك الأمور على ترامب؟.

مداخل تغيير ترامب:

تتعدد المداخل التي تؤدي إلى تغير توجهات القادة ما بين شخصية تعود لسمات الفرد ذاته وقدرته على التكيف، وأخرى ترجع إلى طبيعة النظام السياسي الذي تدار فيه العملية السياسية، والمؤسسات التي تشترك في عملية صنع القرار ودرجة تأثير القائد عليها. في هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى بعض المداخل الأساسية التي من المحتمل أن تغير التوجهات الحدية المتطرفة لترامب، وذلك على النحو التالي:

1- السمات الشخصية: على عكس المتوقع فإن طبيعة شخصية الرئيس الأمريكي ترامب قد تكون أحد الكوابح التي تمنعه من تنفيذ كافة آراؤه وتوجهاته التي أثارت مخاوف الكثيرين. فقد أشار "دان ماك آدامز" الأستاذ المتخصص في علم النفس بكلية هنري ويد روجرز التابعة لجامعة ميتشيجان في مقاله المنشور بموقع "أتلانتك" (The Atlantic) في يونيو 2016 أن طبيعة عمل ترامب كرجل أعمال تجعله يميل إلى التفاوض وإجراء المناورات، كما أشار في تحليله النفسي لشخصية ترامب إنه يعتبر شخصية غير جامدة على المستوي الأيدلوجي فهو برجماتى على استعداد للتغير توافقاً مع مصالحه.

من ناحية أخري فإن طبيعته العملية تجعله يميل إلى المزج بين التفكير في الحاضر والمستقبل، وتشير " يائيل آرانوف"  (Yael S. Aronoff)-أستاذ العلاقات الدولية المساعد بكلية جيمس ماديسون- في كتابها الصادر 2015 "عندما يختار المتشددون السلام" إلى أن القادة الذين يركزون على الحاضر عادة ما يستطيعون إدراك التغيرات والتطورات السريعة التي تحدث من حولهم وهو ما يؤدي إلى مرونتهم وتكيفهم مع المتغيرات المختلفة وإن كان بشكل بطيء بعض الشيء مقارنةً بالأشخاص الذين يميلون إلى التفكير المستقبلي، وبالطبع يؤدي المزج بين هذين النوعين من التفكير إلى زيادة درجة مرونة القائد وانفتاحه على الخيارات المختلفة.

كما تصف بعض التحليلات السيكولوجية الأخرى شخصية ترامب "بالنرجسية" وعادة ما يميل القادة المصنفين ضمن هذه الفئة إلى التفاوض والمرونة في حالة إذا كانت دولتهم قوية، فيما قد يميلون إلى التشدد في مواقفهم واتخاذ مواقف جامدة في حالة ضعف دولتهم نظراً لأنهم يشعرون أن أي تراجع عن مواقفهم في هذه المرحلة كاشف لنقاط ضعفهم وبمثابة إهانة لهم.

 2- تقمص الدور: تؤدي "مقتضيات الدور" إلى إحداث تغيير جوهري في شخصية المرشحين بعد وصولهم للقيادة؛ حيث تشير أدبيات علم النفس أن هناك تصورات ذاتية نابعة من قناعات الفرد الشخصية حول كيفية أداءه لمقتضيات دور معين، بالإضافة إلى تصورات الآخرين، والتصورات التي يفرضها السياق. إذ يسعي الفرد للتوفيق بين كافة هذه التصورات إلى درجة قد يتخلى فيها عن قناعاته الشخصية لتحقيق المقتضيات التي يتطلبها هذا الدور، كما قد يحاول محاكاة النماذج السابقة التي نالت إعجاب الرأي العام.

 وربما تزداد محاولة محاكاة "مقتضيات الدور" لدي ترامب خاصةً وأنه قد سبق وعمل كممثل في عدد من الأفلام وفي برامج تليفزيون الواقع، وتتضح محاولات المحاكاة في خطبته بعد إعلان فوزه والتي قام بالالتزام فيها بالبروتوكولات المتبعة بدقة شديدة على عكس المعتاد.

2- النظام السياسي الأمريكي: حيث تؤدي طبيعة النظام السياسي الأمريكي إلى منع استبداد أي رئيس بالسلطة، كما تمنع تجاوزه للأطر الدستورية والقانونية؛ حيث أن ضوابط الرقابة والتوازن التي يقوم عليها النظام الأمريكي تقلل من قدرة الرئيس على ممارسة ضغوط على الكونجرس لتمرير القرارات، فيما تراقب المحكمة العليا الرئيس والكونجرس لتتأكد من عدم مخالفتهما للضوابط الدستورية.

