سيناريوهات مفتوحة:

لماذا تتمسك تركيا بالمشاركة في عملية تحرير الموصل؟

18 October 2016


سبق معركة تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذي يُسيطر عليها منذ أكثر من عامين، تراشق كلامي بين الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" ورئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" على خلفية احتجاج بغداد على وجود قوات تركية في معسكر "بعشيقة" بشمال العراق. 

وعلى الرغم من المعارضة العراقية لوجود قوات تركية على الأراضي العراقية، تُصر أنقرة على تواجد قواتها في المعسكر انطلاقًا من قناعة أن العراق لا يُمكنه دحر تنظيم "داعش" في مدينة الموصل، وأن وجود القوات التركية في القاعدة يضمن عدم تعرض تركيا لهجمات من قبل التنظيم.

ويُثير توتر العلاقات العراقية - التركية قبل انطلاق معركة تحرير الموصل التي بدأت يوم الاثنين (17 أكتوبر الجاري) تساؤلات حول أسباب هذا التوتر، والأسباب الحقيقية وراء إصرار أنقرة على وجود قواتها على الأراضي العراقية رغم رفض بغداد لهذا، وتداعيات ذلك إقليميًّا مع تحذير "العبادي" تركيا من أنها تخاطر بإثارة "حرب إقليمية" بالإبقاء على قواتها على الأراضي العراقية. 

البعد التاريخي للتوتر:

تحتل مدينة الموصل مكانة تاريخية خاصة في السياسة التركية. فعلى الرغم من أن اتفاقية أنقرة عام 1926 بين العراق وبريطانيا وتركيا حسمت السيادة العراقية على الموصل (كانت ولاية الموصل وقتها تعني كل شمال العراق)، فإن تركيا ترى أن ثمة بنودًا في هذه الاتفاقية تتيح لها الدخول عسكريًّا في الموصل. ومن هذه البنود، الفقرة التي تُشير إلى حماية الأقلية التركمانية. وأخرى تُؤكد ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية.

وطوال العقود الماضية بقي الحنين التركي إلى الموصل متقدًا، إذ سبق وأن وعد مؤسس الجمهورية التركية "مصطفى كمال أتاتورك" النواب المعترضين على اتفاقية أنقرة باستعادة الموصل في الوقت المناسب. وهو ما كرره لاحقًا وإن بطريقة مختلفة، وكذلك كل من الرؤساء "تورغوت أوزال" و"سليمان ديميريل" و"عبدالله غل" وصولا إلى الرئيس "رجب طيب أردوغان" الذي يكرر يوميًّا أن قواته ستبقى في قاعدة "بعشيقة"، وأنها ستشارك في عملية تحرير الموصل رغم الرفض القاطع لبغداد، وتحذيرها من أن ذلك سيؤدي إلى حرب إقليمية.

الحسابات التركية:

بعيدًا عن البعد التاريخي، ثمة محددات وحسابات لمشاركة القوات التركية في عملية تحرير الموصل، يمكن تحديدها فيما يلي:

1- تركيا عضو في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، ومن قاعدة "إنجرليك" على أراضيها تنطلق طائرات التحالف لضرب مواقع "داعش" في سوريا والعراق. وعليه ترى أن مشاركتها في معركة تحرير الموصل حق طبيعي، خاصة وأن الأرقام تشير إلى أن عدد الدول التي ستشارك في هذه العملية بلغ 63 دولة. 

2- لتركيا حدود مع العراق بطول 350 كلم، وفي العراق أقلية تركمانية ترى تركيا أنها معنية بحمايتهم، وهي تخشى من أن تؤدي معركة تحرير الموصل إلى موجات نزوح إلى أراضيها.

3- في الوقت الذي ترفض فيه الحكومة المركزية العراقية أي مشاركة تركية، فإن أنقرة ترى أن موافقة حكومة إقليم كردستان، وقوات الحشد الوطني، وبعض القبائل العربية السنية، كافية لشرعنة مشاركتها، خاصة وأنها ترى أن هناك جملة مخاطر تحيط بالبنية الديمغرافية لهوية أهل الموصل بسبب مشاركة الحشد الشعبي.

4- تخشى تركيا من أن تؤدي مشاركة حزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب الكردي في معركة تحرير الموصل إلى سيطرة كردية على مناطق جديدة، لا سيما وأن هذه السيطرة قد تشكل جسرًا جغرافيًّا بين هذه المناطق والمناطق الكردية في سوريا، بما يعني استكمال مقومات الإقليم الكردي جغرافيًّا على حدودها الجنوبية، وهو ما ترفضه تركيا بالمطلق. ومن أجل ذلك أطلقت عملية "درع الفرات" في شمال سوريا.

5- ترى تركيا أن تحرير الموصل من دون مشاركتها سيكون نصرًا إقليميًّا لإيران على حسابها في العراق والمنطقة. ومعركة الموصل تثير خشية كبيرة لدى أنقرة من أن يؤدي تحرير الموصل إلى إيجاد جسر بري بين إيران والمناطق الخاضعة للنظام السوري عبر الأراضي العراقية. 

الحسابات العراقية:

في المقابل، فإن بغداد ترى أن اتفاقية أنقرة حسمت قضية السيادة العراقية على الموصل، وأن أنقرة اعترفت بالحدود الحالية للبلدين، وبالتالي فأي حديث عن دور تركي في الموصل بعيدًا عن الاتفاق مع بغداد هو اعتداء على السيادة العراقية، كما أن أي وجود عسكري تركي هناك هو احتلال لأراض عراقية. 

وبعيدًا عن عامل القانون الدولي المتعلق بالحفاظ على سيادة الدول، فإن موقف الحكومة العراقية الرافض لوجود قوات تركية على الأراضي العراقية يستند لعاملين مهمين.

يتعلق العامل الأول بالموقف الأمريكي الداعم لحكومة "العبادي"، واعتبارها الجهة المخولة بإشراك الدول والقوى في معركة الموصل، خاصةً وأن الإدارة الأمريكية أعلنت مرارًا أن القوات التركية الموجودة في قاعدة بعشيقة ليست جزءًا من قوات التحالف الدولي لتحرير الموصل. 

أما العامل الثاني فإنه يتصل بالتحالف الإيراني - العراقي الذي يشكل قوة دعم كبيرة لموقف بغداد. ويعكس الموقف العراقي الندي لتركيا السياسة الإيرانية في العراق والمنطقة.

تداعيات الخلاف على معركة الموصل:

أثار تفجر الخلاف بين بغداد وأنقرة، وتحوله إلى حرب إعلامية وسياسية ودبلوماسية وشخصية بين أردوغان والعبادي، المخاوف من أن يؤثر ذلك على معركة الموصل والخطط الحربية التي وضعت لتحرير المدينة، إذ لا يمكن تجاهل أن تركيا قوة ضاربة، ولها يد عسكرية عليا، وتملك العديد من الأوراق في العراق، وتحديدًا في شماله. فتركيا لديها علاقة ممتازة مع إقليم كردستان العراق برئاسة "مسعود البرزاني"، وكذلك مع قوات الحشد الوطني والقبائل العربية السنية والأقلية التركمانية. وتشير التقارير إلى أن تركيا دربت خلال الفترة الماضية ما بين ثمانية آلاف إلى عشرة آلاف عنصر تابعين لهذه القوات تحضيرًا لمعركة الموصل، وقد جهزت هذه القوات أساسًا لحكم منطقة شمال العراق في مرحلة ما بعد "داعش". 

وفي المقابل، ترى أنقرة أن سياسات الحكومة العراقية تكرس البعد الطائفي من خلال الاعتماد على ميليشيات الحشد الشعبي وسط حديث عن ارتكابها اعتداءات طائفية في الأنبار. 

يؤكد ما سبق الإشارة إلى حقيقة أن معركة الموصل مصيرية للسياسة الخارجية التركية تجاه سوريا والعراق. فمعركة الموصل بالنسبة للدول الإقليمية -لا سيما تركيا وإيران- لا تتعلق بتحرير المدينة من تنظيم "داعش" أو محاربة الإرهاب بقدر ما تتعلق بمرحلة ما بعد التحرير، وبمن سيحكم المدينة، وما هي الدول والقوى المستفيدة، وما هي الأدوار التي ستكرسها هذه المعركة على المستوى الإقليمي. 