كذلك، فإن النظام الفيدرالي الأمريكي الذي يضم 50 ولاية لكل منها قوانينها يحد من قدرة الرئيس على إجراء تغييرات جذرية في النظام، أو اتباعه سياسات مخالفة للدستور كمنع فئة معينة من دخول الولايات المتحدة كما أشار ترامب مسبقاً.

ويتخوف البعض من أن هيمنة الجمهوريين على الأغلبية في الكونجرس ومنصب الرئيس قد يؤدي إلى تمرير قرارات ترامب وإجراء التغيرات الجذرية التي كان يشير إليها خلال حملته الانتخابية، إلا أنه في الواقع قد يكون الجمهوريين أحد الكوابح التي تمنع ترامب من الاندفاع وراء هذه السياسات خاصةً وأن توجهاته قد أثارت انقسامات داخل الحزب الجمهوري حتى بين المتشددين من داخل الحزب مثل "بول ريان" رئيس مجلس النواب الأمريكي.

3- تعقيدات صنع القرار: تتسم عملية صنع القرار في النظام الأمريكي بقدر كبير من التعقيد وتعدد مستويات صنع وتنفيذ واتخاذ القرار، فعلى سبيل المثال ينبغي على الرئيس التعامل مع مؤسسات متعددة خلال عملية صنع السياسة الخارجية تشمل وزارة الخارجية بإداراتها الفرعية المختلفة وسفاراتها المنتشرة حول العالم، ومؤسسات الاستخبارات وجمع المعلومات ذات المؤسسات المتداخلة، والمؤسسة العسكرية بقياداتها الميدانية وأقسامها المختلفة، فضلاً عن مؤسسات متعددة لجمع وتحليل المعلومات وترجيح الخيارات المختلفة، وهو ما يجعل دور القائد لا يتجاوز وضع الفلسفة العامة والخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية في حين تتولي كافة هذه المؤسسات مهام تنفيذ هذه السياسات العامة وفقاً لتفضيلاتها والرؤي المتعددة للمصالح الأمريكية.

4- معضلة المعلومات: فمع تزايد حجم المعلومات المتدفقة إلى القائد السياسي بل وتعارضها في بعض الأحيان فقد يدفعه ذلك إلى اتباع سلوك حذر قبل اتخاذ القرارات الهامة، وعلى الرغم من أن رجال الأعمال عادة ما يميلون إلى المخاطرة، إلا أنه بمراجعة السيرة الذاتية لترامب يتضح أنه بدأ يميل إلى اتباع سلوك ينطوي على التروي بعض الشيء في إدارة أعماله عقب الأزمة المالية التي واجهها في بداية التسعينيات.

كما إن إطلاع القائد عقب توليه منصبه على المعلومات السرية التي لا تكون متاحة للعامة قد تؤدي إلى تغير رؤيته للأمور، وهو الأمر الذي يؤكده تصريح " جون مكلوخلين" المساعد السابق لمدير المخابرات المركزية في نوفمبر 2016 والذي قال فيه "لقد رأيت التحول الذي يحدث في شخصيات الرؤساء عندما يدركون هذه المعلومات والمسئولية الهائلة الملقاة على عاتقهم".

5- التنسيق بين المؤسسات: تتطلب عملية اتخاذ القرار من القائد السياسي في بعض الأحيان التنسيق بين أجهزة متعددة، وتشير أدبيات العلاقات الدولية إلى أن ذلك الأمر يؤدي إلى استنزاف جهد القائد في عمليات تنسيقية بين الجهات مما يضطره إلى تفويض بعض عمليات اتخاذ القرار إلى جهات أخري. 

ومن هنا، تبدأ الجهات المفوضة في اتخاذ قراراتها إما وفقاً لحسابات التكلفة والعائد، أو عن طريق الاعتماد على الذاكرة المؤسسية أي التعامل وفقاً للنهج المعتاد في اتخاذ مثل هذه القرارات، أو اتباع نموذج الحلول الوسط الذي يسعي للتوفيق بين مصالح المؤسسات المتعارضة. إذ تسعي فيه كل مؤسسة للحصول على أكبر عدد من الصلاحيات وزيادة الميزانية المخصصة لها، وبصفة عامة تؤدي كافة هذه النماذج للابتعاد عن الخيارات الحدية في عملية صنع القرار.

إجمالاً يمكن القول فإن منصب القيادة ومقتضياته والتعقيدات المحيطة به عادة ما يدفع الأفراد لتبني سياسات غير متوقعة ومغايرة في بعض الأحيان لقناعاتهم الشخصية بل واكتساب قدر أكبر من المرونة في عملية صنع واتخاذ القرار. في الوقت نفسه، فإن مؤسسات الدولة لاسيما في الدول الديمقراطية لها تأثير كبير على عملية صنع القرار بحيث يأتي معبراً بالأساس عن مصالح الدولة، فيما قد يقتصر دور القائد على وضع فلسفته العامة وملامحه الرئيسية.