وفي النهاية، ترى تركيا أن مشاركتها في هذه المعركة هي السبيل الوحيد لتثبيت حالة التوازن، سواء في الموصل أو على صعيد تنافسها مع إيران، أو لإعاقة مشاركة حزب العمال الكردستاني في هذه المعركة، نظرًا إلى أن مشاركته ستعطي شرعية دولية للحزب الذي يخوض مواجهات دموية مع الجيش التركي في جنوب شرق تركيا.

الحسابات التركية هذه لا تلقى قبولا لدى بغداد التي ترى في الإصرار التركي على المشاركة في معركة الموصل دون اتفاق معها سياسة تركية كسابقة لفرض أجندة خاصة على العراق، وهي أجندة في نظرها (بغداد) تحمل أطماعًا تركية تاريخية من جهة، ومن جهة ثانية محاولة لفرض قوى ترى أن الحكومة العراقية تمارس سياسة إقصائية ضدها لصالح طهران، وبغداد هنا تملك ورقة قوية تتمثل في هامش المناورة السياسية الواسعة، على اعتبار أن التدخل التركي دون الاتفاق معها يعد تدخلا في الشئون الداخلية العراقية واحتلالا لأراضيها، ولعل ما يدعم موقف العبادي جملة التصريحات الأمريكية التي تدعو أنقرة إلى الاتفاق مع الحكومة العراقية، لا سيما بخصوص القوات التركية الموجودة في قاعدة بعشيقة.

حدود التصعيد والسيناريوهات المفتوحة:

السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه هنا: إلى أين يمكن أن يصل التصعيد التركي - العراقي؟ وهل يمكن أن تتدخل تركيا عسكريًّا دون الاتفاق مع بغداد؟.

حتى الآن، لم تشارك تركيا فعليًّا في المعركة الدائرة الآن لتحرير الموصل، ومشاركة أنقرة في المعركة مرهون بالموقف النهائي للإدارة الأمريكية؛ إذ إن ثمة قناعة مشتركة لدى الطرفين (العراقي والتركي) بأن واشنطن في النهاية ستتدخل بقوة لحل هذا الخلاف المتصاعد، والعمل على التوصل إلى اتفاق يحدد القوى المشاركة في معركة الموصل وفق ترتيبات محددة، إذ من مصلحة الإدارة الأمريكية تأمين أكبر قدر من المشاركة في هذه المعركة، كي تكون حاسمة، خاصة مع قرب موعد الانتخابات الأمريكية في الثامن من نوفمبر المقبل. وعليه يمكن القول إن الخلاف التركي - العراقي أمام سيناريوهين.

السيناريو الأول: طرح الإدارة الأمريكية مبادرة تؤدي إلى اتفاق يحدد المشاركة التركية في معركة الموصل بالاتفاق مع الحكومة العراقية. ومثل هذا الاتفاق سيحدد طبيعة المشاركة التركية، ودورها في تنفيذ الخطط الموضوعة، والأسلحة التي ستستخدمها. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة العراقية ترفض أي مشاركة برية للقوات التركية، وهو ما يفتح الباب أمام مشاركة فعالة للقوى العراقية المتحالفة مع تركيا، خاصة أن مثل هذا الأمر يحظى بقبول عربي ودولي، حرصًا على ديمغرافية الموصل في مرحلة ما بعد التحرير. 

السيناريو الثاني: ينبع من فرضية فشل الإدارة الأمريكية في التوصل إلى اتفاق بين بغداد وأنقرة، وهو ما يوجه الأنظار إلى ما ستفعله تركيا. ومن الخيارات التركية في تلك الحالة تجميد تركيا مشاركتها في الحرب ضد "داعش" في سوريا والعراق، لا سيما أن لديها ورقة قوية تتمثل في إغلاق قاعدة إنجرليك أمام قوات التحالف الدولي في هذه الحرب.

خلاصة القول، ستسعى تركيا بشتى الطرق لأن تشارك في معركة تحرير الموصل، وما سيدعم مشاركتها أنها أقرب الدول جغرافيًّا إلى الموصل، ولن تكون معركة تحرير الموصل حاسمة بدون المشاركة التركية؛ لحاجة الولايات المتحدة لاستخدام قاعدتها العسكرية على أراضيها لحسم المعركة، ناهيك عن أن أنقرة حليف في حلف شمال الأطلنطي وشريك استراتيجي لواشنطن لا يمكن الاستغناء عنه رغم تباين واختلاف مواقفهما.